كتبنا في مقالات سابقة بالنسبة للسلطة المستبدة؛ كيف يمكن لتلك السلطة أن تتصور
المواطنة وأحوالها، إنها تنظر للمواطنة ضمن نظرات متناقضة وبشكل مركب، في النهاية يمكن اعتبار جل نظرتها لها بأنها مادة استعمالية وأداة وظيفية وحالة مسيسة، رغم أن المواطنة في حقيقتها وجوهرها ترتبط في تأسيسها بالحقوق والواجبات ومنظومة الحقوق التي تراكمت؛ من حقوق تأسيسية باعتباره إنسانا، ومن حقوق مدنية باعتباره كائنا اجتماعيا، ومن حقوق سياسية باعتباره إنسانا سياسيا، ومن حقوق قانونية باعتباره سيدا يمثل مركزا قانونيا في مجتمعه، ومن حقوق اقتصادية واجتماعية تعبر عن معنى الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية فيه..
بل إن هذه الحقوق لم تقف عند حد الإنسان الفرد، بل تطورت وتأصلت لتكون حقوقا جماعية واجتماعية ومجتمعية، بل وحقوقا تتعلق بالدول، وبالكيانات السياسية، وكذلك بحقوق تتعلق بالإنسانية بأسرها. إن دوائر الحقوق المتعددة والمتكافلة والمتحاضنة تعبر عن أنساق حقوقية لا تنفصل عن كيان الإنسان والمواطن، ومن هنا فإن عبث السلطة المستبدة بمفهوم المواطنة أمر واضح للعيان، لا تملك في النهاية إلا أن تصفه بأوصاف متناقضة وفقا لأهوائها لأن المواطنة في هذا السياق حالة كاشفة لمواقف وسلوك وسياسات وتصورات تتعلق بهذه السلطة؛ بل إنها تشكل في حقيقة الأمر مقياسا لفشل السلطة في أدائها وإنجازها. ومن هنا ظل المواطن مشجبا ضمن حزمة من المشاجب إن لم يكن أهمها على الإطلاق؛ تعلق عليه تلك السلطة المستبدة كل أخطائها وخطاياها وفشلها وعدم إنجازها.
ومن هنا كان حديثنا كيف تنظر السلطة - في سياقات تتعلق بالزيادة السكانية - للمواطن بأنه يشكل "المواطن العبء" على الدولة، وكأن البشر ليسوا بتلك الثورة العظيمة القابلة للاستثمار حينما تقوم السلطة بواجباتها وتقوم على وظائفها وتحقق مقصودها، إلا أن مشجب المواطنة في هذا المقام يشكل مع مشاجب أخرى تمريرا لفشل السلطة وفسادها بل وفجورها وطغيانها.
وفي ذات الوقت تحاول تلك السلطة المستبدة - بكل شكل - أن تصدر صورة معينة للمواطن تعتبره في حقيقة الأمر نموذجا بالنسبة لها وتسميه "المواطن الصالح".. المواطن الصالح في عرفها هو المواطن العبد والإمعة الذي لا بصر له ولا صوت ولا موقف، يعيش يسبح بحمدها رغم أن السلطة تمن عليه ليل نهار، ضمن سياسات فشل تتمثل في دولة جابية مستخفة لا تجترف بالمواطن والإنسان أو بمعاشه، فتطلق عليه غول الفقر والإفقار، وغول غلاء الأسعار، يبدو لها - في إطار تزكية هذا النموذج - أن المواطن لا بد وأن يكون تافها يهتم بسفاسف الأمور ولا يقترب من جواهرها.
لأن وعي المواطن في حقيقة الأمر خطر على المستبد وأعوانه ونظامه ومنظومته، وكل الصفات السلبية التي تتعلق بالإنسان والمواطن هي محل اعتبار لتلك المنظومة حتى تصطنع المواطنة على عينها، فتقدم شكلا من أشكالها المفضلة وتسميه ضمن رؤيتها الانقلابية - والتي تقلب كل شيء وتظلم عالم المفاهيم وتغتصبها من جملة ما تغتصب وتظلم - "مواطنا صالحا"، إنها مواطنة أجهزة المخابرات والأجهزة الأمنية، تتلاعب بها في إطار نظرة للشعب والشعبوية.
وضمن سياقات تتعلق بتسريبات برزت حينما وصف ذلك المواطن فيها - ضمن عموم الشعب - بالجوع (شعب جعان ومتنيل بنيلة) وهو في الجملة مستخف به، ليس له من وزن، وهو عند سلطة
الاستبداد "سقط متاع"، وقد أسموه أيضا بـ"البتوع، حاجة وتلاتين كده"، حينما قال ذلك مدير مكتب السيسي حينذاك في مقاربة استخفاف غير إنسانية - ليست بجديدة عليهم - فإن هؤلاء الذين قضوا في عربة الترحيلات "حاجة وتلاتين بتاع" بينما الضابط الذي قتلهم يحاولون من كل طريق لإخراجه من ورطته بعد حكم هزيل عليه؛ لأن "الولد تعبان وأبوه هيموت عليه".. هكذا تصنع علاقة السيد بالعبد، وتميز بين شعب وشعب، وتفرق بين مواطن عبد، ومواطن سيد فوق الحساب وفوق العقاب.
ومن الجدير بالذكر أن تلك السلطة المستبدة الطاغية تتوسل بكل الأدوات فتجعل من المواطن مادة استعمالية، وفي هذا المقام فإنها إذ تهدد نسيج وحدة الجماعة الوطنية ولحمتها فإن السلطة - وللأسف الشديد بتواطؤ من قيادة الكنيسة - تورط الأقباط في مواقف سياسية مهينة خادمة لها، في محاولة، كشأن كل النظم السلطوية والمستبدة، لخطب ود الأقليات، خاصة تلك التي لها وزن في السياسة الدولية، ولا نشير إلى الداخلي لأن الانقلاب ونظامه المستبد الطاغي والفاشي لا يحتاج لأحد في الداخل ولا يستند الى أي شرعية منعقدة فيه؛ فهو يعين أعضاء جميع الأجهزة الشعبية بانتخابات شكلية، ويكمل هذا بعملية توريط كبرى بما يسمون بأقباط المهجر، فيعبر هؤلاء عن معنى مختلف للمواطنة وضمن عملية توظيف وتسييس خطيرة من المنقلب والبابا على حد سواء؛ حينما يقوم بمغازلة سلطة الاستبداد، وترد السلطة بمغازلة أخرى، ولكن مردود كل ذلك إنما يشكل وبالا خطيرا على الجماعة الوطنية، ويظل عتبنا وتحفظنا بل وتناقضنا على هؤلاء؛ من أقباط - من مثقفين ونخبة - ظلوا يطنطنون بمشروع الجماعة الوطنية، وإذا هم بسكوتهم الآن أو بانحيازهم لسلطة الاستبداد وسلطة الكنيسة يقومون بكل عمل يهدف إلى نقض الجماعة الوطنية تناسقا وتكاملا ونسيجا.
وفي ظل هذا الوضع تظل أقلية وظيفية أخرى موظفة؛ لا بحكم استنادها الديني تميزا ولكن بحكم دين السلطة (الاستبداد) التي توظف كل الأدوات، فتقوم بتوظيف سدنتها من جوقة الإعلام الذين يرددون ليل نهار الاتهامات ويكيلون الشتائم والنقائص لشعب
مصر وما يمثله من مواطنين. فهو مرة منعدم الوعي، وتارة أخرى عبء لا يقوم بأي شيء، وأن السلطة مظلومة معه إذ تؤدي وهم لا مبالين.
ومن هنا تقوم تلك الجوقة الإعلامية بصوت واحد بمخاطبة الشعب ومواطنيه "اللي مش عاجبه يغور"، بينما تنادي على معارضة الخارج "لو عايز تعارض تعال عارض من جوة"، رغم أن النظام لا يتحمل نقدا فيسقط الجنسيات ويطارد كل معارض أو شبه معارض، ويعتقل الآلاف في سجونه التي صارت من إنجازاته المشهودة منذ انقلابه في 2013، ويقوم كذلك بالقتل خارج القانون بدم بارد، وبالاختطاف القسري كعصابة، وصار المواطن مهددا في أمنه وفي معاشه.
أتتصور أن أحد المواطنين - وهو طالب ماجستير في إحدى الدول الأوروبية - أتى في إجازة لزيارة أهله في مصر المحبوسة فاختطفوه ثم لفقوا له قضية؟!! هذا هو شأن المواطن المهدد والمستخف به، الذي يخرج على نص المواطنة الصالحة كما ترسمه السلطة الطاغية وسدنتها وجوقة إعلامها للمواطن الصالح.
وإذ نذكر في هذا المقام فلا ننسى تلك النخبة المنحطة - التي أطلقنا عليها يوما تأدبا محنطة - ومقام انحطاطها إنما يعود في حقيقة الأمر إلى أنها للأسف الشديد لا تزال في معظمها تخون أدوارها ووظيفتها، فتتهم الشعب بكل نقيصة وتتهمه بالجهل واستمراء العبودية وأنه يستأهل سلطة الاستبداد. لقد مست عصب المجتمع ومفاصله في الصميم وأضرت بلحمة الجماعة الوطنية.
هذه النخبة من كل نوع أضرت بهذا الشعب ضررا كبيرا، فلم تتبن قضاياه ولم تهتم في خطابها بمعاشه وضروراته، بل ظلت تطنطن بكلمات جوفاء فارغة وفائض خطاب لا يغني ولا يسمن من جوع. وبدت هذه النخبة في هذا المقام تدعم وتساند سلطة الاستبداد بشكل مباشر أو غير مباشر، وهم من المجد أبعد وإلى أسرى الاستبداد أقرب على حد تعبير الكواكبي.
هكذا ينظر كل هؤلاء إلى المواطنة كمادة استعمالية للأسف الشديد، وحالة توظيفية، وأدوات مسيسة لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تمثل مواطنة "منظومة الحقوق" الأساسية والأصلية والمكملة التي أشرنا إليها من قبل، والتي يصير بها الإنسان مستخلفا كريما؛ والمواطن عزيزا سيدا.
twitter.com/Saif_abdelfatah