لطالما تناولنا في هذه السلسلة شعراء فلسطين في أواخر العهد العثماني، بصفتهم البذور التي أسست للنهضة الشعرية في فلسطين تجديداً وانتماءً لهذه الأرض وهذه القضية.
في هذا المقال، نقلة مختلفة عما سبق.
1 ـ أنه اشتُهر كأديب وليس كشاعر، علماً بأن له شعراً منتشراً في الكتب والمجلات. فهو أشبه بالعقاد أو طه حسين منه بشوقي وحافظ.
2 ـ أنه من المخضرمين الذين بدأوا في العصر العثماني وعاصروا البذور الذين ذكرناهم وعاصروا رواد النهضة الفلسطينية المعروفين. وكما نعلم، فإن البذور الأولى عاصرت رواد النهضة الأولى في مصر (البارودي، شوقي، وحافظ)، غير أن إسعاف عاصرهم وقابل شوقي وحافظ عدة مرات في زياراته المتكررة للقاهرة. فكان رأيه معتبراً في أوساطهم.
3 ـ شكل جماعة أدبية (سنأتي على ذكرها) سبقت الجماعة التي أصبحت رمز النهضة (إبراهيم طوقان، أبا سلمى، عبد الرحيم محمود، جلال زريق)، فكانت مجموعته الأدبية شبه سرية، بسبب كتاباتهم الوطنية، ما لبثت أن تم الكشف عنها لاحقاً.
ولد إسعاف النشاشيبي في القدس عام 1882م (1885م حسب الأعلام للزركلي)، لعائلة كريمة وميسورة وذات جاه ومال من جهة الأب ومن جهة الأم، ونشأ في عصر الكتاتيب ودروس الشيوخ، قبل المدارس والمناهج الحديثة، فتلقى العلوم على يد كبار الشيوخ، وما لبث أن صار يجالسهم عند أبيه وهم "يتقارضون الشعر ويتذاكرون الأدب ومسائل الفقه" في مجالسهم. وهذه جماعة أخرى تشكل مما يشبهها الكثير في فلسطين، إلا أنها لم تتخصص بالعربية وفنونها فقط، بل غلبت عليها العلوم الدينية.
ودرس النشاشيبي في مدرسة دار الحكمة في بيروت أربع سنوات على يد كبار اللغويين فيها، وودع مدرسته بقصيدة عصماء اهتم بها (قيل إنها مكتوبة بماء الذهب).
وكانت تجربته أشبه بتجربة العقاد، إذ لم يدرس سوى بضع سنوات، ثم علم نفسه بنفسه، وكتب الكتب والمصنفات وأبدع فيها بجهده الشخصي واجتهاده. حتى أصبح عضو المجمع العلمي العربي في دمشق. انفرد بأسلوب البيان حتى لقب "أديب العربية".
وبسبب حبه للغة العربية وانغماسه بها، ومخالفته رغبة والده الذي كان يطمع أن يرث ابنه أملاكه ويديرها وقد كتب له بعض أملاكه، عاقبه والده بحرمانه من رعايته وتمويله، فضاقت الدنيا بإسعاف حتى اضطر إلى بيع قطعة أرض ليصرف على نفسه وبيته. فثارت ثائرة والده، الذي لاحقه في شوارع القدس وأوعز للبوليس بإلقاء القبض عليه (تفاصيل القصة موجودة في كتب التربوي خليل السكاكيني)..
ولعل المرحلة الأبرز بحياته، عند صدور الدستور عام 1907، حين جاء الأديب حنا العيسى إلى القدس وأسس مجلة الأصمعي مع إسعاف وخليل السكاكيني، وكتب كل منهما أفكاره باسم مستعار وفقاً لولعه بشخصيات التراث، فكتب إسعاف فيها ووقع مقالاته باسم أبي الفضل (كنية بديع الزمان الهمذاني)، والسكاكيني باسم أبي الطيب (كنية المتنبي)، والعيسى باسم أبي سعيد (كنية الأصمعي).. وعُرفوا منذ ذلك الحين بهذه الأسماء التي حفرت مكانها في النهضة الفلسطينية.
كان إسعاف حسب الزركلي في الأعلام "عصبي المزاج، أبيّ النفس، حاضر البديهة، متقد الذهن". تخلى عن ثلاثة أمور بسبب شخصيته:
1 ـ عن أموال أبيه من أجل شغفه باللغة العربية.
2 ـ عن وظيفة مفتش عام في المعارف، بسبب قيد الوظيفة.
3 ـ عن الشعر، لاعتقاده كناقد أنه ليس من الطيقة الأولى من الشعراء، فتراجع عنه لمصلحة النقد والأدب.
أهم ما كتبه النشاشيبي هو كتاب (الإسلام الصحيح) الذي كان يقول عنه مداعباً: سيذهب كل أثر إلا الإسلام الصحيح! فقد قرأ من أجله 900 كتاب في مباحث متشعبة وعويصة. ونافح عن الإسلام وردّ على شبهات المبشرين.
وله من الكتب: نُقل الأديب ـ أمثال أبي تمام ـ قلب عربي وعقل أوروبي ـ التفاؤل والأثرية في كلام أبي العلاء المعري ـ حماسة النشاشيبي ـ جنة عدن ـ الأمة العربية.
حمل هذه الكتب الثلاثة الأخيرة معه إلى القاهرة في عام 1947 ليطبعها، وأقام في الفندق، واستقبل الزوار والمثقفين الذين جاؤوا ليستمعوا إليه، وبينما هو كذلك بين زملائه، في 22 كانون الثاني (يناير) 1948، ساءت حالته جداً فدخل غرفته ليرتاح، وسمعه عواده يقول: لعنة الله عليك يا ترومان.
مات إسعاف النشاشيبي وبقي في حي الشيخ جراح يربض قصر عريق ابتناه محمد إسعاف بن عثمان النشاشيبي عام 1340/1922، فغدا محجاً لكثير من الأدباء والمفكرين العرب.
نماذج من شعره
للنشاشيبي أشعار متنوعة، ركز فيها على الوطني مثل قصيدته عن العرب:
العرب مات شعورهم.. فاندبه دهرك باكيا
ولّى، فولّى بعده.. أنسي وساء مآليا
قد كنت أطمع أن أرى.. وطني بهيجاً زاهياً
فوجدته من كل علمٍ.. أو علاء خالياً
فرثيته وندبته.. وسكبتُ دمعاً غالية
*كاتب وشاعر فلسطيني
الأغنية الوطنية مقاومة ناعمة ساهمت في تشكيل الوعي الفلسطيني
الإعلامي حنا مقبل.. تصدى للرواية الصهيونية وسقط شهيداً
الشيخ يوسف شراب الحنفي.. فلسطيني في ثورة عرابي المصرية