في عام 2011، مثلي مثل معظم
المصريين في ذلك الوقت، كدت أفقد الأمل في أن يأتي الوقت الذي ينتهي فيه نظام حسني
مبارك. كانت فترة حكمه التي استمرت ثلاثين عاما حقبة انتهاكات منتظمة لحقوق
الإنسان. نجم عن قلقه المرضي بشأن أمنه الشخصي نشوء دولة بيروقراطية مستبدة، لا
حريات مدنية أو سياسية فيها. كانت معدلات البطالة مرتفعة والأجور متدنية. وكانت
المشاريع التجارية تئن تحت سطوة عائلة مبارك ودائرة المقربين منها. وكانت الشرطة
تلجأ إلى الضرب والتحرش الجنسي وغير ذلك من ألوان التعذيب، وكانت المحاكم العسكرية
تصدر أحكاما بالسجن لمدد طويلة على رموز المعارضة.
كنت أعلم أن احتجاجات كان يتم التخطيط لها ضد
مؤسسة مبارك الأمنية عندما غادرت مصر في رحلة عمل يوم الرابع والعشرين من يناير /
كانون الثاني. في ذلك الوقت كنت أعيش في الخارج معظم الوقت، وظننت أن الاحتجاجات
لن تفضي إلى شيء ذي بال. ولكن ما قرأته وشاهدته عبر التلفاز وسمعته من أصدقائي على
مدى الأيام السبعة عشر التالية غير كل شيء. فقد خرج الملايين من المصريين إلى
الشوارع يطالبون بالتغيير، ولأول مرة منذ سنوات عديدة بدأ الأمل ينتعش في نفسي.
وبدأت أحلم بمصر أفضل حالا، وكان هناك كثيرون مثلي: كثيرون ممن غادروا المجال
العام وباتوا الآن في طريق عودتهم إلى مصر ليشاركوا في صياغة مستقبلها.
في رحلة العودة يوم الثالث عشر من فبراير /
شباط، بعد يومين فقط من الإطاحة بمبارك، كانت السعادة تغمر جميع من على متن
الطائرة. كان الجميع يتبادلون الحديث فيما بينهم، مفعمين بالأمل. وما أن أعلن
الطيار عن الهبوط حتى صفق الركاب، ولما توقفت الطائرة عانق بعضهم بعضا. لن أنسى
ذلك اليوم ما حييت.
أردت أن أساعد في بناء مصر الجديدة. كنت واحدا
من مائة شخص انتخبوا لتشكيل هيئة تناط بها مهمة صياغة الدستور، ووقع علي الاختيار
لأكون أمينا عاما لها. ثم عينت وزيرا للتخطيط والتعاون الدولي. كان العمل منوعا،
ولكن كانت المهام المطلوبة كثيرة، ولا مجال لتضييع الأوقات. كانت غايتنا هي إقامة
المؤسسات التي يمكن من خلالها تكريس قيم الديمقراطية التي آمنا بها.
ارتكبت الكثير من الأخطاء، وذلك أمر لا مفر
منه بعد ثلاثين عاما من الركود السياسي. وكانت أكبر الأخطاء هي عدم إدراك
السياسيين أنه كان يتوجب عليهم اجتثاث الدولة العميقة، وليس فقط رأسها. إلا أن
شعلة حماسي لم تنطفئ طوال العامين والنصف التالية – إلى أن استولى الجيش على
مقاليد الأمور في عام 2013. ألقيت بنفسي في كل نشاط تمكنت من الانخراط فيه. عملنا
جاهدين على كتابة دستور يناسب مصر الثورة، ويعكس رغبات الشعب ويتخلص من الجنون
الذي تحتويه وثيقة عام 1971، والتي تمنح الرئيس سلطة بلا حدود وفترة حكم بلا
نهاية. بالرغم من كل ذلك كانت الأجواء تنذر برياح توتر عظيم، وكانت الاختلافات بين
المصريين عميقة.
كنت في موسكو أحضر اجتماعات في عام 2013 عندما
أعطى الجيش المصري إنذارا مدته 48 ساعة للحكومة مطالبا إياها بأن "تحل
الخلافات" مع المتظاهرين، الذين كانوا يتجمعون منذ عدة أيام في مختلف أرجاء
البلاد للاحتجاج ضد رئاسة محمد مرسي. علمت مما كنت أسمعه أن تلك كانت الإرهاصات
الأولى لانقلاب وشيك. ولما عدت إلى مصر في الثاني من يوليو / تموز، كان الوجوم
مخيما على البلاد – على النقيض تماما من حالة الابتهاج التي شعرت بها لدى عودة بعد
انطلاق الثورة ضد مبارك. في اليوم التالي انطلق الانقلاب بقيادة رئيس الجيش عبد
الفتاح السيسي، الذي يشغل الآن منصب الرئيس.
بعد الانقلاب تحدثت مع عدد من مبعوثي المجتمع
الدولي. قيل لنا، نحن السياسيين المنتخبين في مصر، بأن علينا ببساطة أن نرضخ
للانقلاب العسكري. اجتمعت مع كاثرين آشتون، ممثلة الاتحاد الأوروبي للشؤون الدولية
والسياسة الأمنية. والتقيت مع ويليام بيرنز، الذي وصل مصر قبل أسبوع من قتل قوات
السيسي ما يقرب من ألف شخص في ميدان رابعة. (بيرنز هو الآن مرشح بايدن لمنصب مدير
وكالة المخابرات الأمريكية السي آي إيه). والتقيت مع كثير من المبعوثين الدوليين
الآخرين. كلهم قالوا نفس الشيء: "اقبلوا بالواقع". وقال جون كيري، الذي كان
حينها وزيرا للخارجية الأمريكية، إن الانقلاب العسكري تم باسم الديمقراطية.
لربما لم يكن المجتمع الدولي متواطئا مع
الانقلاب ولم يكن متواطئا مع سفك الدماء الذي وقع نتيجة لذلك، ولكنه برر ما جرى
وسعى إلى تبييض وجهه. إن دعمه للسيسي حينذاك، والذي ما يزال مستمرا حتى الآن، هو
أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار هذا النظام وبقائه.
بعد عشرة أعوام على انطلاق الربيع العربي،
أحال الجنرال الذي أصبح رئيسا، والذي حظي بإقرار العالم الحر، مصر إلى بلد غير
صالح للعيش، فيه ما يزيد عن ستين ألف معتقل سياسي. وباتت فيه المحاكم الجماعية
وأحكام الإعدام – بما في ذلك بحق الأطفال – شائعة بشكل متزايد. يمارس فيه التعذيب
وعمليات الإخفاء القسري وعمليات القتل خارج القانون. لا توجد حرية تعبير ولا مجال
سياسي، وفيه تستهدف النساء بالذات بشكل دوري. هل ينبغي علينا أن "نقبل"
هذا الواقع؟ بعد كل ما مرت به مصر، صار نظام مبارك يبدو نعيما في نظر الكثيرين.
يُجمع البلد على أن المجتمع الدولي لو لم يكن
مسؤولا عن الإطاحة بالرئيس مرسي فهو الآن متواطئ مع نظام السيسي فيما يرتكبه من
جرائم قتل وتعذيب وانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان. وعليه أن يتحمل المسؤولية عن الدور
الذي لعبه في السماح لمثل هذه الأمور أن تحدث، وعليه أن يعلم أنه حتى لو اختار أن
يغض الطرف فإن الشعب المصري لن ينسى بتاتا ما وقع له.
بعد كل هذا الذي جرى، لم يعد ثمة شك في أن
الجميع يعلمون بأن دعم الانقلاب العسكري كان خطئا كبيرا. إن أكثر ما كنا بحاجة
إليه حينذاك كان توحيد صفوفنا، كبلد، من أجل إعادة الديمقراطية إلى مصر، بغض النظر
عن أي خلافات سياسية. وقبل أي شيء كنا بحاجة للمضي في سبيل الديمقراطية معا، يدا
بيد. ولكننا لم نفعل ذلك.
ومع ذلك يبقى معنا ذلك الرجاء الذي كنا جميعا
نعول عليه مساء الحادي عشر من فبراير 2011، عندما أجبر مبارك على التنحي. قد يبدو
ضئيلا، ولكنه موجود، تحت السطح، في قلوب الشعب المصري. وما أن تتاح له الفرصة حتى
يتجلى من جديد. أعتقد أن ذلك اليوم بات وشيكا، فالرغبة في الحرية قوية، ولا قبل
لأحد بإطفاء جذوتها، وهذا ما يخبرنا به التاريخ على الدوام.
للاطلاع على المقال الأصلي من هنا
تساهل الاتحاد الأوروبي مع إجراءات السيسي الوحشية يسعّر العنف بسيناء