قضايا وآراء

المواجهة الشاملة مع الاحتلال وقدرتها على عرقلة مشاريع التهويد

1300x600
شهدت فلسطين في الأسابيع الماضية واحدةً من أبرز المواجهات الشاملة التي خاضها الفلسطينيون مع الاحتلال في العقود القليلة الماضية، فلم تكن معركة "سيف القُدس" ومعها المواجهات في المناطق المحتلة عام 48، وما شهدته ساحات المسجد الأقصى المبارك وأزقة البلدة القديمة، إلا أجزاء من مشهدية عظيمة سطر فيها الفلسطينيون ملحمة من مصاولة الاحتلال، وتكبيده الخسائر المختلفة، بل أعادت إلى الفلسطينيين آمال التحرير، وأن هذه المعركة الشاملة صورةٌ مصغرة عن معارك التحرير القادمة، مهما طال الزمن أو قصر.

وفي سياق قراءة سلوك الاحتلال خلال المواجهة الشاملة في الأسابيع الماضية، نسلط الضوء في هذا المقال على واحدٍ من المبادئ التي أصبحت ماثلة في تطورات الأحداث في فلسطين بشكلٍ مستمرّ، خاصةً مع أي مواجهة مع الاحتلال تجري في القدس المحتلة، أو في المناطق الفلسطينية الأخرى، ألا وهو تراجع خطط التهويد وغيابها التام عن ساحة الفعل الإسرائيلي. فأي انشغالٍ للاحتلال وأذرعه التهويديّة المختلفة، ينعكس في تراجع استهداف المسجد الأقصى، وهدم منازل الفلسطينيين، مع ارتفاع الاستهداف في جوانب الاعتقال واستهداف الوجود المباشر بشكلٍ وحشيّ، وهي صورةٌ تؤكد أن إشغال الاحتلال على جبهاتٍ متعددة، تُضعف من قدرته على متابعة خطط التهويد، وترفع من ثمن استمرارها.

فعلى إثر انطلاق معركة "سيف القدس"، بدأت مكاسب المواجهة الفلسطينية الشاملة تظهر تباعاً، فقد منعت شرطة الاحتلال اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى التي كانت مقررة في 16 أيار/ مايو 2021. وكانت "منظمات المعبد" قد أطلقت في وقتٍ سابق دعواتٍ إلى أنصارها وجمهور المستوطنين، لاقتحام المسجد الأقصى بمناسبة "عيد الأسابيع/ الشفوعوت". وفي سياق الترويج لهذا الاقتحام، نشر مدير مؤسسة "تراث المعبد"، المتطرف تومي نيساني، رسالةً على صفحته في فيسبوك، يروج فيها لاقتحام المسجد الأقصى، بالتزامن مع "عيد الأسابيع"، جاء فيها: "صباح غد الأحد، فإن جبل المعبد يفترض أن يفتح لدخول اليهود، لا يوجد رمضان الآن! لا يوجد أعذار... أتمنى حقيقةً أن لا أرى استسلاماً آخر غداً".

ولم يقف الترويج عند الدعوة المكتوبة فقط، بل حملت رسالة عن استخدام العنف في وجه الثبات الفلسطيني. ففي 14 أيار/ مايو 2021 نشر الناطق باسم "اتحاد منظمات المعبد"، آساف فريد، صورةً له وهو يحمل السلاح مع مجموعة من عتاة المتطرفين في مدينة اللد المحتلة، وتضمن المنشور دعوة للمستوطنين لحشد أكبر أعدادٍ ممكنة لاقتحام المسجد الأقصى ما بين 16 و18 أيار/ مايو 2021.

وعلى الرغم من هذا الزخم الكبير لتحقيق اقتحامات كبيرة للأقصى، في محاولة لتجاوز فشل الاحتلال في اقتحام 28 رمضان، لم تستطع "منظمات المعبد" المضي في الاقتحام، بسبب إغلاق قوات الاحتلال باب المغاربة في وجه المستوطنين، خوفاً من تطور الأحداث في القدس المحتلة، وباقي الأراضي الفلسطينية. وبحسب وسائل إعلام عبرية، منعت سلطات الاحتلال الاقتحام خوفاً من اندلاع مواجهات في المدينة المحتلة، ومن تصعيد المقاومة ضرباتها الصاروخية نحو المدن المحتلة. وأغضب القرار "منظمات المعبد"، وطالبوا سلطات الاحتلال بالسماح لهم باقتحامه، واصفين إغلاق المسجد الأقصى بأنه "جائزة ومكافأة للإرهاب".

وعادت اقتحامات المسجد الأقصى في 23 أيار/ مايو 2021، بعد منعها لنحو 19 يوماً. وأشار متابعون للشأن المقدسي، إلى أن إعادة فتح الاحتلال باب الاقتحامات جاء في سياق محاولة الالتفاف على نصر المقاومين في غزة، وعدم قبوله بأن يكون الأقصى وأن تكون القدس من ضمن أي اتفاقية للتهدئة مع المقاومة، وهذا  ما وصف بأنه قفزة للأمام ليتجاوز الاحتلال نتائج المعركة البطولية في غزة، وليحاول إعادة الأوضاع في القدس المحتلة إلى المربع الأول، وأن المواجهة الماضية كانت محطة عابرة سيتم تجاوزها، عبر عودة الاقتحامات إلى الأقصى بشكلٍ شبه يوميّ، وما يتصل من مشاريع لتهويد المدينة المحتلة.

ولم تعرقل الهبة الشاملة اقتحامات المسجد الأقصى فقط، بل غابت الكثير من الممارسات التهويدية عن المدينة المحتلة، خاصة تلك المرتبطة باقتحام الأحياء وهدم منازل الفلسطينيين، نتيجة انفجار مئات نقاط المواجهة في القدس المحتلة وفي مجمل المناطق الفلسطينية المحتلة. ومما يؤكد حجم المواجهات مع الاحتلال تقريرٌ خاص برصد المواجهات مع الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة، أشار إلى أن يوم الجمعة الموافق لـ15 أيار/ مايو 2021 شهد نحو 556 عملاً ضد الاحتلال. وبحسب التقرير بلغ عدد العمليات منذ بداية شهر أيار/ مايو حتى 15 أيار/ مايو 2021 نحو 1526 عملية منوعة، ما بين عمليات إطلاق نار والطعن والدهس، وإلقاء العبوات الناسفة وغيرها، وهي إحصائية للضفة الغربية المحتلة بما فيها مدينة القدس. وقد شهدت المناطق المحتلة عام 1948 مواجهات عنيفة، لا تقل أهمية وأثراً عن حالة المواجهة في الضفة الغربية.

أخيراً، تؤكد مُجريات الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن المواجهة مع الاحتلال، والالتحام المباشر معه بمختلف الطرق المتاحة، وبمختلف الأساليب الممكنة، هي الأداة الأكثر نجاعة لردع الاحتلال، وإيقاف مشاريع التهويد المتمددة، وهي بُشريات لا يمكن التغافل عنها بعد ما جرى في الأراضي المحتلة في الأسابيع الماضية، وخصوصاً أن الملحمة في غزة والصمود البطولي في الأقصى، وانتفاضة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48، كرّست أن الاحتلال يضطر إلى التراجع عن مشاريعه وخططه أمام هبّة الفلسطينيين، وهي نتيجة كرسها المقدسيون في السنوات الماضية في هبّة البوابات الإلكترونية، وهبّة باب الرحمة وهبّة باب العمود.

بل لقد أنتجت المواجهة الحالية حالة جديدة من الردع، شاركت فيها المقاومة الفلسطينية بشكلٍ مباشر وفاعل، لا يمكنها أن تعرقل الاحتلال فقط، بل ستصبح قادرة على الوقوف في وجهه والوصول إلى النقطة الزمنية التي تفتح كوة في تنزيل التحرير على أرض الواقع، وأن الأدوات الفلسطينية المستخدمة في المعركة، إن كانت شعبية أو عسكرية، ستشكل أجزاء أساسية في تحرير الأرض الفلسطينية، كل الأرض الفلسطينية.