تدخل
تونس العام الحادي عشر للثورة بموجات متعاظمة من وباء كورونا، وتشهد المدينة الثانية في البلد (صفاقس) حالات إصابة كارثية، حتى أنه تم تأجيل العودة المدرسية لأسبوع آخر. ولا يبدو أن هناك حلولا جاهزة للحكومة للمواجهة، كأنها ترغب في أن تتخفف من ثقل سكاني أرهقها بمطالبه، قياسا على أخلاق الصهاينة مع الفلسطينيين (المواطن الجيد هو المواطن الميت).
وقبل كورونا وحولها تتردى الأوضاع الاقتصادية وترتفع مؤشرات البطالة، لكن عوض التقدم لمعالجة هذه المصائب بما تيسر من إمكانيات لبلد فقير ومحاصر، تفرض النقابة أجندة سياسية أخرى ليس منها معالجة الوضع الاقتصادي، بل جر البلد إلى تفاهمات سياسية تتجاوز الدستور ونتائج الانتخابات. وتتخذ إلى ذلك أسوأ الوسائل التي تملكها، من الإضرابات العامة وإغلاق المناطق بحجة لا يصدقها أحد: التنمية الجهوية، فهل يمكن التنمية بالتوقف عن العمل؟
تفرض النقابة أجندة سياسية أخرى ليس منها معالجة الوضع الاقتصادي، بل جر البلد إلى تفاهمات سياسية تتجاوز الدستور ونتائج الانتخابات. وتتخذ إلى ذلك أسوأ الوسائل التي تملكها، من الإضرابات العامة وإغلاق المناطق بحجة لا يصدقها أحد: التنمية الجهوية
فرقاء السياسة يرتعدون فرقا أمام النقابة
نكرر فكرة ونلح عليها: النقابة لا تملك أية قوة فعلية على الأرض، والضجر من أسلوب الاحتجاجات العشوائية وضع أغلب الناس ضد النقابة، فلا تسمع إلا لعنات ترتفع من جهات كثيرة؛ ليس منها طبعا
الأحزاب السياسية والبرلمانية منها بالخصوص.
كل علامات الهروب أمام النقابة اتضحت منذ ألقت القيادة النقابية بفكرة العودة إلى
الحوار الوطني، فأعلنت الأحزاب الموافقة ووضع الشروط الخجولة التي لا تقف بصراحة ضد الحوار. في الكواليس والجلسات الخاصة نسمع كلاما كثيرا عن أن الحوار غير ضروري، فأمور السياسة مبنية على نتائج الانتخابات، وقد حصلت التوافقات الضرورية لتكوين حكومة من خارج الأحزاب المنتخبة وحظيت بما يكفي من الإسناد البرلماني لتقوم بعملها في الحد الأدنى، وحتى اللحظة أظهر رئيس الحكومة وفريقه علامات مثابرة ونجاح إلا في موضوع الصحة العامة ومواجهة الوباء.
هذه الموافقة المتسرعة على الحوار تكشف مرة أخرى أن الأحزاب، بما فيها حزب النهضة، تخاف من النقابة وتهرب من رفض طلباتها السياسية وأقصى الأماني عندهم وفي مقدمتهم النهضة أن يجدوا كرسيا حول طاولة تنصبها النقابة لإملاء شروطها السياسية على الجميع.
مبرر الخوف من النقابة هو الحرص على البلد، أي بالمحصلة الرضوخ للضغط غير القانوني وغير الأخلاقي الذي تمارسه النقابة منذ 2011 على كل الحكومات؛ بمنطق فج وإجرامي: إما أن أحكم أو أن أخرب البلد على رؤوس ما فيه ومن فيه.
مبرر الخوف من النقابة هو الحرص على البلد، أي بالمحصلة الرضوخ للضغط غير القانوني وغير الأخلاقي الذي تمارسه النقابة منذ 2011 على كل الحكومات؛ بمنطق فج وإجرامي: إما أن أحكم أو أن أخرب البلد على رؤوس ما فيه ومن فيه
لا أحد ممن نرى في المشهد السياسي، بمن فيهم الرئيس المكلف بحالة الأمان العام في البلاد، يتجرأ على القول إن عمل النقابة تخريبي وأن القاعدة النقابية مغيبة عن القرارات الاحتجاجية الكبرى؛ بدليل مسارعة النقابة إلى إغلاق المؤسسات بالقوة في وجه كل رافض للاحتجاج غير القانوني.
الجميع شاهدوا تأطير النقابة لاحتجاج الجنوب بقطع غاز الطبخ على جنوب البلاد بإسناد مالي وبشري للاعتصامات الوحشية، وكان من نتيجة ذلك أن تزاحم الناس على عبوات الغاز في صفاقس وهو التزاحم الذي أدى إلى تفشي الوباء في المدينة. وفوق ذلك الجميع يشاهدون النقابة وهي تُعد لإضراب عام في المدنية في ذكرى الثورة بمطلب مثير للسخرية: "حماية سيادة البلاد".
الأغلبية الخانعة
شروط النقابة واضحة، وهي إشراكها من موقع متقدم وفعال في إدارة البلد دون التخلي عن حقوقها في ممارسة الضغط في الشارع على كل حكومة ولو كانت هي من مكوناتها. لكن المخفي داخل هذه الشروط هو تمكين الخاسرين في الانتخابات، وهذا عامود النقابة في إدارة البلد بعد أن دحرهم الصندوق وكشف حجمهم الحقيقي الأقرب إلى غبار متناثر.
هنا يتجلى أكثر خوف السياسيين ولا نعتقد أنه خوف فعلي على البلاد، فالنقابة في خطابهم شريك ولكنهم يغفلون الجملة المهمة: لماذا يخرب الشريك الذي لا سلطة فعلية له البلاد في حين أنهم يمتلكون شرعية الصندوق الذي منحهم سلطة التشريع وسلطة إسناد الحكومة التنفيذية، فمكونات الحكم القانوني بين أيديهم وليس بين أيدي النقابة إلا الصراخ، ولكنهم يفرون أمامها كما يفر الدجاج أمام الثعالب؟
ومن أغرب ما قد يقرأ المرء في هذا البلد أن كل مكونات السلطة التنفيذية تعجز عن فرض تركيب كاميرات مراقبة في المطار للحد من سرقة حقائب المسافرين؛ لأن السراق محميون من النقابة بمنطق دعه يسرق دون رقيب أو حسيب أو أغلق المطارات في وجه العالم. هل بعد هذا من عجز وهل بعد هذا من غطرسة؟ إن سمعة مطارات تونس السياحية تردت للحضيض حتى صارت محل تندر في برامج التوك شو الأمريكية. أين السياسيون؟ إنهم يتحدثون عن الماضي الوطني للنقابة، وهي علكة صودر بها حاضر البلد ومستقبله.
سيكون حوار يزيد في غطرسة النقابة
هذه حقيقة مدركة قبل الدخول في الحوار ستخرج النقابة أكثر قوة من هذ الحوار مثلما حوّلها حوار 2013 إلى قوة متحكمة في البلد من خارج كل سلطة منتخبة. الحوار في جوهره وفي نتيجته تجاوز لكل آليات الحكم التي وضعها الدستور وألزم بها الجميع الا النقابة، إنه بمنطق حسابي بسيط إلغاء لكل المكاسب
الديمقراطية التي أثمرتها الثورة وقال الناس إنها غنيمة الثورة.
الأقلية الخاسرة في كل الانتخابات هي التي حوّلها الحوار الأول إلى قوة فعالة، ورغم أن انتخابات 2014 ثم انتخابات 2019 أثبتت أنها فئة ضعيفة وبلا وزن عند الناس، إلا أنها بقرصنتها للنقابة وتحويلها الى أداة تخريب للمؤسسات العمومية خاصة قد ملكت زمام المبادرة على كل سياسي منتخب، وسرقت سلطته وهمشته، وجعلت العملية السياسية القائمة على الدستور أكذوبة عارية.
الأقلية الخاسرة في كل الانتخابات هي التي حوّلها الحوار الأول إلى قوة فعالة، ورغم أن انتخابات 2014 ثم انتخابات 2019 أثبتت أنها فئة ضعيفة وبلا وزن عند الناس، إلا أنها بقرصنتها للنقابة وتحويلها الى أداة تخريب للمؤسسات العمومية
بعد الحوار ونظن انه سيكون قبل نهاية ربيع 2021، ستكون هناك النقابة وحدها في المشهد بينما سيكون السياسيون وفي برلمانهم الذي منحهم إياه الشارع في هامش فعل النقابة، وحتى إذا حافظوا على الشكل الديمقراطي (الصوري) فسيكون أمامهم فقط تنفيذ ما تريد النقابة فلا يزيدون عليه. الحوار سيحوّل السياسيين ذوي الأغلبية إلى توابع ذليلة للنقابة التي تقودها أقلية لا يضيرها أن تخرب البلد من أجل الحكم وتحت مسمى الشراكة السياسية (يا لسخرية الأقدار من هذا الشعب الذي ينتخب ويعبث بصوته وارادته).
السياسيون الهاربون من النقابة يثبون أنهم غير أمناء على البلد رغم وعيهم بأن النقابة ليست أحرص منهم، ولكن توليهم أمام النقابة سيكون فيه فائدة على المدى البعيد. إنه الهروب المدمر للجميع، وما دام هناك بصيص أمل في صندوق انتخابي آخر ذات يوم، فإن النقابة التي تضغط بعقل إجرامي والسياسي الهارب أمامها سيخسران في أول صندوق، وسيكون هذا في رصيد من يملك ذرة شجاعة لمواجهة النقابة الآن وهنا، إن لم يكن بالفعل في الشارع فبالخطاب وهو أضعف الإيمان.
إنه أمل بعيد ولكن سيكتب مؤرخون صادقون ذات يوم أن النقابة خربت البلد والثورة، وأن إعادة الثورة إلى مسارها مر بقطع يد النقابة؛ لأن هناك قناعة تترسخ عند قطاع واسع من الناس لا يمكن لهذا البلد أن ينهض ويتقدم ما دامت هذه النقابة تفرض شروطها على مساره السياسي والاجتماعي.