ما زال مقال توفيق الحكيم (تربيةُ الرأي العامّ) ملهِمًا، ذلك المقال الذي اعتبَر اختلاف أزياء قِطاعات المجتمع المصري فيما بينها تجسيدًا لاستحالة وجود رأيٍ عامٍّ مصريٍّ متّسِق.
فلابسو العمامة ولابسو القبّعة في المجتمع المصري ما زالوا يمثلون فئتين تتصارعان بحُكم اختلاف نظرتَيهما إلى المجتمَع والعالَم، ولعلّ الصراع يتجسّد في وضوحٍ مدهشٍ في قضيّة عرض جثامين المصريين القدماء التي احتدَمَت مؤخَّرًا بين د. أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن بالأزهر الشريف ود. زاهي حوّاس عالِم المصريات الأشهر. وشاءَ القدَر أن تُفارِق القبعةُ مجازيّتَها -المفروضةَ بحُكم انكماش وجودِها الحقيقي بين المصريين- لتُصبحَ حقيقية ملموسة في حالة د. حوّاس!
ودعوى قُطبَي الجِدال مفصَّلة في المقطعَين السابقين، وسنركّز في المقال على عدّة ملاحظاتٍ حولهما.
تسرُّع د. حوّاس:
في المَقطَع الأول قال د. حوّاس بأن الآثاريين لا ينبشون قُبور مُسلمين ولا مسيحيين ولا يهود، وهي جُملةٌ تفترضُ ضِمنًا أمرًا من اثنين، فإمّا أنّ نبش قُبور القدماء من غير أتباع الديانات التوحيديّة مُباح، أو أنه مُباحٌ في عقيدة المصريين القدماء بالتحديد. وهو ما تطلّبَ مِن د. كريمة أن يستدعي من السيرة النبوية أمرَ النبي عليه الصلاة والسلام للمُسلِمين بعد انتصارهم في غزوة بَدرٍ بدَفن قَتلى المُشرِكين، أي أنّ إكرام الجسد الإنساني بالدفن في الإسلام واجبٌ يمتدّ إلى البشَر مِن حيثُ هُم بشَر. أمّا الافتراضُ الضمنيُّ الثاني، فترُدّ عليه النقوش المصرية القديمة المتواترة في مضمونِها المحذّر من دخول المقابر ومسِّها بسُوء.
صحيحٌ أنّ د. حوّاس يُسهِب في بيان أوجُه الاحترام الذي تُعامَل به الجثامين في طريقة عرضها الحديثة، إلا أنّ التحذير المصري القديم يَطرَحُ سؤالاً: هل كان القدماءُ سيَرضون بعرض جثامينهم على أعيُن الناس في المتاحف؟
أمّا في المقطع الثاني فإنّ د. حوّاس يصِم غريمَه بأنه يتحرّك بدافِع البحث عن الشُّهرة، وبهذا يتورّط في مغالطة منطقية بمهاجمة شخص الغريم بدلاً من تفنيدِ دعواه Argumentum ad hominem، وهو ما ينطوي على إهانةٍ للدكتور كريمة المشهور بالفعل وإن لم يكن في شُهرة د. حوّاس بالتأكيد.
تسرُّع د. كريمة:
لم يَسلَم د. كريمة من التسرُّع، لاسيّما حين يقولُ في المقطع الثاني ما مفادُه أنّ المصريين فقط مِن بين الشُّعوب يُهينون أجدادَهم بعرض جثامينِهم، فلم نَرَ مِثلَ ذلك عند أصحاب الحضارات القديمة كآشور في العراق والفينيقيين في الشام وحضارات أمريكا الجنوبية إلى غير ذلك. وهو بذلك يتورّط في مغالطة مُخاطبة مَشاعر الجمهور Argumentum ad passiones بينما أصل المشكلة في دعواه فقهيٌّ صارِمٌ هو حُرمةُ عرض الموتى، وبفتح المجال للّعِب على المَشاعر لَا نصِل إلى نتيجةٍ، فالدكتور حوّاس قال بالفعل إننا نُرِي العالَم عظَمَة أجدادِنا الذي حكموا بالحَقّ والعدل، بل إنه قفزَ من "حكَموا مصر" في المقطع الأول إلى "حكموا الدنيا كلّها" في الثاني، وهو زَعمٌ مُبالِغٌ في التسرُّع. هكذا تبدو دغدغة المَشاعر الوطنية (بين عرض الأجداد العظماء عند حوّاس/ وستر الأجداد العظماء عند كريمة) في هذا الإطار إضاعةً للقضيّة مَوضِع الجَدَل. كذلك فإنّ د. كريمة في سبيل مخاطبة المَشاعر المذكورة يقفز إلى تعميمٍ متسرّعٍ تمامًا وغير ذي موضوعٍ، فهذه الثروة من الجثامين المحفوظة في حالة جيّدة لا تتوفّر أصلاً لدى أيٍّ من شُعوب الحضارات القديمة بخلافِ مصر إلاّ في پيرو وشيلي حيثُ جثامين حضارتَي الإنكا Inca وتشنتشورو Chinchorro، بل إنّ هذه الأخيرة تُباهي العالَم بما أثبتَ الكربون المُشِعّ أنه أقدم جثمان بشري محنّط بتدخُّل آدمي مُباشِر، حيث يعود إلى حوالَي عام 5050 ق.م. والمهمّ أنّ تلك الجثامين غير المصرية معروضةٌ جزئيًّا في المتاحِف!
عن السؤال الأخلاقيّ:
ماذا لو بُعِثَ بعض المصريين القدماء من الموت، وخرجَ البعضُ الآخَر مِن نقوش جدران المعابد والمقابر؟! هل سيقبلون فكرة عرض جثامين أقربائهم وذويهم على أعيُن السُّيّاح؟ قُل إنّ فجوة الزمن السحيقة كفيلةٌ بأن تجعل سؤال المشروعية يبدو لنا الآن غريبًا، فعقائدُنا غير عقائدِهم، ونحن نعاملُ جثامينهم باحترامٍ كما يقول د. حوّاس. لكن ماذا عنهم هم؟!
لمقاربة الأمر، دعنا نكتشف ما فعلَته قبيلةُ پايوت شوشوني Paiute Shoshone المتمركِزة في ولاية نيڤادا الأمريكية لاستعادة مومياء كهف سپِرِت Spirit Cave Mummy التي رجّح الكربون المُشِعّ أنها أقدمُ مومياء بشرية على الإطلاق يعود الفضل في تحنيطِها إلى عوامل الطبيعة دون تدخُّل بشري، وحدد تاريخَها بما يربو على تسعة آلافٍ وأربعمائة سنة. لقد بدأت القبيلةُ سنة 1997 سِجالاً قضائيًّا لاستعادةِ الجثمان – وهو بالمناسبة جثمانٌ ناقصٌ يتكونُ من رأسٍ وكتفٍ يُمنى فقط – لتنجح في دفنِه من جديدٍ عام 2018.
إذَن فالدعوة إلى إعادة دفن جثامين قدماء المصريين ليسَت شيئًا موغلاً في الغرابة!
والحقُّ أنّ السؤال الأخلاقيّ لا يرتبط دائمًا بالدعوى الدينية الصريحة، فالباحثة چاسمين دِاي من جمعية مصر القديمة في غرب أستراليا تتناول المسألة من وجهة نظرٍ لا تمُتُّ بصِلةٍ إلى الدين في بحثِها الذي تدافِع فيه عن مشروعية عرض الجثامين، وكذلك الباحثة مِجْ سوِاني من جامعة چونز هُپكِنز التي ترصُد الممارسات المتحفيّة التي تنزع الإنسانية عن جثامين المصريين القدماء، وتقترح ممارساتٍ بديلة.
لكنّ مقالاً كاشفًا تمامًا يأتينا بعنوان (القوس الأخلاقي الطويل لعَرض البقايا البشرية) لتْشِپْ كُلْوِلْ Chip Colwell أمين قسم الأنثروپولوچي بمُتحف دِنڤر للطبيعة والعُلوم. في هذا المقال يستعرض الكاتبُ في إيجازٍ تاريخَ الولع الغربي بالمومياوات المصرية في مقابلِ جثامين سُكّان أمريكا الأصليين، ويُجيبُ عن سؤال "لماذا يعرض مُتحف دِنڤر مومياواتٍ مصريةً، بينما يخلو من عِظام سُكّان أمريكا الأصليين؟"
وهو يقترحُ كإجابةٍ أنّ المصريين المُعاصِرين – لاسيّما المُسلمين- لا يرَون أنفُسَهم امتدادًا لبُناة الأهرام، ومن هنا لامبالاتُهم بعرض مومياوات القُدماء. هذا في مقابلِ الأمريكيين الأصليين الذين استعرضنا نموذجًا واحدًا لجهادهم في سبيل إعادة دفن مومياء كهف سپِرِت.
والآنَ، ماذا عساهم أن يقولوا؟! أعني دُعاة القومية المصرية الذين يفتأون يكررون الانتماء الوراثيّ للمصريين المعاصِرين إلى القدماء واختلافَهم عن العرب. في تقديري المتواضع أنّهم أقربُ أيديولوجيًّا إلى موقف د. حوّاس، لكن لماذا يتركون المُطالبةَ بعودة الجثامين إلى مقابرِها للدكتور كريمة الذي لا يُظَنُّ فيه الانتماء إلى هذا التيار؟!
"فاليَومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَن خَلفَكَ آيَةً":
هذه العبارة القرآنية الواردة في الآية 92 من سُورة يُونُس، أرجعَها المفسِّرون إلى تكذيبِ بني إسرائيل لبشارة نبي الله موسى لهم بهلاك عدوِّهم فرعون، وإلقاء الله لبدن فرعون بعد موتِه غرقًا على نجوةٍ (مرتفعٍ) من الأرض ليَنظُرَه مَن كذّبَ بهلاكِه. كذا دارَ تفسيرُ ابن كثيرٍ وتفسيرُ الطبَريّ مثَلا. إلا أنّ الخِطابَ الدعَوِيّ الشعبي المعاصِر يربط هذه الآية بمومياء رمسيس الثاني على اعتبار أنه فرعون الخُروج تبعًا لقراءةٍ مشهورة، وهو رَبطٌ متعجّلٌ يفتقر إلى الدّقّة العلمية. لكنّ المرءَ لا يملك إلا أن يستحضِره حين يقول د. حوّاس: "نحن لا ننبش قبور مسلمين ولا مسيحين ولا يهود". هل نعرِض جثامين الفراعنة لنتّعِظَ بعِقاب المُشرِكين إذَن؟!
عرض الجثامين من الوجهة الحضارية:
يقترح الدكتور كريمة أن تُستبدَل بالجثامين الحقيقية نماذج مُطابقة من موادّ مناسبة، وهو اقتراحٌ أتصوّر أن يُقابَل باستهجان الكثيرين، لكننا نقابل مَثيلاً فعليًّا له فيما يقرره مايكل پرِس في مقاله "متى تعود الجثامين المصرية والپيروڤية إلى بيتها؟"، حيث نَجِد نموذجَين ثُلاثيّي الأبعاد مطبوعَين لجثمانٍ مصريٍّ وآخر پيروڤيٍّ، حيث تتيح التكنولوجيا المتقدمة المُستعان بها في العرض خبرةَ لمس هذين النموذجَين، وهي خبرةٌ محظورةٌ في تقاليد عرض المومياوات الأصلية. فماذا لو استُبدِلَت بالجثامين الحقيقية نماذجُ كهذه، ليس فقط لخبرة اللمس، وإنما كذلك لخبرة المشاهدة؟
في اجتهاد د. كريمة كذلك ما يُبيح استخراج المومياوات مؤقتًا لإجراء البحث العلمي، بشرط إعادتها إلى مقابرها فيما بعد. لكن هل يَقنَع التراكم الحضاريّ بذلك؟
نستطيع تخيُّل سيناريوهاتٍ كثيرةٍ تتفاعل فيها عقولُ الأطفال والشباب مع خبرة مشاهدة جثمانٍ أصليٍّ يعود إلى آلاف السنين، وتفتُّح هذه العقول على طموح مواصلة البحث العلمي فيما يخُصّ عالَم هؤلاء الموتى القُدامى. ونستطيع تخيُّل عرض المومياوات في ملتقى الأقصر الدولي للتصوير، وكيف يمكن أن يُفرِز تجارب جديدةً في الفنون البصرية وربما مدارس تشكيليّة جديدة. وقُل مِثلَ ذلك فيما يُمكن أن يُنتِجَه إلهامُ شاعرٍ أو كاتبِ دراما أو موسيقيٍّ يشاهد الجثمان الحقيقي. هذا بخلاف الأثر الاقتصادي المباشِر المتوقَّع لعرض جثمانٍ حقيقيٍ بالِغ القِدَم. باختصار، لا يبدو أنّ التراكُم الحضاري سيَقنَع باقتصار فترة خروج المومياء من مقبرتِها على خضوعها للبحث العلميّ المحدود كما يقترح د. كريمة. فهل مِن مَخرَجٍ من هذا المأزق؟!
يبدو لي أنه لا يوجَد مَخرَج، وأنّ جَدَل المعمَّم والمقبَّع باقٍ بقاءَ الدِّين والحضارة. فالدِّين يحاول دائمًا أن يكبح جِماح الحضارة التي لا تعرف سَقفًا لطموحِها، والحضارة تحاول التفلُّت والسخريةَ منه لإشباع سُعارِها المحموم الذي لا يعرفُ غايةً ولا إشباعا. وهذا المقال في النهاية لا يهدُف إلى إيجاد نقطة التقاءٍ حاسمةٍ بين الفُرقاء، وإنما إلى جلاء حقيقة الموقف.