بالرغم من قلة المعلومات الموجودة عن الشيخ يوسف شراب كشاعر، إلا أننا نعثر على أخباره موجودة في أكثر من مكان، أهمها المكان السياسي والديني ومقاومة الاستعمار البريطاني للمنطقة..
هو الشيخ يوسف بن سالم بن مقبل شرّاب الحنفي البصير بقلبه (وهي صفة كانت تطلق على العالم الضرير). ولد في خان يونس عام 1838، تربى في حجر والده في غزة وحفظ القرآن وأتقنه. ثم أخذ الطريقة الشاذلية اليشرطية عن الشيخ محمود سكيك. ارتحل عام 1863 إلى الأزهر الشريف في مصر، ودرس على يد كبار علمائه، ومنهم المفتي وشيخ الأزهر آنذاك، ومكث مجاوراً الأزهر تسع سنوات حتى صار من علمائه وتصدر التدريس فيه. وبقي يدرس في الأزهر حتى هبّت ثورة عرابي في مصر عام 1881.
قبض عليه الإنجليز مع مجموعة من العلماء والأعيان بتهمة الاشتراك بثورة عرابي ودعمها، فابتعد عن مصر وجاء مع عياله إلى غزة مرة أخرى وتصدر التدريس في الجامع العمري الكبير، وفي مدارس غزة. فاحتفى به أهل غزة وأقبلوا عليه، وعظم اعتقادهم فيه، وصار يعطي العهد والطريق الشاذلية كما جاء في كتاب الطباع "فأفاد واستفاد وانتفع الناس به، واشتهر فضله وارتفع ذكره"..
(نفتح قوساً هنا للحديث عن مساهمة أو تأثر الشعراء الفلسطينيين بثورة عرابي، وخصوصاً الذين تواصلوا مع خطيب الثورة الشيخ عبد الله النديم، سواء في مصر أو أثناء نفيه إلى يافا. فكرة تستحق عناء البحث والتدقيق لاحقاً).
وقد تطرق في قصيدته الطويلة "سيرة حياتي" إلى حكاية ثورة عرابي، وقد ذكره باسمه "أحمد"، فقال:
فأصبح الناسُ من ذا الحالِ في حرجٍ وطائرُ الغيظِ يشدو في صدورِهِمِ
وطارقُ النهْبِ في الأموال يطرقُهم من الأمير على عُنْفٍ لِسَلْبهمِ
وكِلْمةُ الكفرِ تعلو بين أظهرِهم تقودُ ساسَتَهم بالخُطْم واللُّجُمِ
فقام أحمدُ يحمي الدينَ مع نفرٍ باعوا النفوسَ على أثمانِ ربِّهمِ
وذكر صاحب الإتحاف أن شراب كان مقرباً من عرابي، ومن المهيّجين في الحركة العرابية.
ومن غزة رحل الشيخ إلى القدس عدة مرات وحجّ إلى مكة سنة 1319 ه. ثم أراد الرجوع إلى مصر، فانتهز فرصة زيارة الخديوي عباس إلى العريش القريبة من غزة، فتوجّه إليه ومدحه بقصيدة ألانت مواقف الخديوي ونوابه، فسمح له الخديوي بالعودة إلى مصر. وعاد إلى الأزهر عام 1904، وتوفي في القاهرة عام 1912.
صحيح أنه لم يكن من شعراء ثورة عرابي البارزين، إلا أن ما تناقله بعض أنصار الثورة ومريدي الشيخ حول انكشاف أمر تأييده للثورة من خلال قصيدة نُسبت إليه، يدعونا إلى المزيد من البحث في أمر شعره (كشعر وطني) والتعمق فيه وفي دور صاحبه، خصوصاً أنه لم ينشر ديواناً ولم يهتمّ لذلك.
ولم يهتم شيخنا شراب بجمع شعره، ولم يُصدر ديواناً له، وأبقى من شعره قصيدته الطويلة "سيرة حياتي" التي يحكي بها قصته ـ حسب معجم البابطين ـ قصيدة واحدة مطولة، ومقطوعة قصيرة يتحدث من خلالهما عن سيرته الذاتية، معبّراً عما مر به من أحداث؛ مولده، ومرباه، إلى انتسابه للطريقة الشاذلية، وما مرّ به إبان إقامته في مصر، وإبعاده عنها، وعودته إليها، يتمتع بنفس شعري طويل، ولغة ميسورة، وخيال نشيط، مع ميله إلى استثمار تقنية السرد الشعري. التزم عمود الشعر إطاراً في بناء قصائده.
وقد اشتهر مطلع قصيدته في أوساط الطريقة الشاذلية التي كانت منتشرة في فلسطين، وخصوصاً في قضاء عكا (ما زالت الزاوية الشاذلية اليشرطية قائمة حتى اليوم في عكا، وكاتب هذه السطور يتحدر من عائلة كانت تلتزم الطريقة الشاذلية اليشرطية، خصوصاً أننا من قرية تبعد عن عكا 16 كم فقط)، والقصيدة التي يمدح بها الطريقة، عارض فيها قصيدة البردة للبوصيري (أي نسج على نفس الوزن والقافية)، ويقول في مطلعها:
لا طابَ وقتٌ إذا حوَّلْتُ ملتزمِي ولا بقيتُ إذا عنكم أصونُ دمي
فإنَّني بكمُ من نشأتي ولكم وَهبتُني، وإليكم تنتمي نعمي
فداكَ روحيَ لا تتركْ ضعيفَ قوى عن قمْعِ شَهوتهِ في بطنِ مُلتَقِم
قُواه مقبوضةٌ عن بَسْطِ مقصَدِه ونفسُه حرَّةٌ مع رقَّة الكلِم
*كاتب وشاعر فلسطيني
"دير القديس هيلاريون".. واحد من أهم آثار تاريخ فلسطين في غزة
صناعة الطباعة وظهور المكتبات عريقة بفلسطين قبل نكبة 48
حيفا.. مدينة التوت والأرجوان تقاوم على جبل الكرمل