الكتاب: "تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم"
الكاتب: د. عيد مرعي
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2020
عدد الصفحات: 350 صفحة من القطع الكبير.
يتصف المشرق العربي القديم (بلاد الرافدين ـ سوريا القديمة ـ مصر القديمة) بأنه المهد الأول للحضارة الإنسانية، فهنا نشأت الحضارات الأقدم في تاريخ البشرية كالحضارات السومرية والأكادية والبابلية والآشورية والإبلوية والأوغاريتية والفينيقية والآرامية والمصرية القديمة. وفي أودية أنهار دجلة والفرات والبليخ والخابور والعاصي والنيل وسهول سوريا، عرف الإنسان ولأول مرة في حياته الزراعة والاستقرار، وتربية الحيوانات، وبناء البيوت والمعابد والقصور والزقورات والأهرامات والمسلات، وصناعة الأواني الفخارية، والأنسجة، وسبك المعادن، والكتابة الصورية والمقطعية والأبجدية، وبناء القرى والمدن، ونشوء الدول والممالك والإمبراطوريات، والفنون بأنواعها المختلفة كالشعر والأساطير والملاحم والقصص والحوليات والتقويم والهندسة والفلك والحساب والرياضيات والطب والصيدلة وغيرها.
إن هذه الإنجازات المهمة والحاسمة في تاريخ البشرية لم تكن عمل الرجل وحده، بل ساهمت المرأة في تحقيق ذلك بوضوح. فالمكتشفات الأثرية تظهر أن المرأة أدت دوراً مهماً في حياة المجتمعات الأولى التي نشأت في عصورما قبل الكتابة (ما قبل التاريخ) عندما كان الإنسان يعيش حياة الحل والترحال متنقلاً من مكان إلى آخر جامعًا للقوت مما تجود به الطبيعة من ثمار وغلال طبيعية. فقد كانت عماد الأسرة تنجب الأطفال وتربيهم وترعاهم وتدبر أمور المنزل وتطحن الحبوب وتحضر الطعام، وتقف بالإضافة إلى ذلك، إلى جانب الرجل في مختلف نشاطاته الحياتية بقدر ما تسمح به ظروفها وإمكانياتها الجسدية.
في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان "تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم"، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2020، والذي يتكون من مقدمة، وثلاثة فصول كبيرة، يستعرض فيه الكاتب تاريخ المرأة في المشرق العربي القديم منذ عصور ما قبل الكتابة حتى العصر الروماني ـ البيزنطي، موردًا أسماء أشهر النساء في المجالين الديني والدنيوي، ويبيّن الدور الأهم للمرأة في المجال الديني، إذ كانت آلهة تهب الخير والخصوبة للإنسان من خلال التوالد والإنجاب. فلولاها لما أمكن للحياة أن تنشأ أو تستمر، وغيابها يؤدي إلى توقف الخصوبة بين الكائنات الحية. لذلك فقد اكتسبت قداسة كبيرة، وبنيت لها المعابد، وأنشدت لها الأغاني والترانيم الدينية التي تمجدها على الدوام.
لكن إلى جانب دورها الديني أدت المرأة في جميع حضارات الشرق القديم دوراً دنيوياً لا يقل أهمية عن دور الرجل شريكها في الحياة، فاعتلت العرش الملكي شريكة لزوجها، أو ملكة وحدها، بمهارة وذكاء تعادل إنْ لم تتفوق على مقدرة الرجل وحنكته وذكائه.
ويستند الكاتب إلى الوثائق المكتوبة والآثار القديمة المكتشفة في مختلف مناطق المشرق العربي القديم، والمراجع العربية والأجنبية الموثقة، التي ذكرت أسماء كثير من النساء اللواتي ما زالت شهرتهن معروفة في عصرنا الحاضر كـ سميرأميس، وحتشبسوت، ونفرتيتي، وزنوبيا، وكليوباترا، وإليسّا، وأوروبا، وغيرهن، حيث تنتمي هذه الأسماء المشهورة في تاريخ الشرق الأدنى القديم إلى الطبقة الحاكمة، أو إلى الطبقات الغنية المتنفذة في المجتمع. لكنّ ذلك لا يعني عدم بروز نساء من الطبقات الشعبية، كان لهن دور مهم في بناء الحضارات القديمة و تطورها.
المرأة في مملكة تدمر.. زنوبيا أنموذجًا
لقد كان لحركة التجارة المزدهرة بين اليمن وبلاد الشام، وبين الخليج العربي ومؤانئ البحر المتوسط، إسهام كبير في ظهور وتبلور مجتمعات مدينية عربية على تخوم صحراء الجزيرة العربية والعراق، وفي قلب بادية الشام، تميز البعض منها بطابع زراعي، وتميز البعض الآخر بطابع تجاري وبخاصة في مدن غرب الجزيرة، وجنوبها، وقامت دويلات عربية على أطراف الجزيرة مثل دولة الانباط، ومملكتي الغساسنة والمناذرة ودولة تدمر.
وتعتبر تدمر واحدة من أمهات مدائن الشرق في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، ويكاد صعودها إلى قمة مجدها الاقتصادي يضاهي صعود بعض مدائن أوروبا الغربية وايطاليا في عصر النهضة الأوروبية. وقد ساعدتها العوامل الاقليمية المحيطة على اعتلاء قمة المجد الاقتصادي، والسياسي هذا، خصوصاً بعد تدهور كيان دولة الانباط وسقوطها ،وافول نجم عاصمتها البتراء في العام 106م/، وورثت تدمر المكانة الرئيسية التي كانت تحتلها البتراء، فأصبحت بذلك مركزاً مهما للنشاط التجاري، وللطرق التجارية الدولية، التي تربط الشرق (بلاد الساسانيين ـ ايران والهند، والصين من جهة) بالغرب ـ أوروبا من جهة أخرى. وغدت حلقة أساسية في طريق الحرير الهامة بين الصين والعالم الروماني التي كانت من مسالك التفاعل الحضاري في العالم القديم، فتوسعت تجارتها وزاد عدد قوافلها، وحصلت على ثروة طائلة.
شكَّلتْ تدمر مركزاً مهما بين الشرق والغرب، وكانت عقدة من العقد الخطيرة في العمود الفقري لعالم التجارة بعد الميلاد، تمر القوافل تحمل أثمن البضائع في ذلك الوقت، كانت على اتصال بأسواق العراق، وما يتصل بالعراق من اسواق في ايران والهند والخليج والعربية الشرقية.
وهكذا عرفت تدمر أكبر قدر من الازدهار الاقتصادي، فأكملت بناء معابدها الجديدة، وجددت بناء الأجزاء القديمة منها أو وسعتها وحسنتها، وأنجزت بناء السوق العامة (الاغوارا)، وتشهد على ذلك آثارها الكثيرة التي ماتزال حتى الآن كقوس النصر والشارع المستقيم ومعبد بعل والكثير من المدافن والمنحوتات (على الرغم مما لحقها من تخريب وتدمير على أيدي الجماعات الإرهابية في عام 2015). وأخذت تنشئ المدائن الضخمة، ووصلت تدمر في جمالها وفخامة عمرانها إلى مصاف مدن العهد الروماني في سوريا وخارجها. ويرد ذكرها مراراً في محفوظات ماري الملكية (القرن الثامن عشر قبل الميلاد) كمدينة مهمة على طرق القوافل التي كانت تربط بلاد الرافدين مع سوريا، بلغت أوج ازدهارها في القرن الثالث الميلادي، ولا سيما في عهد ملكها "أذينة الثاني" وزوجته المشهورة" زنوبيا".
وتبلورت في تدمر طبقة ارستقراطية كبيرة وشديدة الثراء تضم التجار أصحاب القوافل، والوسطاء، والوكلاء والصيارفة، وكنتاج لثرائها، كانت هذه الطبقة شديدة الولع ببناء المعابد الضخمة والتماثيل التي لا تحصى، والحمامات، والمسرح وقاعات الولائم، والمجالس العديدة، وهذا دليل قوي على اهتمام هذه الطبقة بالجوانب الثقافية والروحية، فضلاً عن حبها للبذخ والترف والجاه.
شكَّلتْ تدمر مركزاً مهما بين الشرق والغرب، وكانت عقدة من العقد الخطيرة في العمود الفقري لعالم التجارة بعد الميلاد، تمر القوافل تحمل أثمن البضائع في ذلك الوقت، كانت على اتصال بأسواق العراق، وما يتصل بالعراق من اسواق في ايران والهند والخليج والعربية الشرقية. كما كانت على اتصال بأسواق البحر المتوسط، ولاسيما ديار الشام ومصر، كما كانت على اتصال بالعربية الغربية وباسواقها الغنية بأموال افريقية والعربية الجنوبية والهند، ان هذه التجارة هي التي احيت تلك المدينة، كما أن تغير طرق المواصلات بسبب تغير الأوضاع السياسية هو الذي شل جسم المدينة، فاقعدها عن الحركة بالتدريج.
ولما كانت العلاقات التجارية مع الدول المجاورة قوية، فقد كان لتدمر علاقات سياسية مع الفرس والرومان والروم، والقبائل العربية في البادية التي لم يكن من الممكن مرور قوافلها في أرضها بسلام مالم يتفق مع سادتها على دفع اتاوة سنوية. وهذا ما دفع هذه المدينة التجارية والمتوقفة حياتها على التجارة، التي هي عرضة لأطماع الطامعين من قبل الدول القوية التي تخوض صراعاً تنافسياً للسيطرة عليها إلى بناء جيش ضخم قوي.
وقد منحت (تدمر) درجة مستعمرة رومانية عليها، فاكتسبت بذلك حق الامتلاك التام والاعفاء من الخراج والحرية الكاملة في إدارة سياسة المدينة، ونالت الحقوق الايطالية منحت هذه الدرجة في أيام (هدريانوس) أو في أيام (سبتيموس سويروس) (193 ـ 211م) على رأي آخر.. ولكن منحها درجة (مستعمرة) لا يعني أنها صارت مقاطعة رومانية مئة بالمئة ن بل كانت في الواقع حكومة مستقلة ذات سلطة واستقلال في ادارة شؤونها خاضعة خضوعاً شكلياً لحكم الرومان. كما وفي ظل تمتع التدمريين بهذا الاستقلال النسبي، استغلوا فرصة انشغال الدولة الرومانية بمقاومة الغزوات الجرمانية التي باتت تهدد دولتهم في أوروبا الغربية، لكي يقوموا بتوسيع دولتهم، التي أصبحت تضم عدداً من الدول الصغيرة المجاورة.
ويظهر أنه كان للمرأة دور مهم جداً في حياة سكان هذه المدينة، يشهد عليه المنحوتات الكثيرة المكتشفة التي تمثل نساء في وضعيات متعددة وهن يرتدين أجمل لباس وأحسن زينة. لكن لعل أشهر نساء سوريا وتدمر بالذات في عصر السيطرة الرومانية "زنوبيا" Zenobia ملكة تدمر (240- 274م) (الاسم بالآرامية التدمرية" "بت زباي"، أي "بنت العطية" (عطية الله) فـ"بت": ابنة، و"زباي" صيغة تحبب لاسم تدمري هو "زبدا"، وتعني عطاء أو العطاء.
يقول الكاتب عيد مرعي: "يرى بعض اللغويين أنَّ اسم "زنوبيا" هو تحريف لاسم "بت زباي"، بينما يرى فريق آخر أنَّ اسم زنوبيا إغريقي، ويعني "الذي حياته مشتقة من زيوس" كبير الآلهة الإغريقية. ويرى فريق ثالث أنَّ اسم "زباي" و"زبدا" يردُ كثيراً في أسماء علم تدمرية، ويتحول باللغة الإغريقية إلى "زنوبيوس" Zenobios في حالة المذكر و"زنوبيا" في حالة المؤنث. ويبدو أنَّ زنوبيا استخدمت الصيغة الإغريقية لاسمها للتقرب من رعاياها الإغريق الذين كانوا يعيشون في مملكتها.
لعل أشهر نساء سوريا وتدمر بالذات في عصر السيطرة الرومانية "زنوبيا" Zenobia ملكة تدمر (240 ـ 274م) (الاسم بالآرامية التدمرية" "بت زباي"، أي "بنت العطية" ( عطية الله) فـ "بت": ابنة. و"زباي" صيغة تحبب لاسم تدمري هو "زبدا"، وتعني عطاء أو العطاء.
لا شيء معروفاً من أصل زنوبيا هل هي آرامية أم عربية؟ لكن المؤكد أنها كانت تعيش في مملكة يعيش فيها الآراميون والعرب وأقليات من شعوب أخرى، وتسود فيها اللغة والكتابة الآرامية وحضارة محلية عمرها آلاف السنين مع تأثيرات إغريقية ورومانية وفارسية. هناك شخص اسمه "يوليوس أوريليوس زنوبيوس: Aurelius Zenobius Julius يظهر في نقش باللغة الإغريقية على العمود القائم في الرواق الشمالي شرقي المصلبة في الشارع المستقيم أمام عمودي الملك أذينة وزوجته كـ"ستراتيجوس" Strategos (حاكم، قائد) لتدمر في العام 231- 232م.
بناء على تشابه الأسماء رأى بعض الباحثين أن هذا ربما كان والد زنوبيا. تزوجت زنوبيا في سن الرابعة عشرة من "أذينة الثاني" (بالعربية تصغير أذن، وباللغة اللاتينية أوديناتوس Odaenthus) حاكم تدمر الخاضعة للرومان، وخلفته في حكم تدمر بعد أن اغتاله الرومان خوفاً من نواياه الاستقلالية عن الإمبراطورية الرومانية وطموحاته في توحيد المشرق العربي تحت سلطته (260 ـ 267)م. كان أذينة قد ألحق هزيمة منكرة بالإمبراطور الساساني "شابور" في معركة جرت على ضفاف الفرات وحاصر عاصمته "طيسفون (المدائن) كافأه الإمبراطور الروماني "غالينيوس" Galinius (260-267م) على ذلك بمنحه لقب "قائد الشرق "Dux Orientis في العام 262م. وأطلق عليه في العام 264م.
تصف بعض كتب التاريخ "زنوبيا" بأنها كانت على قدر كبير من الجمال، "فهي سمراء المحيا ذات عينين سوداوين لامعتين ملتهبتين، لها قوام رشيق مفعم بالحيوية، رقيقة مهذبة إلى درجة يصعب فيها تشبيهها بأحد. أسنانها بيضاء كاللؤلؤ وصوتها جلي مؤثر". وكانت تتمتع بقوة جسدية كبيرة مكنتها من تحمل المتاعب في ساحات القتال. وقيل عنها إنها لم تكن تستخدم العربات في تنقلاتها، بل كانت تمتطي صهوة جوادها، أو تسير مشياً على الأقدام" (ص98- 99 من الكتاب).
قراءة تاريخية هادئة في "جذور الخوف بين الإسلام والغرب"
كيف تكونت مصر عبر العصور؟.. مؤرخ رائد يجيب
فلسطين في وعي الأحزاب المغاربية.. قراءة في كتاب (2من2)