في ليلة حالكة السواد من عام 2017، وبالتحديد
يوم الخامس من حزيران/ يونيو، وكأن الأمة لم يكفها نكسة هذا اليوم المشؤوم عام 67،
فكانت على موعد لنكسة جديدة، أو لنقل خيبة جديدة.
ففي ذكري هزيمة العرب النكراء، تعلن السعودية
قطع العلاقات مع قطر، بعدها بدقائق معدودة، أعلنت الإمارات نفس القرار، تلتها
البحرين ثم أخيرا مصر. الدول الأربع أعلنت مقاطعة قطر وحصارها بشكل متزامن، مما
أثار الريبة في النفوس، وأوحى للجميع بأن شيئا ما دُبر بليل مظلم ضد قطر. وأشيع
حينذاك أن هذه الدول كانت تنوي الهجوم عسكريا على قطر والقيام بانقلاب فيها،
والقبض على الأسرة الحاكمة. وكان لديهم البديل وهو الشيخ "فهد بن عبد
الله" (ابن عم أمير قطر) الذي تؤويه دولة الإمارات، وتعده لمثل هذا اليوم.
وسارعت تركيا للمصادقة على الاتفاق العسكري مع قطر، حينذاك قال الرئيس "رجب
طيب أردوغان": "لقد خسرت من قبل صديقي الرئيس "محمد مرسي"
ولست على استعداد أن أخسر صديقا جديدا".
وفشل الانقلاب في حينه، لكن استمرت المقاطعة
والحصار لدولة "قطر"، واشتغلت الآلة الإعلامية الفاجرة في تلك البلدان
الأربع في حملات إعلامية شرسة ومنحطة، وساعدتهم الكتائب الإلكترونية في إشعال مزيد
من الحرائق، لتعميق الخلاف وتعزيز المقاطعة وإحكام الحصار حول قطر.
ازدادت الأزمة الخليجية تعقيدا وجنونا، وحاول
أمير الكويت الراحل "جابر الأحمد الصباح" أن يحل الخلاف ولم الشمل
الخليجي، دون جدوي، فقد وضع الحلف الرباعي شروطا تعجيزية لإنهاء المقاطعة ورفع
الحصار، شروطا لا تقبلها أي دولة تحترم سيادتها وقرارها المستقل. كل ذلك وجامعة
الدول العربية غائبة تماما عن المشهد، وكأن ما يحدث بين أعضائها لا يعنيها، ولم
تُقدِم على أي خطوة للصلح بين الطرفين لرأب الصدع العربي، ولم تحاول أن ترفع
الحصار عن دولة عضو فيها، بل ربما ساعدت على تأجيج الصراع، فهي تدار من الطرف الذي
قاطع وحاصر قطر، وهو المسيطر على قراراتها. ومن السخرية بمكان، أن تفيق فجأة على
قرب التوصل لاتفاق مصالحة بين السعودية وقطر برعاية أمريكية ومساع كويتية، ويعلن
أمينها العام "أحمد أبو الغيط" ترحيبه بمساعي حل الأزمة الخليجية!
المؤسف والمحزن حقا في هذه الأزمة، أن الأمة
نسيت معركتها الأساسية مع العدو الصهيوني، الذي أصبح صديقا وحبيبا لتلك الدول
الأربع، وأصبحت قطر هي العدو الذي تغلق الأجواء أمام طائراته، بينما تُفتح لطائرات
الصهاينة. ورجعت هذه الدول بتاريخها لما قبل فجر الإسلام، أيام الجاهلية الأولى،
وحروب "داحس والغبراء"، وها هي تكشف عن وجهها القديم، في زمن الجاهلية
الثانية، وتعلن الحرب على قطر، لتنقسم الأمة ما بين مناصر ومعاد لأحد الطرفين
المتنازعين. ألم تكف الأمة الصراعات والنزاعات والتقسيمات الموجودة أصلا، لتزداد
انقساما وتشرذما!!
لا جدال بأن هذه الدول الأربع لم تتخذ قرار
المقاطعة دون علم الولايات المتحدة الأمريكية وإعطائها الضوء الأخضر للعملية،
وخاصة أنها جاءت بعد أقل من شهر من زيارة "ترامب" للسعودية، وحصوله على
450 مليار دولار. وقيل إن ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" طلب من
الأمير "تميم" مساهمة قطر في تلك "الجزية"، ولكنه رفض. ومن
هنا بدأ الإشكال بين الأميرين الشابين، وانحاز بالطبع ولي عهد الإمارات لأمير
السعودية الذي اختاره ابن زايد على عينه وقدمه لإدارة "ترامب"، وعزز من
مكانته لدى البيت الأبيض ليكون وليا للعهد، بدلا من "محمد بن نايف"، رجل
الـCIA، تمهيدا لاستلام عرش المملكة. فابن زايد يسعى ليطوي السعودية تحت
جناحيه، ويقود الخليج العربي، بل يحلم أن يقود الدول العربية كلها، وصولا للقرن
الأفريقي، فطموحه بلا حدود، يمتد إلى خارج بلده الصغير الحجم، الحديث المنشأ والذي
لم يتم عمره الخامسين بعد!
لقد لعب ترامب على الطرفين، لإنعاش الاقتصاد
الأمريكي وملء الخزانة الأمريكية بعشرات المليارات من الدولارات، أي
"حلبهم" حسب تعبير "ترامب" الشهير الذي دخل الموسوعة
السياسية. ففي البداية أجّج الصراع بين الطرفين، وأيد موقف الحلف الرباعي، واصدر
بيانا يتهم فيه قطر بدعم الجماعات الإرهابية، ثم استقبل بعدها أمير قطر، وأشاد
بإنجازاته في محاربة الإرهاب!
وانتعشت أيضا مكاتب المحامين وشركات العلاقات العامة
في أمريكا، جراء هذا الصراع الذي يعود بالنفع عليها، وكان العصر الذهبي لها.
فالإمارات تقيم مؤتمرات وحملات لتثبت أن قطر داعمة للإرهاب، وقطر تقيم دعاوى
قضائية ضد الإمارات والسعودية، والإمارات تريد تجميل صورتها أمام العالم، وتعهد
ذلك لشركات الدعاية، وكذلك تفعل قطر.. وهكذا أنفقت هذه الأطراف مليارات الدولارات
في صراع عبثي، لا طائل من ورائه غير إهدار طاقة الأمة وثرواتها، وآه يا أمة ضحكت
من سفاهتها الأمم، مع الاعتذار لشاعرنا الجميل "المتنبي"..
لا شك أن المتغيرات المرتقبة في البيت الأبيض
ورحيل "ترامب"، الأب الروحي لتلك الدول الأربع، وقدوم
"بايدن"، قد أزعجها كثيرا، وخاصة السعودية التي تريد تجنب أي احتكاك مع
الإدارة الأمريكية المقبلة، وخاصة فشلها في الخروج من حرب اليمن بعد ما يقرب من
ستة أعوام، وقضية الكاتب الصحفي "جمال خاشقجي"، وخاصة أن بايدن أشار إلى
القضيتين في خطاباته أثناء حملته الانتخابية، فأرادت السعودية التهدئة والبحث عن
حلفاء جدد، يساعدونها في الخروج من أزمتها، لذلك بدأت أيضا في التقرب إلى تركيا،
وهناك مؤشرات كثيرة لقرب إنهاء الخلاف بينهما، وهذه خطوة نثمنها، ففي تحالفهما
تتشكل قوى كبرى في العالم الإسلامي.
وكما أعطاهم "ترامب" الضوء الأخضر
لمقاطعة قطر، ها هو يأمرهم بالمصالحة قبل مغادرة البيت الأبيض، فيرسل كبير
مستشاريه وصهره "كوشنر"، في جولة مكوكية بين دول الخليج؛ ليحقق إنجازا
صغيرا على مستوى السياسة لصالح الكيان الصهيوني، لضمان الدعم الخليجي الموحد في
حال تغير السياسة الأمريكية تجاه إيران بعد استلام "بايدن" مقاليد
الحكم، ويضاف إلى اتفاقيات التطبيع التي أشرف شخصيا على إنجازها!
وعلى الرغم مما قاله أمير الكويت الشيخ
"نواف الأحمد الجابر الصباح" في رسالته للملك "سلمان"، بأن
"تمثيل السعودية للأشقاء في دولة الإمارات والبحرين ومصر، إنما يعكس المكانة
المرموقة لها ودورها الرائد في سبيل السعي لدعم أمن واستقرار المنطقة"، فان
المصالحة ستقتصر على السعودية وقطر فقط. فالسعودية تسارع في إتمام المصالحة لإغلاق
أحد الملفات التي يمكن أن تشكل إزعاجا لإدارة بايدن، كما ذكرنا، بينما الإمارات لا
تريد أن تكون تابعة للسعودية، فضلا على أنها منشغلة بدفع علاقاتها مع الكيان
الصهيوني قدما، بحيث تكون الوكيل الحصري لتل أبيب في المنطقة، ولا تعنيها المصالحة
مع قطر، فمعها الحليف الأقوى والأهم. وكذلك البحرين الغارقة في العشق الصهيوني، فهما
اختارتا العداء لقطر الجارة، وضرب كل القيم الأخلاقية والإنسانية، والأعراف
الاجتماعية بعرض الحائط، وتهللان للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتتحديان في سبيل
ذلك القوانين الدولية بالترويج للتعامل مع شركات المغتصبات (المستوطنات) في
الجولان والضفة الغربية، وهي طبقا للأمم المتحدة، مستوطنات مقامة على أراض
فلسطينية وسورية محتلة، ومن العار أنهم يشترون ويروجون لتلك المنتجات، بينما
الكثير من الاتحاد الأوروبي يحظرها!! ولكن ماذا نقول! إنهم الصهاينة العرب الجدد،
الذين هم أكثر خطورة من الصهاينة اليهود..
أما مصر، التي أقحمت نفسها في صراع ليس لها
فيه ناقة ولا جمل، وارتضت أن تكون تابعة للإمارات والسعودية رغم حجمها وثقلها
الدولي والعربي، فموقفها غامض حتى هذه اللحظة، فمشكلة مصر مع قطر مختلفة عن
السعودية والإمارات، فهي تؤوي المعارضين للنظام، وتدعمهم عن طريق الإعلام. ولا
أعتقد أن مصر ستسعى للمصالحة أو ستلبي طلبا من السعودية أو غيرها لإنهاء الحصار،
كي لا تريق ماء وجهها وتظهر كأنها دولة تابعة، وليست دولة محورية لها الصدارة، كما
كانت على مر تاريخها..
لا شك أن كل عربي يتمنى أن تزول الخلافات بين
الدول العربية ويسعد للمصالحة، ففي وحدتهم قوة للأمة وفي خلافاتهم ضعف وهوان لها..
twitter.com/amiraaboelfetou