في ختام قمّتهم في بروكسل بالأمس، أصدر الزعماء الأوروبيون بياناً أشاروا فيه إلى أنّهم وافقوا على توسيع قائمة العقوبات الفردية ضد تركيا على خلفية أعمال التنقيب التي تجريها شرق البحر المتوسط. فُسّر هذا الموقف على أنّه قرار حازم يعبّر عن وحدة الموقف الأوروبي ويهدف إلى الضغط على تركيا إزاء ما يصفونه بالتحرّكات الاستفزازية التركية. أضاف البيان كذلك أنّ الاتحاد يرغب في تنسيق خطواته وإجراءاته ضد تركيا مع الولايات المتّحدة.
العقوبات المشار إليها ليست جديدة، لكن تمّ إدراج المزيد من الأفراد والشركات إلى القائمة الموجودة سابقاً والعمل على منع سفرهم إلى أوروبا وتجميد حساباتهم فيها إن وُجدت. وبالرغم من أنّها رمزيّة وليست ذات تأثير حقيقي أو فعلي على الموقف التركي أو على الاقتصاد التركي، إلاّ أنّ أنقرة اعتبرت أنّ هذه العقوبات تضر بمصلحة الطرفين وتعبّر عن موقف منحاز وغير قانوني.
حل وسط
في حقيقة الأمر، فإنّ القرار الأوروبي جاء على ما يبدو كحل وسط بين اتجاه الصقور الذي تقوده فرنسا ويضم كلا من اليونان وقبرص والنمسا، وإلاتجاه الآخر الذي تقوده ألمانيا ويضم كلا من إيطاليا وإسبانيا وبلغاريا وهنغاريا ومالطا. المحور الأوّل يريد لمصالح ذاتية جرّ جميع دول الاتحاد لاتخاذ موقف صدامي مع تركيا. فرنسا واليونان كانتا تدعوان الى اعتماد عقوبات قاسية على أن تطال قطاع البنوك والطاقة لإلحاق أكبر ضرر ممكن بالاقتصاد التركي وإجبار أنقرة على الخضوع.
في المقابل، يدرك المحور الآخر بقيادة ألمانيا أنّ هذه المطالب غير موضوعية وأنّ أي تحرّك من هذا النوع لن يضر فقط بالعلاقات التركية-الأوروبية نظراً لإغلاقه الباب أمام الجهود الدبلوماسية وتصعيد الوضع، وإنما سيضر بالوضع الاقتصادي والمصالح الإستثمارية لهذه الدول مع تركيا في وقت تسعى فيه إلى تخفيف تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية بدلاً من مفاقمتها.
إنّ الإتحاد لا يطرح حلّاً للمشكلة وإنما يريد من تركيا التراجع تحت وطأة سيف العقوبات دون أنّ يُقدّم مخرجاً، وهذا الأمر يجعل تفاهم الطرفين على أرضية مشتركة أمراً صعباً للغاية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، كيف ستكون سياسة بايدن وهل ستتغير سياسة الاتحاد تجاه كذلك مع تغيّر القيادة الألمانية له؟
تعتبر ألمانيا على سبيل المثال أهم شريك تجاري لتركيا، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي ٣٦ مليار دولار، كما يحتل المواطنين الألماني المرتبة الثانية في قائمة عدد السياح الذين يزورون تركيا بواقع حوالي ٥ ملايين نسمة. نفس الأمر ينطبع وإن بدرجة مختلفة على كل من إيطاليا وإسبانيا، حي يبلغ حجم التبادل التجاري مع إيطاليا حوالي ٢٠ مليار دولار، وتستمر إسبانيا بشكل كبير في قطاع المصارف في تركيا وهو ما يعني انّ أي عقوبات حادّة لن تقتصر تداعياتها على تركيا فقط وإنما ستطال بالتأكيد هذه الدول الأوروبية.
الدول الأخرى كبلغاريا وهنغاريا ومالطا تدرك أهمّية تركيا بالنسبة الى الأمن الأوروبي، وأنّه لا يمكن صون أمن أوروبا إذا ما كان الاتحاد سيفرض عقوبات على البوابة الشرقية للاتحاد. التصريحات الرسمية التركية المعتدلة التي صدرت مؤخراً وفّرت هي الأخرى البيئة المناسبة لهذه الدول الأوروبية لمعارضة اتخاذ سلوك متشدد ضد تركيا مع حرصها طبعاً على أن تُظهر الاتحاد بمظهر المتّحد والمتماسك إزاء أنقرة.
ورقة بايدن
هناك سبب آخر قد يكون لعب دوراً في هذه المعادلة وأتاح للجانب التركي كسب المزيد من الوقت وهو ورقة بايدن. من غير المعروف حتى هذه اللحظة ما هي السياسة التي سيتّبعها بايدن للتعامل مع تركيا. هناك مؤشرات متضاربة مؤخراً، بعضها يدعو إلى التعامل بحزم مع تركيا وفرض عقوبات قاسية عليها، وبعضها يدعو إلى التفاهم والحوار لحل القضايا العالقة. وعليه، فإنّ الاتحاد الأوروبي لا يريد أن يسارع لوضع العربة قبل الحصان، وسينتظر على ما يبدو ليرى توجهات إدارة بايدن تجاه أنقرة ويبني على الشيء مُقتضاه.
من جهتها، ترغب تركيا في أن تحيّد دور الدول الأوروبية التي تستثمر في الأزمة وتعمل على تأجيجها كفرنسا، وأن يلعب الاتحاد الأوروبي دور الوسيط بدلاّ من أن ينحاز بشكل كلي إلى اليونان في مزاعمها البحرية ضد تركيا. لكنّ المشكلة أنّ الاتحاد لا يزال يتذرّع حتى الآن بما يفرضه عليه نظامه الداخلي من تضامن بين الدول الأعضاء. اليونان تدفع بسرديّة أنّ الخلاف مع تركيا ليس خلافاً تركيا ـ يونانياً بحتاً، وإنما هو خلاف تركي ـ أوروبي على اعتبار أنّ المياه هي مياه تابعة لدولة عضو في الاتحاد الاوروبي ما يجعلها مياهاً أوروبيةّ، لكن الحقيقة هي أنّ النزاع التركي ـ اليوناني شرق البحر المتوسط هو نزال بين دولتين حول حدود بحرية، ولا يجوز إقحام التجمّع الأوروبي فيه بالنيابة عن أثينا بحجّة أنّ المياه هي مياه أوروبية.
فضلاً عن ذلك، فإنّ الاتحاد لا يطرح حلّاً للمشكلة وإنما يريد من تركيا التراجع تحت وطأة سيف العقوبات دون أنّ يُقدّم مخرجاً، وهذا الأمر يجعل تفاهم الطرفين على أرضية مشتركة أمراً صعباً للغاية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام، كيف ستكون سياسة بايدن وهل ستتغير سياسة الاتحاد تجاهه كذلك مع تغيّر القيادة الألمانية له؟