عرف ابن خلدون أمراض الأمم كلها فردها إلى مرضين إثنين وإلى تفاعلهما.. مرضان يصيبان مقومي الفعل السياسي من حيث هو تربية للأجيال وحكم للجماعات:
1 ـ أولهما أصاب السياسة باعتبارها فن أدوات قيام الإنسان العضوي رعاية وحماية. والعمران البشري هو نظرية الكشف والتشخيص والعلاج لأمراض هذا المقوم الأول.
2 ـ والثاني أصاب الأخلاق باعتبارها فن غايات قيام الإنسان الروحي رعاية وحماية. والاجتماع الإنساني هو نظرية الكشف والتشخيص والعلاج لأمراض هذا المقوم الثاني.
وذانك هما مستويا المقدمة "علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني". والأعراض التي وصفها ما تزال أعراض الحضارة الإسلامية الدالة على أدوائها الراهنة حتى بعد أن فهمت الشعب بثوراتها شروط الاستئناف التي تقتضي التخلص من هذين المرضين:
1 ـ فالأول أصاب رؤية الجماعة لأداتي سياستها أي التربية والحكم. وينتج عنه المرض السياسي عامة. ويصفه ابن خلدون بفساد معاني الإنسانية بمفعول عنف التربية وعنف الحكم. والعنفان يفقدانه ما فيه من طبيعي ومن روحي. فيصبح عاجزا عضويا ونفسيا على إعالة نفسه وحمايتها (الفصل 40 من الباب السادس).
2 ـ والثاني أصاب رؤية الجماعة لمفهوم الإنسان أي منزلته الوجودية. وينتج عنه المرض الخلقي عامة. ويصفه بفقدان الوصل بين الديني والطبيعي في كيان الإنسان. والوصل هو معنى الفطرة القرآني: فالإنسان من "رئيس بطبعه (طبيعي) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (ديني)" تحول إلى عبد لدين العجل (الفصل 20 من الباب الثاني).
في تعريف السياسة
لذلك فكل من يعرفون السياسة بكونها فن الممكن ـ كل النخبة السياسية العربية المتفاقهة سواء بلغة دينية أو بلغة فلسفية ـ يعرفونها بمنطق يقف عند ويل للمصلين.
فالممكن في فعل الإنسان يختلف عن فعل الضرورة الطبيعية الذي ينتسب إلى الضرورة الشرطية فيها. إنه ينتسب إلى الحرية الشرطية في التاريخ وإذن فهو يندرج في علاقة الذات بالموضوع خلال الفعل بفضل ظرف مجراه ومظروفه:
1 ـ فظرف الفعل السياسي حصة من مكان المعمورة الجغرافي ومن زمانها التاريخي. وهما المحددان الموضوعيان لما يجري في الحصتين من المكان والزمان وفي ما حولهما من المعمورة مكانا وزمانا: وذانك هما الحيزان الطبيعيان.
2 ـ ومظروف الفعل السياسي تحاصص بين الموجودين في الحصة الجغرافية من المعمورة والحصة التاريخية منها داخليا وخارجيا حولها لتحقيق الرعاية والحماية شرطي البقاء والحفاظ على الذات.
كل من يعرفون السياسة بكونها فن الممكن ـ كل النخبة السياسية العربية المتفاقهة سواء بلغة دينية أو بلغة فلسفية ـ يعرفونها بمنطق يقف عند ويل للمصلين.
المظروف هو إذن ما بين البشر من علاقات حول شروط القيامين العضوي والروحي: فكل العلاقات بين البشر مدارها إما جوزل ثمرة علاقتهم بالطبيعة وهي اقتصادية أو ثمرة علاقتهم في ما بينهم وهي ثقافية.
ويترتب على تفاعل الثمرتين أثر الاقتصادي في الثقافي وأثر الثقافي في الاقتصادي، وهما أساس كل النسيج الاجتماعي الذي هو في آن خلقي وسياسي الناتج عن فعل الإنسان في الحيزين الطبيعيين والحيزين الناتجين عنهما أي التراث والثروة.
وإذن فتعريف السياسة بوصفها فنا للمكن لو صح لكان يعني أنها فن الانفعال الإنساني بظرفة وليس فن الفعل بمظروفه ما لم نعرف الممكن بواقع أمره لننفعل به بل بإيقاع أمره لنفعله أي إن السياسي لا يكون فن فعل إلا بفعله في جعل الممكن تمكنا في المكان وتزمنا في الزمان:
فلا تكون السياسة حينها فن الممكن بل فن التمكين والتزمين أي أثرها في الجغرافيا وفي التاريخ. ذلك أن العلاقة بين التمكين والتزمين هي العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ:
1 ـ فإذا أخذنا هذه العلاقة في الاتجاه الأول كانت تزمينا ينتج عنه التراث الذي يوحد الجماعة روحيا وهو التزمين(الثقافة).
2 ـ وإذا عكسنا فأخذنا هذه ا لعلاقة في الاتجاه الثاني كانت الثروة التي توحد الجماعة ماديا وهو التمكين (الاقتصاد).
فيكون فن الممكن من حيث هو فعل وليس انفعالا اجتهاد وجهاد يحققان شروط البقاء الحر والمستقل للفرد والجماعة بما ينجزه في الجغرافيا وفي التاريخ المناسبين لهذه الشروط حتى يصبح للتراث فعل التوحيد الروحي وللثروة فعل التوحيد المادي:
وتلك هي المتغيرات الأربع التي تحدد قيام الفرد والجماعة وأصلها كلها هو هذان النوعان من التوحيد الذي يحقق الرعاية والحماية وهو معنى السيادة السياسية.
وسواء كان ذلك في الداخل أو في الخارج فإن السياسة تكون استراتيجية التنافس على الجغرافيا وعلى التاريخ وعلى التراث وعلى الثروة بوصفها عوامل وحدة الفرد والجماعة في عملية تقاسم المعمورة مكانها وزمانها، وهي عوامل في صيرورة دائمة بمنطق شروط الرعاية والحماية التي من دونها لاوجود للحرية والكرامة بعدي السيادة للفرد في الداخل وللجماعة في الخارج.
وقد اكتشفت المعادلة التي تحقق هذا المعنى والذي يمكن تسميته "القدرة السياسية" أو فن التمكين والتزمين في الظرف المكاني والزماني وفي المظروف الإنساني فيهما فردا وجماعة بفضل ما يحصل من توحيد لهم بالتراث الثقافي روحيا وبالثروة الاقتصادية ماديا: وتلك هي السيادة التي هي غاية السياسة.
وهذه المعادلة يمكن التمثيل لها بشكل هندسي هو شكل الهرم مربع القاعدة والذي تكون ذروته القدرة السياسية أي القدرة على تحقيق هذه الأفعال التي وصفت أي التمكين و التزمين وإبداع التراث روحيا وابداع الثروة ماديا لتحقيق الرعاية والحماية في الداخل وفي الخارج وتلك هي وظائف الدولة.
في تحليل الفعل الإنساني
فلأرسم هذا الهرم لأمر إلى تحليل الأفعال: فالفعل الإنساني فرديا كان أو جماعيا لا بد فيه من قاعدة مربعة وذروة هي القدرة. والقاعدة المربعة تتألف من:
1 ـ إرادة وهي هنا إرادة التمكين للذات وللجماعة ومن يتميز بهذه الصفة يمثل من يمكن للجماعة ان تطمئن إليه لينوبها في قوامة الدولة. ولذلك فالعصبيات والاحزاب ليست إلا أنظمة لانتخاب هؤلاء الذين تغلب عليهم هذه الخاصية. وهي شبيهة بحظائر تربية الخيول في السباق وقصب السبق هنا هي القدرة على القيادة.
2 ـ رؤية وهي هنا إرادة التزمين للذات وللجماعة ومن يتميز بهذه الصفة يمثل من يمكن لصاحب الإرادة إذا كان ممن اختارتهم الجماعة ليمثل إرادتها -وقد لا يكون حيا لأن يمكن أن يكون صاحب المشروع الذي أوجد وعي الجماعة بتأسيس دولة قيمة على رعايتها وحمايتها لذاتها ـ ولذلك فلا توجد قوة سياسية ليس لها مرجعية رؤيوية من تراثها الذي هو بعد تاريخها الروحي.
3 ـ لكن لا يمكن للرؤية التي تحدد الغايات ألا تكون ذات علم يحدد الأدوات ومن ثم فالرؤية ليست التراث عامة بل هي ما فيه من فهم لذاته من حيث هو أساس وحدة الفرد والجماعة روحيا بمعنى أساس حب البقاء والتواصل في الزمان بالعمل على علم ومن ثم فالعلم هو الذي يحقق تحويل التاريخ إلى توحيد روحي والجغرافيا إلى توحيد مادي بما يحققه من تطبيقات تنتج التراث والثروة.
4 ـ والإرادة لا يمكن أن تقبل بالرؤية وأدواتها إلا إذا كانت ذات ذوق يحدد معنى الغايات والأدوات وما تصبو إليه الجماعة من "نوع" الوجود أو مما يسميه ابن خلدون "نحلة العيش" التي هي جوهر الكيان الجمعي والذي من دون لا تكون للجماعة هوية مميزة هي التي يحققها التمكين بالتوحيد المادي أو الاقتصاد والتزمين بالتوحيد الروحي أو الثقافة.
5 ـ وعلى هذه القاعدة المربعة تحصل الذروة أو القدرة السياسية: فالجماعة تساس كما قال الغزالي بمعتبري الزمان الذين تنتخبهم هي سواء صراحة أو ضمنيا وهم من يقود حركة التمكين والتزمين فيسوسون كيانها الحي منهم والميت لان الأمم غالبا ما يكون سهم الميتين في سياستها أهم بكثير من سهم الاحياء.
فالقدرة السياسية التي تتحقق حيث يلتقي قطرا المربع المؤلف من الإرادة والرؤية والعلم والذوق القطر الواصل بين الإرادة والذوق وبين الرؤية والعلم نجد قمة الهرم السياسي.
وطبعا فالإرادة علاقة مباشرة بالرؤية تحديدا للغايات وبالعلم تحديدا للأدوات. وللرؤية علاقة مباشرة بالإرادة تحديدا والذوق تحديدا للأدوات وغير مباشرة بالعلم تحديدا للغايات.
فيلتقي العلم والذوق مباشرة فيتحد دورهما الأداتي والغائي في القدرة التي هي ذروة القاعدة المربعة وهي في آن شرط الإبداعين المادي المنتج للثروة والروحي المنتج للتراث، وفي ذلك تكمن فاعلية الأمم التاريخية: والأول هو الاستعمار في الأرض والثاني هو الاستخلاف. ولا يمكن الاستغناء عن الأول لأنه شرط البقاء العضوي ولا على الثاني لأنه شرط البقاء الروحي.
لذلك ففي القاعدة الأركان الأربعة تلتقي مباشرة بأضلاح المربع وتلتقي بصورة غير مباشرة بقطريه. وذلك للتمييز بين اللقاء الغائي واللقاء الأداتي. واجتماع اللقائين ينتج الذروة التي هي القدرة ببعديها المنتج للثروة والمنتج للتراث شرطي وحدة الجماعة وسيادتها.
وعندما يسمو القلب الذي يتقتاطع فيه القطران تصبح نصفا كل قطر ضلعين للهرم فتلتقي الأضلاع الاربعة في القمة التي هي القدرة وتكون سفوحها الأربعة مثلثات متساوية الضلعين وقبل ذلك يقسم القطران المربع إلى أربع مثلثات قائمة الزوايا.
والمعلوم أن المثلث أكثر الأشكال الهندسية ثباتا وقوة وهو أول الأشكال التامة ومنه حاول أفلاطون تكوين النموذج الرياضي للأجرام الخمسة التي كانت هدف كل الهندسة الاقليدية ومضوع المقالة الأخيرة الثالثة عشرة.
ولو لم تكن استراتيجية الرسول في تأسيس الدولة الكونية التي يكون فيها جميع البشر اخوة (النساء 1) ومتساويين (الحجرات 13)تعمل بهذه المعادلة السياسية لما تحققت دولة الإسلام الكونية التي تميزت بسياسة الاستعمار في الارض إلى الحد الذي حول القرآن:
1 ـ والاستعمار في الأرض إلى فلسفة تاريخ للإنسانية شبه مقصور على المادي من كيانها بتحرير المائدة والسرير وفنهما.
2 ـ والاستخلاف فيها إلى الحد الذي حول القرآن إلى فلسفة دين للإنسانية شبه مقصور على الروحي بالتحرر من الترف فيهما وفي فنيهما.
وتلك هي العلة التي لأجلها غيرت قراءة القرآن باعتباره استراتيجية لتوحيد الإنسانية وسياسة الرسول باعتبارها تكوين عينة منها. وذلك هو الهدف من قراءته قراء تعرف الواحد المشترك بين الديني في كل الأديان والفلسفي في كل الفلسفات.
وهو ما اقتضى تغيير مفهوم الزمان عندما يصبح تاريخيا فجعلته مخمسا: إثنان للماضي وهما تاريخ الأحداث وتاريخ الأحاديث التي تبقي على حياتها لاحقا سابقا واثنان للمستقبل وهما تاريخ الأحاديث سابقا وتاريخ الأحداث التي تحققها لاحقا. والقلب والمحيط في آن هو الحاضر الذي يوجد بين الزوجين وحولهما في آن.
وطبعا فتغيير مفهوم الزمان بهذا المعنى يناظره تغير مفهوم المكان ليكون هو بدوره مخمس الأبعاد لأنه مكان الذكرى حدثا وحديثا ومكان التوقع حديثا وحدثا ومكان فعل التمكن والتزمن الذي هو بين الأولين وحولهما في آن.
وإذا غابت هذه الشروط التي وصفت في هذه المحاولة لتعريف السياسة ومعنى التمكين والتزمين عاملي التوحيد بالأحياز الخمسة أي الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة والمرجعية الموحدة فإن الكلام على أمة لا معنى له لأن من فقد هذه العناصر خارجيا في الأعيان (الظرف) ومفعولها في كيان الأفراد داخليا في الاذهان (المظروف) لا يمكن أن تعتبر ذات سياسة ودولة.
وحينها نفهم كيف أن يمكن أن تعرف السياسة انفعالا لا فعلا بكونها فن الممكن وغالبا ما تكون علامة هذه الرؤية كثرة الكلام على الإكراهات السياسية التي هي في الحقيقة نتيجية السياسة من حيث هي رد فعل وليس فعلا لغياب هذه المعادلة ولأن المتكلمين بهذه الرؤية أقزام ولا يمثلون من يسميهم الغزالي معتبري الزمان.
شرح المعادلة السياسية
فالظرفان ـ المكان والزمان ـ يمثلان الضرورة الطبيعية ليس من حيث هي طبيعية بل من حيث تحول المكان إلى جغرافيا نحتها الإنسان في المكان ومن حيث تحول الزمان إلى تاريخ رسمه الإنسان في الزمان.. وكل من يهمل هذه الاستراتيجية تابع حتما.
وأما المظروفان فهما بعدا الإنسان غير التابع أي الناحت للمكان والراسم للزمان أي الفرد والجماعة. فالإنسان من حيث هو فرد وجماعة هما صنيعة ما صنعوه بظرفيات الجغرافيا والتاريخ وصانعهما إذا توفرت شروط الاستثناء من الخسر الخمسة التي حددتها سورة العصر.
فنحصل بذلك على تحضير ـ النقلة الخلدونية من البداوة إلى الحضارة ـ الحيزين الطبيعيين بأن نجعل المكان جغرافيا والزمان تاريخا ولا يتحقق ذلك من دون ما يترتب على فعل الفرد والجماعة فيهما. وتلك هي علاقة الظرف (المكان والزمان) بالمظروف (الفرد والجماعة).
وتكون نتيجة انظراف الإنسان في حيزي الظرف الطبيعي تظريفهما الحضاري الذي هو إنتاج التراث موحدا روحيا (الثقافة) وانتاج الثروة موحدا ماديا (الاقتصاد). وهذا هو مضمون الباب الاول من مقدمة ابن خلدون.
أما الشرط الأصل فهو الوعي الخسر الذي يهدد الإنسان إذا هو لم يحقق مهمتيه أي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها أو إذا هو فعل ذلك بمنطق الإخلاد إلى الأرض فاكتفى بالاستعمار دون الاستخلاف فصار يؤمن بدين العجل أي صار يعبد معدنه (ربا الأموال) ويتبع خواره (ربا الأقوال):
وهذا هو الداء الذي يحدد "مدى" الإمكان الذي عرفت السياسة بكونها فنه: القائلون بفن الممكن هم عبيد العجل والمخلدون إلى الأرض.. فعن هذا الشرط الأصلي تترفع أربعة شروط: إثنان منها يتعلقان بما يحدد دورالفرد وسهمه في نحت الجغرافيا ورسم التاريخ وإثنان منها يتعلقان بما يحدد دور الجماعة وسهمها في جعل النحت والرسم يصبخ حال الظرفية والمظروفية.
فأما الشرطان المحددان لدور الفرد وسهمه فهما: 1 ـ الإيمان 2 ـ والعمل الصالح. والأول يعني علة التحرر من الاخلاد إلى الأرض والثاني علامة حصول اثمار العلة في المعلول.
وأما الشرطان المحددان لدور الجماعة وسهمها فهما: 1 ـ التواصي بالحق 2 ـ والتواصي بالصبر. والأول هو روح الاجتهاد في طلب الحقيقة في الجماعة وهو سر ابداع التراث الموحد روحيا. والثاني هو روح الجهاد في السعي لتحقيقها في التاريخ الفعلي وهو سر الثروة الموحدة ماديا.
فإذا حصلت هذه الشروط الخمسة زال خطر الخسر وأصبحت سياسة الأمة سياسة لعالم الشهادة سياسة مشدودة إلى عالم الغيب بمعنى أن القيم المحددة لسلوك الإنسان تكون قد تحررت من دين العجل أي من ربا الأموال وربا الأقوال.
مشكلة الأمة
آتي الآن إلى مشكل الأمة الحالي وكيف آلت إلى وضعيتها المخزية التي جعلتها تفقد شروط الحرية والكرامة بسبب ما حصل من فساد لمعاني الإنساني بلغة ابن خلدون وتحولها إلى عالة على غيرها في الرعاية والحماية.
والهدف هو الجواب عن هذا السؤال المحير: ما العلة في ما عليه أهل الإقليم الذي كان يمثل قوة سياسة قادرة على الرعاية والحماية وتمكن وتزمن في الماضي فاستطاع تكوين جغرافيا وتاريخ وتراث وثروة تحافظ على كيانه فتحرر: من سلطان بيزنطة وفارس، من سلطان الصليبية والباطنية، من سلطان الهيمنة المغولية، من سلطان الهيمنة من الاستردادية، من سلطان الاستعمارية..
لكنه أصبح تابعا اقتصاديا وثقافية وسياسيا لأنه فقد وحدة مكانه ووحدة زمانه بما حصل في تشتيت عامل التوحيد الروحي (التراث والثقافة) وعامل التوحيد المادي (الثروة والاقتصاد). وهذا هو المشكل الذي بمناسبته عرفت السياسة هذا التعريف الذي يمكن من التخلص من هذه التبعيات.
فهي ليست السياسة فن الممكن انفعالا بل هي فن التمكين فعلا وذلك بنحت الجغرافيا ورسم التاريخ للانتقال من الممكن إلى التمكن المادي والتزمين الروحي.
كل المشكل هو في تحديد حال الظرفية والمظروفية التي جعلت ذلك ممكنا فحالت دون التمكن بالحد من الإمكان لقدرة الإنسان على النحت الذي يحول المكان إلى جغرافيا وعلى الرسم الذي ويحول الزمان إلى تاريخ.
هذا النحت والرسم أصبحا بيد من صرنا تابعين له فحدد الظرفية الموضوعية ونسج المظروفية الذاتية أي إنه سيطر على الأعيان وعلى الأذهان فحال دو قدرة الإنسان على نحت المكان ورسم الزمان بما يمكن للإنسان.
ليست السياسة فن الممكن انفعالا بل هي فن التمكين فعلا وذلك بنحت الجغرافيا ورسم التاريخ للانتقال من الممكن إلى التمكن المادي والتزمين الروحي.
فالمستتبع لأهل الأقليم وخاصة لنخبه عمل بقاعدة تفكيك نحب المكان ورسم الزمان الذي كان سر قوة الإنسان فيه. فكانت فكرة القضاء على وحدة الجغرافيا ووحدة التاريخ بفكرة الدولة القومية على أساس اثني في آن مفتتة لهما وحائلة دون الاستقرار حتى في أصغرها.
ذلك أن وحدة الإثنية غير موجودة وتأسيس دولة عليها تعني الحرب الأهلية الدائمة بين الإثنيات الكثيرة في أي قسم من أرض الإسلام وخاصة في الإقليم فضلا عما يترتب عليها من جمع بين الإثنية العرقية والطائفية المذهبية وهما حائلان دون الوطنية وميسران للتبعية.
وفي هذه الحالة فإن الحرب الأهلية الدائمة تعني امتناع التنمية المادية التي هي ثمرة فاعلية التاريخ في الجغرافيا وامتناع التنمية الروحية التي هي ثمرة فاعلية الجغرافيا في التاريخ. وأصل ذلك كله هو مرجعية روحية متعالية على الاثنيات وعلى الطائفيات.
لذلك فحال الظرفية التي انتجها المستتبع هي الأداة التي انتجت حال المظروفية: صار أهل الأقليم وخاصة نخبه أكثر دفاعا عما حققه المستعمر منه وأصبحت الدولة القطرية خرافة لأنها فاقدة لشروط السيادة ولا يمكن ألا تصبح محمية.
فليس لها الحجم المناسب للتمكين وصار تفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ محددين للامتناع الموضوعي لشروط امكان التمكن المحرر من التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية بما أنتج من فقدان القدرة السياسة.
وأصبح الامتناع الموضوعي محبطا لكل امكان ذاتي فيتبع المظروف الظرف بحيث تصبح النخب هي بدورها مفتتة تفتت المكان ومشتتة تشتت الزمان ولا يبقى من عوامل الوحدة شيئ غير التبعية.
ويصبح مبدأ التوحيد الوحيد الحامي الخارجي وهو معنى الحماية التي يطلبها البعض ضد البعض وهو جوهر فرق تسد بعد أن صار التفريق مقوما بنيويا في الجماعة وصارت التوابع هي التي تطلب الحماية.
وبهذا المعنى فكل الحزيبات -220-ليست إلى أبواق المافيات الداخلية التي تمثل المافيات الخارجية وكلها لا تمثل إرادة الجماعة من حيث هي مدركة لأحياز وجودها أي جغرافيتها وتاريخها وتراثها وثروتها والعامل الموحد لكيانها توحيدا يميزها بما يحفظ تمكينها في وتزمينها.
وكلما سمعت كبارهم وصغارهم يتكلمون عن تونس وعن شروط تحريرها من ظرفيتها الحالية تبين لي أن الاستعمار قد نجح نجاحا باهرا بأن جعل كل قوانا السياسية تقبل بأن تستمد وجودها على ركح السياسية منه ومن ممثليه وليس من الأحياز الظارفة ولا من أعماق ما الإنسان المظروف فيها من فاعلية:
1 ـ التمكين الذي يحقق شروط الحصة من المكان التي من دونها لا يمكن تحقيق التنمية المادية في عصر العماليق الاقتصادية.
2 ـ التزمين الذي يحقق شروط الحصة من الزمان التي من دون لا يمكن تحقيق شروط التنمية الروحي في عصر العماليق الثقافية.
3 ـ فيحولون دون شروط القيام المادي المستقل أي شروط التنيمة الاقتصادية القادرة على تحقيق شروطها العلمية والتقنية للتعمير لأن البحث العلمي ليس في متناول المحميات التي قزمها أصحابها.
4 ـ ويحولون دون شروط القيام الروحي المستقل أي شروط التنمية الثقافية القادرة على تحقيق شروطها العملية والخلقية للاستخلاف لأن الطموح التاريخي رسالة كونية ليس في متناول التابعين.
5 ـ وأخيرا فإن مثل هذه الوضعية المادية والروحية لا تنتج إنسانا حرا يفهم معنى "معاني الإنسانية" الخلدوني فينطبق عليه نظريته في الإنسان من حيث هو "رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له".
المغرب.. "العدل والإحسان" أزمة نسق وأزمة خيار (1من2)
تعريب المناهج التربوية وسؤال الهوية.. أي علاقة ممكنة؟
أضواء على تبادل المواقع القيادية داخل إخوان العراق (2من2)