أغلقت مصر قضيته مؤقتا وأعلنت أن المتهم بقتله "لا يزال مجهولا"، فيما تنهي إيطاليا التحقيقات وتوجه تهما لأربعة ضباط كبار في جهاز الأمن المصري بالتورط في قتله، من بينهم لواء من المخابرات العامة، والرئيس السابق لجهاز الأمن الوطني، وعقيد شرطة.
يكاد دمه يتفرق بين الروايات المتناقضة والمتشابكة حول
مقتله، وبين المصالح الاقتصادية التي تربط بين روما والقاهرة التي لم تتوقف منذ الإعلان
عن مقتله. دمه قد يساوي قيمة فرقاطتين (سفن حربية) وقعت مصر عقود شرائهما من إيطاليا
بقيمة مليار ونصف المليار دولار، وحقول الغاز في حوض المتوسط.
جوليو ريجيني المولود بإيطاليا عام 1988، كان طالبا في
الفلسفة لنيل درجة الدكتوراه بجامعة كامبريدج وباحثا في قضايا اتحادات العمال المستقلة.
اختفى في القاهرة عام 2016، في الذكرى الخامسة لانتفاضة
2011 التي أنهت حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، حين كان يجري بحثا عن النقابات العمالية
المستقلة في مصر لرسالة الدكتوراه التي كان يعدها.
عثر على جثة ريجيني بعد أسبوع تقريبا من اختفائه داخل
حفرة على جانب طريق القاهرة- الإسكندرية السريع (الطريق الصحراوي) غربي القاهرة، وأظهر
تشريح الجثة أنه تعرض للتعذيب قبل وفاته.
وكانت جثته مشوهة، وقد ظهرت على جسده آثار تعذيب شديد
مروع، وظهرت كدمات وسحجات في جميع أنحاء الجسم، ورضات ممتدة نتجت عن ركلات ولكمات واعتداءات
باستخدام عصا، وقد اقتلعت أظافر يديه وأقدامه، كما وجد في جسده أكثر من عشرين كسرا
في العظام، وظهر على الجثة أيضا طعنات متعددة في شتى أنحاء الجسد، كما ظهر على الجثة
العديد من القطوع والجروح نتجت عن آلة حادة يشتبه في أن تكون موس حلاقة، كما كانت آذانه
وأنفه مشوهين، وظهرت آثار حرق بالسجائر شملت الجسم كله، وعلامات صعق كهربائي على أعضائه
التناسلية، وحدوث نزيف في الدماغ وكسر أو التواء في فقرات العنق تسبب أخيرا في الموت.
اقرأ أيضا: هل تنجح مساومة القاهرة لروما بـ"الآثار" مقابل ملف "ريجيني"؟
أجرى مسؤولون إيطاليون ومصريون تحقيقات تشريحية منفصلة
في أسباب وفاة ريجيني مع طبيب شرعي رسمي مصري وتقرر أنه تم استجواب وتعذيب ريجيني لمدة
تصل إلى سبعة أيام وعلى فترات من 10- 14 ساعة قبل أن يقتل في نهاية المطاف.
أثار تعذيب ومقتل ريجيني غضبا دوليا وقام 4500 من الأكاديميين
في العالم بالتوقيع على عريضة تدعو إلى إجراء تحقيق في وفاته، وفي العديد من حالات
الاختفاء التي تجري في مصر منذ الانقلاب العسكري، ولا تثيرها وسائل الإعلام العالمية
وتمر عبر أعمدة الصحف مرورا سريعا.
عمل المحققون الإيطاليون والمصريون معا لمحاولة حل ملابسات
الجريمة. لكن مصادر قضائية إيطالية قالت إن إيطاليا شعرت بالإحباط بسبب بطء وتيرة التطورات
في القاهرة وقررت المضي قدما في خط التحقيق الخاص بها.
ممثل الادعاء الإيطالي كشف أن "شبكة نُسجت حول ريجيني
من قبل جهاز الأمن القومي المصري، استخدم فيها الجهاز الأشخاص الأقرب لريجيني في القاهرة".
وأضاف أن "مقربين من ريجيني قاموا بنقل معلومات عنه إلى أجهزة الأمن السرية".
وكانت مصر قد نفت وفاة ريجيني أثناء احتجازه لدى قوات
الأمن، ولكن المسؤولين المصريين أقروا بأن أجهزة الأمن كانت تراقبه. واختلقت عدة روايات
لإفشال التحقيق بمجرد العثور على جثة ريجيني ومن أجل أن "تموت" القضية لوحدها
بسلاح الوقت.
وقالت إحدى تلك الروايات أن فحصا للجثة أظهر أن الطالب
توفي في حادث سيارة. في حين قالت رواية أخرى إن ريجيني كان عاريا حينما عثر على جثته
وهو ما يشير إلى أن ثمة دافعا جنسيا وراء وفاته. وفي رواية ثالثة قال مسؤولون مصريون
إن ريجيني قتل على أيدي عصابة إجرامية قوامها خمسة أفراد، قتلوا جميعا في تبادل لإطلاق
النار.
اقرأ أيضا: قوى مصرية تثمن الإجراءات الإيطالية لمحاكمة قتلة "ريجيني"
وبعد نحو 5 سنوات أعلنت مصر تعليق تحقيقها بشكل مؤقت
في جريمة القتل بسب تحفظاتها على الأدلة التي جمعتها إيطاليا.
الإعلان المصري المفاجئ دفع القضاء الإيطالي إلى توجيه
الاتهامات لأربعة من ضباط الشرطة المصرية كمشتبه بهم في القضية، والمتهمون الأربعة
هم: اللواء طارق صابر، والعقيد ثائر كامل محمد، والنقيب حسام حلمي، إضافة إلى الرائد
مجدي عبدالعال شريف المتهم بالقتل العمد.
أما عن المشتبه به الخامس محمود نجم، وهو الوكيل بمديرية
الأمن القومي، فقد طلب المدعي العام عدم سماع الدعوى بشأنه لعدم كفاية الأدلة، وفق
صحيفة "كوريرا ديلا سيرا" الإيطالية.
ورغم عدم وجود اتفاقيات قضائية بين البلدين لتسليم المتهمين
أو المحكومين إلا أن رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي أعلن أن بلاده ستبدأ محاكمة
غيابية للمشتبه بهم "محاكمة حقيقية وجادة وذات مصداقية". بحسب تصريحاته
الصحفية.
ولدى المتهمين الذين أعلنت مصر رفضها تسليمهم 20 يوما
لتقديم إفاداتهم أو دفاعاتهم أمام النيابة في روما قبل أن تبدأ إجراءات محاكمتهم غيابيا،
علما بأن "الإنتربول" سيطالب بتوقيفهم في حال إدانتهم.
وتسببت وفاة ريجيني في توتر العلاقات بين مصر وإيطاليا
وسحبت روما في البداية سفيرها من القاهرة احتجاجا ثم أعادته فيما بعد، ولم تتأثر العلاقات
التجارية بين البلدين.
اقرأ أيضا: البرلمان الأوروبي ينتقد نظام السيسي بسبب حقوق الإنسان
محامية أسرة ريجيني اتهمت النظام المصري بالضلوع في مقتل
موكلها قبل نحو 5 سنوات، وذلك بعد أيام من توجيه النائب العام الإيطالي اتهامات لضباط
مصريين تمهيدا لبدء محاكمتهم.
وقالت المحامية أليساندرا باليريني في تصريح صحافي لقناة
"الجزيرة" بقطر إنها "لا تؤمن بأن الأمر بقتل الباحث الإيطالي كان فعلا
فرديا". وأشارت في هذا السياق إلى أن "حياة مواطن إيطالي لا يمكن أن يتم إنهاؤها
بشكل فردي وإنما بقرار من أعلى رأس النظام المصري"، على حد قولها.
وينظر حقوقيون إلى أن محاكمة المتورطين بمقتل ريجيني
ستكون ذات أهمية دولية، وبحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية، فإن عائلة ريجيني
أصبحت "رمزا لنضال أوسع من أجل العدالة" ليس فقط من أجل ابنهم ولكن
"من أجل آلاف المصريين الذين اختفوا وعذبوا على أيدي القوات الأمنية في البلاد"
وفقا للصحيفة البريطانية.
لكن هل الحكومة الإيطالية مستعدة لكسر التوازن الدبلوماسي
الدقيق بينها وبين القاهرة الذي يعرض المصالح الاقتصادية الاستراتيجية للخطر؟
الوكالة الإيطالية للأنباء قالت إن "على السيسي
أن يواجه لحظة سياسية داخلية حساسة، فموقفه غير مستقر من الناحية السياسية، ويبدو أيضا
أن تغيير رجل البيت الأبيض مقدمة لموقف مختلف من جانب السيسي تجاه السياسة الخارجية".
وتتركز المصالح بين مصر وإيطاليا في مجموعة إيني للطاقة
التي تدعمها الدولة، التي أعلنت اكتشاف حقل غاز طبيعي ضخم في حوض المتوسط. وأعلنت
"إيني" خطة تنمية للموقع، وتباهت بأن الصفقة ستسد احتياج مصر من الغاز لعقود.
يظل الخبراء حائرين عن السبب في مقتل ريجيني، هل كان
هذا نتيجة خطأ غريب ومهمل من شرطي صغير؟ أم قبض على ريجيني بين مجموعة من الأشخاص اعتبروا
مشبوهين بشكل عام؟ أم تم استهدافه بشكل محدد؟ ولو كان الأمر كذلك، فما سبب ذلك؟
ولا تبدو الحكومة الإيطالية غير معنية بأكثر من موقف
رمزي قوي لإسكات الضغط الداخلي، لكن بلا خطوات دبلوماسية ولا قيود من أي نوع على التعاون
بين البلدين، ولا حتى بشكل محدود في المجال الاقتصادي.
ويرى إعلاميون أن المحاكمة التي أعلنتها الحكومة الإيطالية
مجرد ترحيل للأزمة، من أجل وقف هجمة المعارضة على الحكومة والنخبة السياسية الهشة
في روما.
عائلة ريجيني تربط مقتل ابنها في سبيل قضية عادلة للشعب
المصري الذي وصف ناشطون إيطاليون طريقة اختطافه وتعذيبه وقتله "كما لو أنه كان
واحدا منهم"، كما لو أنه كان مصريا. وربما من هذه الزاوية تعبر العائلة عن مناصرتها
للشباب المصري المختفي قسريا، وأولئك الذين يتعرضون للتعذيب والمعتقلين في سجون في
مصر.
بالنسبة لباولا وكلاوديو ريجيني، اللذين لطالما ربطا
قضية ابنهما بقضية الشباب المصري في المعتقلات، المسألة ليست فقط "تعتيما" على قضية ابنهما، بل على قضايا الآلاف من الشباب المصري الذي ينتظر كذلك أن
يعرف العالم حقيقة ما يتعرضون له في السجون.