من خلال حكاية عائلة فلسطينية تعاني الأمرين تحت الاحتلال الإسرائيلي، يسلط الكاتب الصحفي الأمريكي نيثان ثرول، في هذا المقال الطويل، الضوء على صمود الشعب الفلسطيني في وجه مشروع صهيوني عنصري اعتمد السلب والنهب والتهجير وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية منذ اليوم الأول.
بالإضافة إلى قصة العائلة الفلسطينية، يقدم الكاتب معلومات بالغة الأهمية وخلفيات تاريخية عن تهجير الفلسطينيين وتفتيتهم بشكل ممنهج من قبل الاحتلال، بهدف ضمان التفوق الديمغرافي لليهود في أرض فلسطين التاريخية.
وتنشر "عربي21" المقال على 8 حلقات، وتقدم لقرائها هذه الترجمة غير الرسمية للمقال، الذي نشر أول مرة باللغة الإنجليزية في "ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس"
طالع الجزء الأول: حكاية عبد سلامة.. تقرير عن معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج1
طالع الجزء الثاني: حكاية عبد سلامة.. تقرير عن معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج2
طالع الجزء الثالث: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج3
طالع الجزء الرابع: تقرير خطير عن فصول عنصرية الاحتلال تجاه الفلسطينيين ج4
طالع الجزء الخامس: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج5
طالع الجزء السادس: حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج6
طالع الجزء السابع: حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج7
وفيما يلي الجزء الثامن وهو الأخير:
يوم في حياة عبد سلامة
حكاية رجل يبحث عن ابنه تسلط الضوء على واقع الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال
الإسرائيلي
أصيب ستة
وأربعون من الأطفال بجراح في حادثة التصادم، اثنان منهم خرجوا بتشوهات بليغة. أفاد
والد طفلة في الخامسة من عمرها، واسمها تالا، بأنها فقدت أنفها وأذنها ورموش
عينيها في الحريق، وأنها تعتمد على جهاز للتنفس، وترفض مغادرة البيت لأن شكلها يرعب
الأطفال الآخرين. عندما بدأت جلسات المحاكمة، كانت قد أجريت لها مائة عملية جراحية
تقريبا، وكان مازال أمامها المزيد. أما سائق الحافلة، فكان لا بد من بتر ساقيه، كما
أنه تعرض لنوبة قلبية وسكتة دماغية. وأما سائق الشاحنة، قيقس، فأصيب بكسر في
فقرتين، ولكنه خرج من المستشفى في اليوم التالي للحادث. جميع القتلى، المدرس
والأطفال الستة، كانوا جميعا من سكان القدس فيما عدا ميلاد. وكان الطفل السادس قد
لقي حتفه متأثرا بجراحه بعد عدة أيام من الحادث.
سيارات الطوارئ
في موقع التصادم على الطريق بين نقطتي تفتيش قلنديا وجبعة، الضفة الغربية، 16
فبراير / شباط 2012
شكلت
عائلات الضحايا من قتلى وجرحى لجنة اختير عبد ليكون رئيسا لها. وجهت اللجنة معظم
طاقتها وغضبها باتجاه ثلاثة كيانات اعتبرتها مسؤولة بدرجة ما: المدرسة، التي أرسلت
الأطفال في حافلة قديمة وغير آمنة ولم تكن مرخصة للقيام برحلات مدرسية، وهيئة تقصي
الحقائق التابعة للسلطة الفلسطينية، التي لم تجتمع مع أي من عائلات الضحايا، واتهمت بالتستر على إهمال المدرسة والوزارات، ووزارة التعليم الفلسطينية لإهمالها
وعدم مراقبتها ومتابعتها للمدارس الخاصة، حيث كشف تقرير هيئة تقصي الحقائق، عن أن
تسعين بالمائة من هذه المدارس لا يتقيد بتعليمات السلامة الخاصة بالنقل. تظهر في
بوست على صفحة الفيسبوك التابعة للجنة أولياء الأمور صورة لشيك بقيمة ألف دولار، مقدم من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لعائلة إحدى الضحايا، وعليه التعليق
التالي: "إنهم يفهمون قيمة أطفالنا ... يجب عليهم أن يفتحوا تحقيقا كاملا ومحايدا لتصحيح الأمور".
وُجه
انتقاد لصحيفة القدس الفلسطينية لأنها رفضت نشر رد اللجنة على تقرير هيئة تقصي
الحقائق، مما اضطر المجموعة إلى نشره على صفحتها في فيسبوك. وقالت اللجنة مخاطبة
رئيس الوزراء في السلطة الفلسطينية سلام فياض: "لن نسمح لك بالمتاجرة بدم
ومعاناة أطفالنا لتقتلهم مرتين". في مكان آخر داخل الصفحة، وُجه لفياض اتهام
بأنه لم يكن يصغي لهموم الناس في القدس، وقام بدلا من ذلك باستخدام زيارة نادرة
سمح له بها الإسرائيليون إلى مدينة القدس، لكي يسجل رقما في موسوعة غينيس للأرقام
القياسية عن "أطول مائدة من الأطعمة الطبيعية والعضوية". كما وُجهت انتقادات
أخرى لسياسيين حضروا للمشاركة في حفل تأبين عند نصب تذكاري أقيم على الحائط الصخري
لموقع التصادم: "صور تذكارية على حساب أرواح أطفالنا".
ما تُرك
بدون ذكر هو الانتقادات التي توجه إلى السياسات التي لا يملك لا أولياء الأمور ولا
السياسيون القدرة على تغييرها. إنها السياسات التي تعامل الفلسطينيين الذين يقيمون
في القدس بإهمال شديد، لدرجة أنهم يجبرون على إرسال أطفالهم إلى مدرسة خاصة خارج
الحدود البلدية للمدينة، في الضفة الغربية، تحت الرقابة السيئة للسلطة الفلسطينية،
حيث تستخدم المدرسة حافلة غير مؤهلة لنقل تلاميذ الروضة. إنها السياسات التي تقضي
بعدم جواز تنظيم الرحلة المدرسية داخل القدس؛ لأن إسرائيل أقامت جدارا يلتف حول حاملي بطاقات الهوية الخضراء والزرقاء على حد سواء -وعادة ما يكونون أعضاء في العائلة نفسها أو طلابا في المدرسة نفسها–، ولم تسمح إلا لحملة بطاقات الهوية الزرقاء بعبور نقاط التفتيش.
إنها السياسات التي تمنع خدمات الإسعاف والنجدة من الوصول في الوقت المناسب.
نظرا لأنه لا يحمل بطاقة هوية زرقاء كباقي أولياء الأمور، لم يحصل عبد على تعويض من
إسرائيل بعد الحادث، وقال لي عن ذلك؛ "إنهم الأطفال نفسهم، من المجتمع نفسه، في الحافلة نفسها، ومع المدرسين نفسهم. ولكنني لم أتلق شيئا من إسرائيل، فقط بسبب لون
بطاقة هويتي". بعد أن تقدم بطلب للحصول على تعويضات من صندوق الحكومة
الإسرائيلية لضحايا حوادث الطرق، تلقى خطابا جاء فيه أن طلبه قد رفض؛ لأن الحادث
وقع في مكان داخل منطقة جيم. ويحدد القانون الذي يحكم الصندوق أن من يُصدمون
بسيارات إسرائيلية، يجب أن يعوضوا حتى لو ضُربوا داخل مناطق فلسطينية
-على سبيل
المثال في المركز من رام الله – ولكن فقط فيما لو كان الضحايا إسرائيليين أو
سياحا. ولا يحق للفلسطينيين الذين يحملون بطاقات هوية خضراء المطالبة بذلك. على
الطرق في المنطقة جيم، يتلقى السائقون الفلسطينيون والإسرائيليون مخالفات من الشرطة الإسرائيلية نفسها، إلا أن الفلسطينيين إذا دعوا للمثول أمام المحاكم، فإنهم يمثلون
أمام محاكم عسكرية، بينما يمثل الإسرائيليون أمام محاكم مدنية.
سخر
عبد من فكرة أن أي طرف فيما عدا إسرائيل يتحمل المسؤولية عن الطرق في منطقة جيم.
في يوم الحادث أجبرت شرطة السلطة الفلسطينية على طلب إذن إسرائيلي حتى تتمكن من الانتقال
إلى الموقع، ولم يحصلوا على التصريح إلا بعد ساعتين من حدوث التصادم. وعلى هذا
المنوال، في الأيام التالية، اضطر عبد إلى التوجه إلى رام الله لتقديم إفادة أمام
شرطة السلطة الفلسطينية؛ لأن السلطة لا بد أن تطلب إذنا قبل أيام من استخدام طرق
المنطقة جيم حتى تصل إلى عناتا. وعن ذلك قال عبد: "تصدر الشرطة الإسرائيلية
مخالفات على الطريق، والحكومة الإسرائيلية هي من أوجد ذلك الطريق. وههنا سائق يحمل
رخصة إسرائيلية ويقود عربة إسرائيلية يصدم الحافلة على ذلك الطريق. إذن، كيف لا
تكون إسرائيل مسؤولة عما يحدث فيه؟"
بعد سنة
تقريبا من جنازة عبد، أصيب ابن شقيق له عمره ثمانية شهور، ولد بعد شهور من
الحادث، من حرارة مرتفعة وتوفي. وكان ميلاد قد دفن في جزء من المقبرة كان محجوزا لعائلة الطفل المتوفى؛ لأن عبد لم يكن يملك قطعة أرض خاصة به. والآن تريد عائلة
الطفل دفنه في المكان نفسه الذي دفن فيه ميلاد. في البداية لم ترق الفكرة لعبد،
ولكن ما لبث أن رأى في ذلك فرصة حتى يتمكن أخيرا من لم شمله على ميلاد.
فتحت
العائلة القبر، وقبل دفن الرضيع، تركوا عبد وأتاحوا له فرصة ليختلي بميلاد، وهي
الفرصة التي لم تتح له في المستشفى أو في عربة الإسعاف قبل سنة مضت. صمت للحظة،
ورمق التربة والكفن الأبيض، ورفات ميلاد الذي كان بداخله، ثم نزل إلى القبر وألقى
تحية الوداع على نجله.
ميلاد سلامة مع شقيقه الأكبر آدم (2009)/ عبد سلامة
(11)
في
السنوات التي تلقت الحادث، حققت لجنة العائلات بعض النجاحات القليلة، فقد جمعت من
المال ما ساعد في سداد جزء من تكاليف العمليات الجراحية والعلاجات للفتاتين اللتين
أصيبتا بأشد الحروق. وأخيرا، حصلت عناتا على عربة إطفاء خاصة بها. وأنفقت يو إس
إيد (العون الأمريكي)، وكالة المساعدات الخارجية التابعة لحكومة الولايات المتحدة،
أكثر من أربعة ملايين دولار على تحديث شوارع عناتا وتحسين سلامة الطرق في المنطقة
التي وقع فيها الحادث. وبات الطريق الآن مجهزا بفاصل في المنتصف.
في أدبيات
ومواد العلاقات العامة والبيانات الصحفية التي تصدر عنها، تتباهى إسرائيل
بالمشاريع التي تروج لها، وذلك يسمح للحكومة الأمريكية والمانحين الدوليين
الآخرين بتمويل تلك المشاريع، طالما أنها تنسجم مع خطط إسرائيل الاستيطانية على
المدى البعيد. فقد عبدت وكالة يو إس إيد في عام 2010 ما يقرب من 236 ميلا من
الطرق في الضفة الغربية ما بين 1999 و 2010، واستمرت في تمويل صيانة الطرق وتحسينها على
مدى العقد التالي.
كثير
من المشاريع التي تمولها الولايات المتحدة في الضفة الغربية تتركز في تحديث الطرق
الرئيسية التي تخدم المستوطنين أيضا، فالطريق الذي وقع فيه حادث التصادم، على
سبيل المثال، في منطقة جيم لا يقتصر استخدامه على شرطة المرور الإسرائيلية، بل وتعبر
فوقه كذلك شاحنات المستوطنين وعربات الجيش التي تنتقل جيئة وذهابا إلى القاعدة
العسكرية المجاورة. كما دفعت يو إس إيد من أجل تحديث البنية التحتية وتحسينها في
نقطة تفتيش جلامة بالقرب من جنين. وتنص خطة رئيسية رسمية للحكومة الإسرائيلية،
فإن منظومة الطرق المنفصلة في الضفة الغربية – طرق المستوطنات التي أنشئت من أجل
"تجاوز مراكز التجمعات السكانية العربية،" والطرق السفلية المسيجة التي
تستخدمها القرى الفلسطينية التي حالت إسرائيل بينها وبين الوصول إلى الطريق
الرئيسي، حتى تخفف من زحمة السير على المستوطنين– تسمى شبكة الطرق الالتفافية
للمستوطنين وطرق نسيج الحياة للفلسطينيين. ولكن بين الأصدقاء يمكن للمسؤولين
الإسرائيليين أن يكونوا أكثر صراحة. ففي برقية مسربة من برقيات وزارة الخارجية
الأمريكية حول اجتماع جرى في عام 2006 بين مسؤولين إسرائيليين والسفير الأمريكي في
إسرائيل، أشار نائب وزير الدفاع الإسرائيلي إفراييم سنيه ومستشار وزير الدفاع عمير
بيريتز كلاهما إليها بعبارة "طرق الأبارتيد".
ذات
يوم في السنوات الأولى من احتلال إسرائيل للضفة الغربية، زار القدس مسؤول في نظام
الأبارتايد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا، حيث التقى بنائب عمدة المدينة ميرون
بنفنستي وبمستشار لوزير الدفاع آنذاك موشيه دايان. يقول بنفنستي متذكرا ذلك
اللقاء: "في أثناء الغداء، ناقشنا عملنا، وأبدى الزائر اهتماما كبيرا في
أفكارنا حول كيف نحسن العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، من خلال ترك الفلسطينيين
وحدهم ليديروا شؤونهم بأنفسهم. وفجأة قال: كيف سيكون ردكم لو دعوناكم لتشيروا
برأيكم وخبرتكم على النظام الجديد في ترانسكي؟ مشيرا بذلك إلى واحدة من البانتوستانات
في جنوب أفريقيا، التي كما هو حال تلك المناطق من الضفة الغربية التي تديرها
السلطة الفلسطينية، تتشكل من قطع منفصلة من الأرض يُمنح داخلها سكان البلاد
الأصليون حكما ذاتيا محدودا، ويجرون انتخابات خاصة بهم، ولديهم برلمانهم وجهازهم
الوظيفي وعلمهم".
مضى
بنفنستي يشرح ما حصل قائلا: "صُدمنا بما قال. فاستفساره أوحى بأنه كان يعتبر
عملنا نحن مشابها لمخططاتهم الرجعية والعنصرية في البانتوستانات. وعندما عبرنا عن
امتعاضنا، ابتسم وقال: أتفهم رد فعلكم، ولكن ألسنا في الواقع نعمل الشيء نفسه؟ نحن
وأنتم نواجه نفس المشكلة الوجودية نفسها ، ولذلك وصلنا إلى الحل نفسه".
في
الدوائر الإسرائيلية الليبرالية المناهضة للاستيطان، كثيرا ما يتم التأكيد أن
الاحتلال مفسدة رهيبة، وانحراف عن قيم الديمقراطية التي كانت سائدة خلال أول تسعة
عشر عاما من حياة الدولة. ولكن في حقيقة الأمر، كانت تلك السنوات بمنزلة النموذج
الذي يحتذى في ممارسة العزل ومصادرة الأراضي والهيمنة العرقية، ووجود أنظمة قانونية
منفصلة لليهود وللفلسطينيين، تتجسد اليوم فيما هو حاصل في التعامل مع الضفة
الغربية. طوال أكثر من اثنين وسبعين عاما من وجود الدولة، لم تمر سوى سبعة شهور
لم تضع فيها إسرائيل معظم سكان البلاد الأصليين تحت الحكم العسكري، بينما مضت تصادر
أراضيهم وتحرمهم من حقوقهم المدنية الأساسية.
منذ
عام 1967، تعتمد السياسة الإسرائيلة إجبار من يرزحون تحت احتلالها على تكبد ثمن هذا
الاحتلال، وبالدرجة الأولى من خلال جبي الضرائب منهم (وكذلك من خلال استخراج
إسرائيل الموارد الطبيعية والاستئثار بها). تنص خطة الجيش الإسرائيلي المعروفة باسم "المبادئ
التشغيلية للمناطق المدارة"، التي نشرت بعيد الحرب، على أن "اقتصاد
المناطق المدارة ينبغي أن يكون عبؤه على الميزانية الإسرائيلية أقل ما يمكن". واليوم، يتم تمويل تكلفة الاحتلال الإسرائيلي من قبل الولايات المتحدة، ليس فقط من
خلال مبلغ 3.8 مليار دولار التي تعطيها الولايات المتحدة لإسرائيل كل عام، ولكن
أيضا من خلال مشاريع البنية التحتية في الضفة الغربية التي تسدد تكاليفها من خلال
ميزانية منفصلة لوكالة يو إس إيد. من المفروض في الظاهر أن هذا ينفق لأغراض التنمية
الفلسطينية، أما عمليا، فهو يعني أن دافعي الضرائب في الولايات المتحدة يمولون البنية
التحتية لنظام الفصل العرقي في المناطق التي تعمل إسرائيل باستمرار على استعمارها.
في عام 2013، تلك السنة التي قامت فيها وكالة يو إس إيد بتحديث طريق جبعة في منطقة
جيم، أنفقت الوكالة 440 مليون دولار في المناطق المحتلة، منها 50 مليون دولار على
البنى التحتية. وفي تلك السنة نفسها، قدمت الولايات المتحدة 3.4 مليار دولار إضافية
للجيش الإسرائيلي.
في أثناء
حملة الانتخابات الرئاسية في عام 2020، قال جو بايدن مرارا وتكرارا؛ إن
"الصمت تواطؤ". ولكن من المؤكد أن بايدن حينما قال ذلك لم يكن يفكر
بإسرائيل/ فلسطين، وذلك أنه في حالة الهيمنة العرقية التي تمارسها إسرائيل على
الفلسطينيين، لا يقتصر الأمر على تواطؤ الولايات المتحدة من خلال الصمت، بل هي
مشاركة في الاحتلال.
(12)
بعد
الحادث بعدة سنوات، عندما كان عبد يعمل سائقا لسيارة أجرة، أقل ذات مرة أمّا
وأطفالها، أرادوا التوجه من رام الله إلى منزلهم في مخيم شعفاط للاجئين. وعندما
اقتربوا من موقع الحادث في طريق جبعة، تلا عبد سورة الفاتحة. من موقعها في المقعد
الخلفي قالت الأم: "رحمهم الله." استغرب عبد، وسألها: "هل تعرفين
عن الحادث؟" قالت إن ابنها الجالس إلى جانبها في سيارة الأجرة كان من بين
التلاميذ الذين كانوا في الحافلة في ذلك اليوم. أصر عبد على أن ترافقه العائلة إلى
بيته لتناول الغداء معا في الحال. مروا بمدرسة ميلاد، التي يأتي إليها عبد كل
سنة في ذكرى حادث التصادم ويجلب معه بيضات كيندر، يوزعها على التلاميذ في الفصل
الذي كان ميلاد يوما يجلس فيه. توقف عبد أمام محل تجاري واشترى منه هدية قدمها
لزميل ميلاد السابق. وحينما وصلوا إلى البيت، استجمع عبد من الشجاعة ما مكنه من أن
يسأل الغلام ما إذا كان يتذكر شيئا عن ميلاد في ذلك اليوم. فقال الغلام؛ إنه فعلا يتذكر، "كان ميلاد يجلس في مقدمة الحافلة، كان خائفا، وزحف بحثا عن ملاذ
تحت المقعد".
لفترة
طويلة بعد الحادث، ظل عبد وعائلته منطوين على أنفسهم. حتى الأقارب لم يكونوا
يرونهم إلا نادرا. وبعد سبعة شهور من الجنازة، حذف عبد كل فيديو يظهر فيه ميلاد،
وكذلك كل الصور ما عدا اثنتين، فقد كان مؤلما جدا النظر إليها، ولكن مع مرور
الوقت استخدم عبد إحدى هذه الصور الباقية لتكون صورة البروفايل الخاص به على منصة
واتساب.
ثم،
قبل عامين، ومع اقتراب الذكرى السنوية لوفاة ميلاد، رأى عبد تدوينة في حساب راما،
ابنة عم ميلاد، على منصة الفيسبوك. ورغم أنها وميلاد كانا يترددان على المدرسة نفسها،
إلا أنها كانت أكبر منه بعدة سنوات، ولم يظن عبد أنهما كانا قريبين بعضهما من بعض. بلغت راما الآن من العمر سبعة عشر عاما. في تدوينتها تحدثت راما عن ميلاد
بعاطفة جياشة، مذكرة أصدقاءها وأفراد عائلتها بقرب موعد الذكرى السنوية. فذهب عبد
إلى منزل راما ليسألها لماذا بعد كل هذه السنين تكتب عن ميلاد. أجابته:
"كنت آخر من قبّله قبل أن يموت. قبل أن يصعد ميلاد إلى الحافلة أعطاني شوكولاتة
بيضة كيندر، فقبّلته على وجنته".
من
المرات الأخيرة التي رأيت فيها عبد، كانت في منزله في عناتا. في ذلك اليوم نفسه، وقّع
وزيرا خارجية الإمارات العربية المتحدة والبحرين على اتفاقيات لإقامة علاقات
دبلوماسية مع إسرائيل في احتفال الخامس عشر من سبتمبر / أيلول 2020 في حديقة البيت
الأبيض. وصفت الإمارات العربية المتحدة الاتفاق بأنه خطوة من شأنها أن تمنع
إسرائيل من ضم الضفة الغربية. ولكن في واقع الأمر، بدا ذلك تسليما بما قامت به
إسرائيل من عمليات ضم لأراضي عناتا وغيرها من بلدات الضفة الغربية. قال عبد:
"اسأل أي فلسطيني وسيقول لك الشيء نفسه. ضمت إسرائيل كل شيء وانتهى
الأمر".
بعد
أسابيع من زيارتي، انتقل عبد وعائلته إلى البيرة، التي هي جزء من رام الله الكبرى.
في إحدى أمسيات شهر شباط/فبراير من هذا العام، بعد أيام قليلة من الذكرى السنوية
لحادث التصادم، قابلني هو وشقيقه بشير، الذي يعمل محرر فيديو في قناة الجزيرة
الإخبارية، في مقهى بالقرب من منزل عبد الجديد. قال عبد إنه غادر عناتا لأنه قلق
من تنشئة شقيق ميلاد الأكبر، آدم، هناك. قال عبد: "لا يوجد مركز للشرطة في عناتا،
لا يوجد قانون في عناتا، فقط قانون المافيا. السكان يتزايدون بسرعة، إذ انتقل
إليها كثير من الناس من الخارج لكي يكونوا قريبين من سوق العمالة الإسرائيلي.
والأولاد يتعاطون المخدرات. وأنا أريد مناخا مختلفا لابني". قال لي عبد إنه
يشعر بحرية أكبر في رام الله مقارنة بعناتا المحاطة من كل مكان بالجدران. صحيح أن
رام الله أيضا بانتوستان ولكنها أكبر، وأقل انكماشا على الأقل.
انضم
إلينا بعد دقائق آدم الذي أصبح شابا يافعا أسود الشعر في الثامنة عشرة من عمره.
ومثله مثل معظم الناس في المقهى لم يكن يرتدي كمامة. لا عبد ولا أحد من أقاربه
تلقوا مطعوم فيروس كورونا بعد. على بعد بضع مئات من الأمتار من المقهى، يوجد المقر
الرئيسي للإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية داخل مستوطنة بيت إيل، حيث
عرض التطعيم على جميع سكانها البالغين، كما عرض على جميع الإسرائيليين في منطقة
جيم، وفي القدس الشرقية المضمومة، وداخل الخط الأخضر. والشيء نفسه حصل مع من يحملون
إقامات دائمة في البلد، ومع الدبلوماسيين الزائرين والصحفيين الأجانب. وفي ذلك
الأسبوع أكدت إسرائيل تعهدها بإيصال عشرات الآلاف من الجرعات إلى البلدان التي
اتخذت خطوات للاعتراف بضم إسرائيل للقدس. ولكن حتى ذلك الوقت لم يحصل أي فلسطيني
تقريبا لا في غزة ولا في الضفة الغربية على اللقاح. من أجل استيراد اللقاحات من
الخارج، يحتاج الفلسطينيون إلى إذن من إسرائيل. أمضى نادر مرار، المسعف الذي كان
أول الواصلين إلى موقع الحادث، سنة وهو في تدافع مع أزمة فيروس كورونا في الضفة
الغربية، وهو أيضا لم يتمكن بعد من الحصول على المطعوم. في شهر شباط/فبراير، قدمت
إسرائيل ألفي جرعة للعاملين في الصفوف الأمامية داخل القطاع الصحي الفلسطيني، إلا
أن نادر وزملاءه في رام الله لم يتمكنوا من الحصول على شيء منها. وفي شهر آذار/مارس من
هذا العام أصيب بالفيروس.
عندما
هممت بالمغادرة، شكرني عبد على علبة الحلوى التي جئته بها، وقال؛ إن ابنته ذات
السبعة أعوام طلبت منه أن يحضر معه حلويات إلى البيت. توفي ميلاد قبل عام واحد من
مولدها. أطلقوا عليها اسم فداء. وهي أكبر من ابنتي الوسطى تيسا بعام. ثمة ما يربط
عائلتينا بعضهما ببعض، فجليسة الأطفال التي ترعى تيسا، والمفضلة لديها، واسمها
سناء، من أقارب عبد. عندما كانت تيسا طفلة تحبو كانت تصر على مناداة سناء بكلمة
"ماما"، لدرجة أنها بكت ذات مرة عندما سمعت سناء تقول لأحد الغرباء؛ إنها
جليسة الأطفال التي ترعى تيسا وأنها ليست أمها. لسناء شقيقة اسمها انتصار، وهي
أكثر من تدلل تيسا وتأتي لها بالهدايا كلما جاءت لزيارتها، ومن حين لآخر تعد عرضا يتكون من صور تيسا مصحوبا بالرسوم والموسيقى.
ليس
لدى انتصار أطفال، وتعيش قريبا من منزل عبد القديم داخل جدران جيب شعفاط عناتا. لكم
مررت بذلك الغيتو، ولكن لم يخطر ببالي مرة أن أتدبر في حياة من يعيشون داخله. ولكن
عندما مررت به ذات مرة خلال الشهور الأخيرة، فكرت مليا بعبد وبميلاد وبشكل خاص
بانتصار، التي تغمر ابنتي بحبها، تلك البنت اليهودية التي تعيش حياة محظية في
الجهة الأخرى من الجدار.
حافلة المدرسة محترقة بعد الحادث قرب جبع (2012)/ جيتي
رافعة تكمل جزءا من جدار العزل العنصري بالقرب من مخيم شعفاط (2011)/ جيتي
عبد سلامة (2021)/ تصوير: إيهاب جاد الله
عبد سلامة مع صورة لميلاد في (2021)/ تصوير إيهاب جاد الله
مسعفون في موقع الحادث بين حاجزي قلنديا وجبع (2012)/ جيتي
فلسطينيون وإسرائيليون يتظاهرون قرب عناتا ضد التهويد (2019)/ جيتي
ميلاد سلامة مع شقيقه الأكبر آدم (2009)/ عبد سلامة
خريطة لخطة دروبلس الاستيطانية عام 1978 للاستيلاء على أراض من الضفة/ مايك كينغ
خارطة لتقسيم المناطق في جزء من القدس المحتلة بناء على بيانات أممية/ مايك كينغ
نيثان ثرول
نيويورك ريفيو أوف بوكس
حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج7
حكاية عبد سلامة.. معاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج6
تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج5