تابع العالم قضية ذبح شاب مسلم في فرنسا لمعلم فرنسي قام بنشر صور مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالنقاش والحجاج، حول ما قام به الشاب، فما قام به المدرس مستنكر ومرفوض بلا شك، لكن أن يكون الرد عليه بقتله ذبحا على يد شاب مسلم في فرنسا، فهو أمر أشد استنكارا، لأن القتل ليس وسيلة للتعبير عن الموقف الديني، من إساءة الآخرين.
للأسف رأينا تبريرا للجريمة، واتهاما لمن يرفضها بأنه يقع تحت ضغط الغرب، والإقامة في الغرب، والحرص على جنسية الغرب، وهو كلام يمثل تعديا على الحقائق، ويمثل تجاوزا في نية وتدين أصحاب الرأي العاقل الذي يبتغي به الحفاظ على الوجود الإسلامي في الغرب.
لن أطيل في النقاش الفقهي في الموضوع، فقد قمت بكتابة كتاب مفصل فيه، نشر باللغة الفرنسية، ورددت فيه على من يجيزون مثل هذه الأعمال، ونقلت النصوص القرآنية والنبوية، وأقوال الفقهاء في ذلك، وكتبت عدة مقالات هنا في زاويتي في موقع (عربي21)، وقت حادثة شارل إيبدو الأولى، والأحداث المتكررة بعدها في الغرب.
لقد اتجه كلام العاطفيين الذين هللوا لفعل الشاب الذابح، وراحوا يقلبون في التراث لما يسند قولهم، ونسوا أمرا مهما أكد عليه القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وعلماء الإسلام، وهو: مآلات الأفعال، فالفقه الإسلامي لا يهتم بالحكم على الشيء بحكم أثره الحاضر فقط، بل ينظر إلى ما يحدثه الحكم الآن وفيما بعد، هل يؤدي إلى مصلحة أم مفسدة؟
الذين يذبحون باسم الإسلام، للأسف يوجهون السهام للإسلام وأهله، وذلك واضح من خلال نتائج أفعالهم، ومآلات ما يقومون به.
فالنظر هنا لهذه المسألة تحديدا: ماذا يستفيد المسلمون في فرنسا وخارج فرنسا بمثل هذه الأحداث؟ الإجابة: لا شيء، لا يوجد واحد بالمائة مصلحة، بل يوجد مائة بالمائة مفاسد، وهو أمر يراعيه الإسلام في تشريعاته وأحكامه، وهو ما غاب عن هؤلاء للأسف.
لقد نَبَّه القرآن الكريم على أهمية رعاية مآلات أفعال الإنسان، فقد يُمنع المسلم من فعل ليس لحرمته ابتداء، بل لأنه يجلب مضار فعليه تجنبه إذن، ومن هذا قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم).
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن بناء البيت الحرام، وذلك بعد فتح مكة: "يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا، وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم". وفي رواية: "فأخاف أن تنكر قلوبهم".
فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يرى بناء البيت على بناء الجاهلية، وهو حاكم فعلي لمكة والمدينة، ودولة الإسلام بوجه عام، لكنه راعى نفسية الناس، التي قد يؤدي ذلك إلى رد فعل على غير ما يريده صلى الله عليه وسلم، لأنهم حديثو عهد بجاهلية، ولا يزال بعض رواسبها النفسية في نفوس البعض، لذا راعى هذا الأمر. ولذا بوب الإمام البخاري لهذا الحديث بـ: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه).
فإذا كان الإسلام يطالبنا بأن نراعي نتائج أفعالنا في ما هو جائز بالأساس، وفي ما هو في باب الإصلاح، فما بالنا بما هو في باب الإضرار، والإضرار هنا ليس بشخصه وحده، بل هو إضرار بكيان المسلمين كلهم في هذه البلاد، وليتأمل معنا المهللون لهذه الفعلة المستنكرة، في ما جرته من أحداث مماثلة، وما ستجره هذه الجريمة على المسلمين جميعا من مضار.
ماذا جنى المسلمون في العالم كله، بعد أحداث سبتمبر 2001م، من ضرب البرجين في أمريكا؟ لقد تم إغلاق عدد كبير من الجمعيات الخيرية، وتم التضييق على المسلمين في معظم بلاد الغرب، والعرب كذلك، ثم تم تدمير بلد مسلم كأفغانستان، وما نقوله عن أفغانستان يقال عن دول أخرى، واستغل الحادث حكام عرب مستبدون للتنكيل بمعارضيهم في بلادهم، وأصبحت ذريعة لإيذاء أي معارض سلمي، بأنه إرهابي، أو على اتصال بتنظيمات إرهابية.
ما قام به المدرس مستنكر ومرفوض بلا شك، لكن أن يكون الرد عليه بقتله ذبحا على يد شاب مسلم في فرنسا، فهو أمر أشد استنكارا، لأن القتل ليس وسيلة للتعبير عن الموقف الديني، من إساءة الآخرين.
وعلى إطار الرسوم المسيئة، تعالوا نقوم بكشف حساب سريع، ماذا ربح خصومنا، وماذا خسر المسلمون من هذه المعركة؟ الجريدة التي كانت على وشك إعلان الإفلاس، بسبب نشرها للرسوم وردود الأفعال المتشنجة وغير المدروسة معها، انتعشت وقامت، وأصبحت جريدة من أكبر الصحف توزيعا.
الرسام المغمور الذي رسم الرسوم، ولم يكن له ذكر، أصبح معروفا، ويكرم من جهات عدة، وهذا ما يذكرني بشخص آخر وهو حيد حيدر، وقد ألف رواية: وليمة لأعشاب البحر، لم يكن له ذكر، ولم يكن له أي قيمة أدبية، وروايته تافهة، وبعد الضجة التي افتعلت وتم الرد بها، أصبح معروفا، ولا يذكر أحد منا له أي رواية، أو عمل أدبي، سوى روايته السخيفة، التي لا قيمة لها. فمن المستفيد هنا؟
وفي فرنسا، بعد هذا الحادث، هناك نية، لجعل الرسوم المسيئة كلها في كتاب، وتفكير في تقريرها على طلاب المدارس، الآن هو مقترح، وغدا تحت ضغط اليمين المتطرف، ربما يقبل، فبعد أن كانت رسوما لا قيمة لها، تشاهد في صحيفة مغمورة، ستتحول لمقرر رسمي، يجبر المسلمون على رؤيتها، ودراستها.
وعلى المستوى السياسي، اليمين المتطرف، يتخذ كل هذه الأفعال ذريعة وإثباتا لوجهة نظره تجاه المهاجرين المسلمين، وذريعة للتضييق على المراكز الإسلامية، وعلى العمل الإسلامي في أوروبا كلها.
حينما وصف ماكرون الإسلام بأنه مأزوم، فرد عليه أردوغان: بأن ما قاله ماكرون قلة أدب، رد سلمي ومناسب وبليغ وموجع، أبلغ مليون مرة من أي حادث عنف يرد به إنسان يفعل ذلك ظانا أنه يخدم دينه وأمته، وهو يضرهما معا، من حيث يدري أو لا يدري.
رحم الله الدكتور محمد عمارة، بعد أحداث مظاهرات رواية: (وليمة لأعشاب البحر)، وكان رحمه الله يرى أن الأفضل إهمال هذا المؤلف وروايته تماما فيموت ذكرها، فذهب إليه موظف في وزارة الثقافة، وقال له: يا دكتور هناك عشر روايات في درج وزارة الثقافة، تنوي الوزارة طباعتها، وهي أشد من وليمة لأعشاب البحر، هل تريد أن أعطيك نسخا منها، لتخبر الناس بهذه الجريمة؟ فقال له عمارة: أرجوك، أغلق عليها الدرج، ولا تخرج الخبر لأحد، فكفانا ما جرى، وما نتج عن الرواية.
هذه مساحة للأسف تغيب عن أذهان كثيرين ممن ينظرون على مواقع التواصل الاجتماعي، في مثل هذه الأحداث الجسام في حياة الأمة، متغافلين عن أن القضية ليست قضية شخصية، بل قضية شأن عام يتعلق بالمسلمين في الغرب والعالم كله، فالذين يذبحون باسم الإسلام، للأسف يوجهون السهام للإسلام وأهله، وذلك واضح من خلال نتائج أفعالهم، ومآلات ما يقومون به.
Essamt74@hotmail.com
جريمة ذبح المعلم الفرنسي وتسويغ ما يجب إنكاره
ذبح مدرس فرنسي جريمة إرهابية.. فما وراءها؟
الحساب يوم القيامة فردي أم جماعي؟!