كتب

الطّاهر ابن عاشور وإعادة تشكيل المنوال التشريعي المقاصدي

جمال الدين دراويل: محمد الطاهر بن عاشور قام بنقد ثقافي شجاع وعميق (فيسبوك)

الكتاب: محمّد الطاهر بن عاشور تنويريّا
المؤلف: د. جمال الدّين دراويل
النّاشر: مجمّع الأطرش لنشر الكتاب المختص وتوزيعه
الطبعة الأولى: 2020
عدد الصفحات: 261

بالرغم من تنويه د.امحمد جبرون، مفكّر ومؤرخ مغربي مختص في قضايا تطوّر الفكر الإسلامي، في كتابه "مع الإصلاحية العربية في تمحلاتها.. مراجعات نقدية" (2015)، بمبادرة حركة الإصلاح، على وجه الخصوص "السلفية الإصلاحيّة"، ورموزها مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده والكواكبي وعلّال الفاسي، بملامسة كبرى قضايا المجتمع والدّولة كالحريّة والعلم والعقل والمرأة، فإنّ كثيرين يقرّون بوجود فلجة كبيرة في محاولات الطليعة الإصلاحيّة، ارتبطت بالذهنيّة العامّة للفكر الإصلاحي التي "افتقدت إلى الشجاعة الكافية في نقد الموروث الفقهي والثقافي وما لحقه من تشوّهات ومغالطات سلبيّة".

وعلى خلاف سلفه من رموز الإصلاح في القرن التاسع عشر، يكاد ينفرد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، بوصفه وريث هواجس الإصلاح عامة وسؤاله المركزي "لماذا تقدم الأوروبيون وتأخر المسلمون؟"، بمدوّنة تتضمّن "دلائل كثيرة على أفق تحرري وتنويري واسع". إلاّ أنّه وعلى أهميّة الأبحاث التي اشتغلت على مدوّنته، مثل كتاب "شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور: حياته وآثاره" لبلقاسم الغالي وكتاب "الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ومنهجه في التفسير" لهيا ثامر العلي وتحقيق الشيخ محمّد الحبيب ابن خوجة ودراسته المعمّقة لكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور" ولمسيرة صاحبه العلميّة، فإنّها "لم تول المنزع التنويري لدى شيخ المالكية ومقوّماته العناية البحثية اللازمة". 

في هذا الإطار يتنزّل كتاب "محمّد الطّاهر بن عاشور تنويريّا"، الذي حرص فيه مؤلفه د. جمال الدّين دراويل، أستاذ الحضارة الحديثة بالجامعة التونسيّة والباحث في تاريخ الأفكار من القرن التاسع عشر إلى الثلث الأوّل من القرن العشرين والمشتغل على تجديد الفكر الإسلامي ونقد مناويله التقليدية من جانب وعلى النبش في محاولات تنويريي القرن التاسع عشر وامتداداتهم في القرن العشرين من جانب ثان"، على تبيان تنويريّة شيخ الإسلام محمّد الطّاهر ابن عاشور (1879 ـ 1973) وعمله طيلة حياته المديدة في ضخّ روح "التحرير والتنوير" في شرايين الثقافة العربيّة الإسلاميّة حتى "يضرب فيها "صبح قريب" يُشِعّ بأنوار الإيجابيّة والحيويّة والتقدّم بعد أن أتى عليها حين من الدّهر ووجهتها الغالبة سلبيّة وعتمة.  

وقد اعتمد دراويل لتبيان ذلك على ما أسماها بالمقاربة التحليليّة النقديّة التي جاست خلال مدوّنته ونبشت فيها نبشا وتتبّعت تطوّرات مسيرته. وقد بنى دراويل كتابه الذي هو ثمرة تعاونه مع وحدة البحث "الظاهرة الدّينيّة بتونس" بكليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، على فصلين اثنين الفصل الأوّل بعنوان "التنوير منهجا وطريقة" والفصل الثاني بعنوان "التنوير أفكارا وأنظارا".

تجاوز ابن عاشور لذهنيّة الإصلاح في القرن التاسع عشر

يقف جمال الدّين دراويل، في كتابه "محمد الطاهر بن عاشور تنويريّا" على حقيقة بحثيّة مفادها تجاوز ابن عاشور لذهنية الإصلاح في القرن التاسع عشر، التي تعاملت في وجهتها الغالبة مع الثقافة العربية الإسلامية على سبيل الاطمئنان واعتبرتها صالحة مصلحة. إذ قام ابن عاشور بنقد ثقافي عميق وشجاع بيّن من خلاله ما تنطوي عليه هذه الثقافة من تشوّهات ومغالطات وترّهات وسلبية، مثلت عاملا أساسيا من عوامل التخلف أولا، ثم انبرى ثانيا إلى إنتاج مناويل وأنظارٍ فكرية جديدة في التشريع وفي التفسير وفي الحديث وفي تحقيق التراث الأدبي أعادت للثقافة العربية الإسلامية عافيتها وإيجابيها ، من منطلق وعيه أن ذلك دعامة أساسية لبناء ذهنية العطاء والبناء وشرطا لازما للتقدم.

ويؤكّد دراويل على أنّ ابن عاشور قد ركّز في مقاربته التنويرية على إعادة الاعتبار إلى ثلاثة مباحث كبرى  الإنسان، الحريّة والاجتهاد. فقد استحضر ابن عاشور كينونة الإنسان وقيمته وكرامته ودوره في صناعة تاريخه وهندسة حضارته، وقعّد للحرية أصلا عتيدا ومقصدا عظيما من مقاصد التشريع وقد أولى الاجتهاد الدائم مكانته، نظرا وعملا باعتباره آلة هذا التشريع وشرطا للتمدن والتحضر.

 

ابن عاشور، ومن منطلق نزوعه التنويري التحرري، ما فتئ يدعو في كتبه وفي ما نقل عنه نجله الشيخ محمّد الفاضل، إلى "ضرورة استكمال ما بدأه، إذ كان يعتبر أنّ ما أنجزه مقدّمات ومشاريع غير مكتملة ولا يراه نهاية مطاف العلم والبحث

 



ويلاحظ دراويل أن هذه المرتكزات الثلاثة عند ابن عاشور تشتغل ضمن نسق تكاملي يتجه الى تحقيق غاية أساسية وهي تشكيل الذهنية الايجابية والمبادرة التي تصنع التقدم.

ويخلص دراويل إلى أنّ ابن عاشور، ورث سؤال التقدم عن مصلحي القرن التاسع عشر ، لكنه دخل في تشريح هذا السؤال وتفصيل منطوياته وبيان مقتضياته ، ليخطوَ بذلك خطوة متقدمة عن وعي أساتذته من رجال الإصلاح الذين اتسم تفكيرهم بالمحدودية والسطحية والشعارات العامة ، وليفتح الطريق لمن يأتي بعده للدخول في تفصيل التفصيل.

مهادنة المحافظة وهشاشة الوعي بالمقدّس الوطني

خصّص الكاتب جمال الدّين دراويل "كلمة أخيرة" عنونها بـ"مهادنة المحافظة وهشاشة الوعي بالمقدّس الوطني" أتى فيها على موضوعين إثنين طالما مثّلا مجال نقد لاذع لابن عاشور قديما وحديثا . ذاكرا في الصّدد أنّ "ما تقدّم بيانه في الكتاب من ركائز المنزع التنويري لدى ابن عاشور لا ينفي أنّه ركن إلى المحافظة وهادنها في مناسبات مختلفة لأسباب ذاتيّة تتمثّل في حرصه على اجتناب أذى محتمل قد يناله من ناحيتها ولأسباب موضوعيّة تتمثّل في أنّ التوازنات داخل مؤسسة جامع الزيتونة وداخل مؤسسات المجتمع والدّولة كانت لصالح المحافظة". 

ويرى دراويل أنّه في هذا الإطار، انخرط ابن عاشور في الردّ على كتاب علي عبد الرّازق "الإسلام وأصول الحكم" برسالة صغيرة وسمها بـ"نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم" نشره سنة 1925 وناقش فيه عبد الرّازق ما قال أنّه "هدوء وبعد عن التجريح والاتهام". 

ويضيف دراويل بالقول في هذا الباب أنّه بالرغم من منزع ابن عاشور التحرري التنويري، فقد بقيت ثقافته السياسيّة التقليديّة تتسرّب بين الفينة والأخرى إلى بعض أفكاره. وهو ما يعبّر وفق رأيه عن "تجاذب الثقافتين التقليديّة التي تمثّل القاع العميق لتكوين ابن عاشور". ويرى دراويل أنّ "مسؤوليّة ابن عاشور، بوصفه عضو اللجنة التي شكّلتها النظارة العلميّة لجامع الزيتونة للنظر في كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحدّاد سنة 1930، ثابتة في ما تعرّض له الحدّاد من محاصرة وعقاب". 

بيد أنّ دراويل يستدرك ليطرح سؤال: " لماذا لم يتصدّ ابن عاشور وهو الأرسخ قدما في العلم من محمّد الصّالح بن مراد، مؤلف "الحداد على امرأة الحدّاد"، ومن عمر البرّي المدني، مؤلف "سيف الحق على من لا يرى الحق"، وهو الأرسخ قدما في العلم منهما وأعلى منهما رتبة علميّة وأكثر منهما تأليفا، للردّ على الحدّاد بصفته الشخصيّة؟".

ويخلص دراويل، في إجابته على هذا السؤال، إلى أنّ "الصّراع المتصاعد بين الشيوخ البلديّة الذين يعتبرون جامع الزيتونة خاصّة والمؤسسات العلميّة والدّينيّة والقضائيّة عامّة منطقة نفوذهم التي لا ينافسهم فيها أحد من جانب و"الشباب الأفاقي القادم من دواخل البلاد والمتوثّب لاكتساب مكانة داخل جامع الزيتونة، من جانب ثان، كانت وراء نهوض "الشيوخ البلديّة" للتصدّي للطاهر الحدّاد". وبذلك يؤكّد دراويل مناصرة ابن عاشور النزوع الطّبقي والتراتبي الذي أكّدته لاحقا مؤازرة الشيخ بن مراد، أبرز المناوئين للحدّاد، لتأسيس الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي. أي أن صراع هذا الأخير مع الحداد لم يكن صراعا فكريّا.

ابن عاشور ونقد مناويل الفكر التقليدي

نظّمت "وحدة البحث في الظاهرة الدينيّة في تونس" بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة، يوم السبت 9 مارس 2019، مناظرة بين د. جمال الدين دراويل والأستاذ المحامي محمد رضا الأجهوري، أستاذ القانون الجنائي والقانون الإسلامي المقارن، حول "الفكر الديني لدى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بين المحافظة والتجديد"، وهو نفس المبحث الذي تناوله دراويل في هذا الكتاب بالدراسة والتفصيل.  وقد أكّد دراويل حينها على أن ابن عاشور "عرف منذ نشأته الأولى بكونه سفير الدعوة التجديدية التي كان رمزها في تونس الشيخ سالم بوحاجب، وفي مصر محمد عبده، مستدلاّ على ذلك من خلال المراسلات السرية بين الرجل والشيخ الزيتوني المجدد محمد النخلي القيرواني، ففي إحدى الرسائل وصف ابن عاشور المحافظين بكونهم "أنيميا الدين".
 
وشدّد دراويل على أنّ الطاهر بن عاشور "فتح عبر كتابه "أليس الصبح بقريب"، حول التعليم الزيتوني، بابا لم يتجاسر شيخ من الزيتونة على فتحه"، فقد نقد مناويل الفكر التقليدي". بيد أنّ جمال دراويل يعيب على الشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور عدم تجاسره على تبنّي المشروع الوطني التحريري باعتبار أنّ"المقدّس هو المقدس الوطني"، وهو ما أدركه تلميذه الجزائري عبد الحميد بن باديس.
 
في المقابل شدّد الأجهوري، في إطار مناقشته لطرح د. جمال دراويل، الذي ضمّنه في كتاب الحال، على أنّ "بحث مسألة التجديد عند ابن عاشور، يجب أن يطرح في إطار المقارنة مع اجتهادات غيره من المصلحين الحقيقيين مثل محمد عبده، وما كتبه الرجلان فيه تعارض تام، ولذلك يمكن أن نعتبر الطاهر الحداد، تلميذ ابن عاشور، هو الامتداد الحقيقي للفكر الاجتهادي التنويري لمحمد عبده". وأشار الأجهوري إلى أنّ ما تغيّر في آراء ابن عاشور هو مواقفه الشكلية، حيث بارك سنة 1957 مجلة الأحوال الشخصية. ويشير الأجهوري إلى ما اعتبره "تجديدا جزئيا" في فكر ابن عاشور، على وجه الخصوص فيما يتعلّق بمسألة ضرب المرأة، حيث أنصفها ابن عاشور ودعا إلى تدخل السلطة.

حمل أعباء التنوير من داخل المؤسسة العتيقة

يخلص جمال الدّين دراويل إلى أنّه يحسب للشيخ محمّد الطّاهر ابن عاشور حمل أعباء التنوير في الثقافة العربيّة الإسلاميّة المعاصرة، من داخل مؤسستها العتيقة، وأنّه لولا القيمة العلمية الكبيرة للرجل وحماية عائلة من أعرق البيوتات العلميّة ومن أشهر عائلات الأرستقراطيّة البلدية القريبة من دوائر السلطة السياسيّة، لتعرّض إلى أخطر ممّا تعرّض له الشيخان عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحدّاد.

ويضيف دراويل بالقول إن ابن عاشور تفطّن منذ بداية القرن العشرين إلى أنّ المؤسسة العلميّة التقليديّة "مطالبة بتجديد دمائها إن رامت القيام بدور إيجابي للمجتمع وأنّ الثقافة العربيّة الإسلاميّة مدعوّة بصرامة إلى إعادة بناء مناويلها في ضوء النقد الثقافي والتفاعل الإيجابي مع مبتكرات الفكر الإنساني، بعيدا عن هواجس الصراع والدّفاع الغريزي عن الذّات".

ويلفت دراويل الانتباه إلى أنّ ابن عاشور، ومن منطلق نزوعه التنويري التحرري، ما فتئ يدعو في كتبه وفي ما نقل عنه نجله الشيخ محمّد الفاضل، إلى "ضرورة استكمال ما بدأه، إذ كان يعتبر أنّ ما أنجزه مقدّمات ومشاريع غير مكتملة ولا يراه نهاية مطاف العلم والبحث".