ما أن أعلنت إسرائيل عن وقف
إطلاق النار على قطاع غزة، من جانب واحد، حتى بدأت عجلة السياسة الدولية في التحرك
باتجاه المنطقة، وكان مدخلها الحديث عن تثبيت وقف النار، ولا أحد يعلم إلى ما
ستنتهي عليه، لكن المؤكد، هو أن ما كان عليه الحال من قبل، خلال السنوات الأربع
الماضية، على أقل مدى زمني، لن يبقى كما كان عليه، قبل اندلاع المواجهات بين الشعب
الفلسطيني في القدس ومدن الداخل المختلطة، ومن ثم اندلاع المواجهة العسكرية بين
إسرائيل والمقاومة العسكرية في قطاع غزة.
أول وأهم ما يمكن لحظه هنا، هو عودة الحوار
بين رام الله وواشنطن، حيث سارع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى
المنطقة، حيث زار المربع المحيط بالملف الفلسطيني/الإسرائيلي، أي كلا من تل أبيب
ورام الله، عمان والقاهرة، ومن ورائه كانت التظاهرات الشعبية، كذلك بيانات أعضاء
كثر في الكونغرس، تدفع باتجاه تحويل الموقف الأمريكي بإدارة جو بايدن، الذي عدل من
الموقف السياسي لواشنطن تجاه الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، من القول إلى الفعل،
وحيث أن مهمة بلينكن التي أعلن عنها، هي تثبيت وقف إطلاق النار، وذلك للإيحاء
للعالم وللأمريكيين أنفسهم بدور الإدارة الأمريكية مع الشريك المصري، في التوصل
لوقف النار، فإنه يمكن القول بأن المهمة نجحت عمليا، لكن ما بعد ذلك هو الأهم.
حقيقة الأمر أن الضغط الأمريكي على إسرائيل،
والذي جاء ناجما عن الضغط الشعبي والسياسي من داخل اتجاهات فاعلة في الحزب
الديمقراطي، وكذلك من مدن العالم بأسره، كان سببا في قطع الطريق على التطرف
الإسرائيلي الذي كان عليه الكابينت، من الاستمرار بالحرب على غزة، وقتا أطول مما
حدث فعلا، لذا لم يسمح لنتنياهو ومعه بيني غانتس، ووزراء اليمين بالدخول في حوارات
كانت عادة تطيل أمد الحرب، بحجة البحث في اتفاق تهدئة !
لابد من الإشارة هنا، إلى أن الطبيعة الشخصية
للرئيس الأمريكي، تسم إلى حد كبير، المواقف السياسية لإدارته، والتي تتسم بالهدوء
والتريث، وتبتعد عن المواقف الصاخبة، والتي كانت تفضل الاكتفاء بإعلان تعديل
الموقف تجاه الطرف الفلسطيني، دون التراجع الفعلي عن الانحياز للجانب الإسرائيلي،
وبالتحديد الانتظار طويلا، دون الدخول للملف السياسي، والاكتفاء بإعادة الدعم
المالي للسلطة، وفتح قنوات الاتصال معها، دون الدخول في الملف السياسي ومن ثم
الحل، لكن المواجهة التي دفعت إليها حكومة نتنياهو ومشاكل إسرائيل الداخلية، كذلك
رغبة إسرائيل بتعويض الإخفاق مع واشنطن فيما يخص الملف الإيراني، حركت الأمور،
بحيث أجبرت إدارة بايدن على الدخول في الملف دون رغبتها، أو على الأقل بأسرع مما
كانت تنوي فعله أو تريده.
لا يمكن القول اليوم بأن الإدارة الأمريكية،
قد شرعت فعلا في إطلاق العملية السياسية، بين فلسطين وإسرائيل، لكن ذلك مرهون
بالحراك الدولي والإقليمي، فهناك موسكو التي تضغط باتجاه ملء الفراغ، في حال واصلت
واشنطن التردد، وموسكو ما زالت تدعو الأطراف إليها وتنتظر الموافقة الإسرائيلية
لعقد مؤتمر سياسي حول الملف، لكن مع ذلك يمكن القول بأن ما أعلنه بلينكن عن إعادة
فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، يعتبر أهم ما جاء في زيارته الأولى
للمنطقة، فهي تعتبر تتويجا لطي صفحة صفقة القرن، وإعلان الرئيس السابق دونالد
ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
فالقنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، هي
بمثابة سفارة أمريكية في عاصمة دولة فلسطين، وواضح أن الاندفاع الإسرائيلي
باستخدام كل أدواته من مجموعات الاستيطان، لما يسمى بالقضاء، للسيطرة على القدس
واحتوائها، ما هو إلا محاولة لتثبيت إعلان ترامب على الأرض، وإخراج القدس من على
طاولة التفاوض ومن ثم الحل النهائي، حيث لابد أن يجيء يوم يجري فيه التفاوض على
الحل النهائي، طال الزمان أم قصر.
وإدارة بايدن ومنذ يومها الأول وهي تقول بحل
الدولتين، لذا فإنه مجرد أن تلتقي الأطراف حول طاولة التفاوض، سيكون ذلك إطارا
للمفاوضات، والمهم هو عدم السماح لإسرائيل بالتهرب من التفاوض أولا، ومن الحل
ثانيا، وهكذا تبدو معركة القدس، هي معركة مفترق الطرق، وهي مفتاح الحل، كما كانت
صاعق التفجير، وحتى لا تكون فلسطين، أمام أحد خيارين إسرائيليين أحلاهما مر: إما
الدخول في تفاوض دون أن يشمل القدس، أو بقاء الحال على ما هو عليه، فإنه لا بد من
الإصرار على مواجهة الهجوم الإسرائيلي متعدد المستويات على القدس بكل مكوناتها
الدينية والمدنية.
ولعل زيارة وزير الخارجية البريطانية
المفاجئة، والتي جاءت في أعقاب زيارة الوزير الأمريكي، ما يعني دعم الجهد الأمريكي
نفسه، حتى لا يكون بمثابة حدث عابر، ولندن بدورها تواجه ضغطا داخليا، لا يقل كثيرا
عما تواجهه واشنطن، وقد يعني ذلك شيئين، هما: أولا دعم السلطة الفلسطينية سياسيا
وماليا، لمنع الانهيار السياسي، كما كانت تسعى حكومات اليمين الإسرائيلي، كذلك فتح
الأفق لإعمار حقيقي لقطاع غزة، توطئة لعودته للشرعية الفلسطينية، حيث لا بد من
إتمام هذه الخطوة، عشية التوصل للحل النهائي.
هنا لابد من القول بأن ما هو ناقص من اكتمال
الصورة، هو الضلع الإسرائيلي، فبعد أن أخذت إسرائيل وقتها في محاولة فرض الحل من
جانب واحد، أي منذ عام 2014 وحتى الآن، وبما أبقى على فتيل التوتر قائما، لا بد من
عودة الاهتمام الدولي بهذا الملف، بعد أن تمت التغطية عليه بسبب ملفات إقليمية
عديدة، لذا لا بد أن يكون الجانب الإسرائيلي جاهزا، ولهذا نظن بأن اكتمال عناصر
التفاوض، ينتظر تشكيل حكومة إسرائيلية مستقرة، ويكفي هنا أن لا تكون برئاسة
نتنياهو، فإن نجح لابيد بتشكيلها، فإن الطريق سيكون مفتوحا لها، وإلا فانتظار أشهر
أخرى، سيكون قد فرض نفسه على الجميع، ومن المهم في كل الأحوال، وضع الحد للوهم
الإسرائيلي الخاص بالقدس، من خلال مواجهة إجراءات التهويد ميدانيا، والتي تجري على
قدم وساق، كذلك الدفع بسرعة بالقرار الأمريكي بفتح قنصليتها في القدس الشرقية، حتى
يتبدد آخر وهم إسرائيلي ما زال يتشبث بإعلان ترامب سيئ الذكر.