من أبرز الكتب عن أوروبا، على مر أحقاب تاريخها وحتى تطوراتها المعاصرة، كتاب المؤرخ البريطاني "نورمان دافيس": "عن أوروبا"، الكتاب الموسوعي والعمل المرجعي، الذي يتميز بشمول وتوازن تغطيته، وكتاب المؤرخ الأسترالي "جون هيرست": "أوروبا.. تاريخ وجيز" الذي اخترناه لنتناوله هنا بالعرض والتقويم. وقد أصدرت دار الشروق المصرية طبعة جديدة له عام 2019، ترجمها الدكتور محمود محي الدين الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، الذي يشغل حالياً منصب النائب الأول لرئيس البنك الدولي.
أما مؤلف الكتاب جون هيرست (1942- 2016) فهو كاتب ومؤرخ ولد في أستراليا، كان أستاذا بجامعة "لاتروب" في "ملبورن"، وظهر كتابه هذا في قائمة أفضل الكتب، وترجم إلى تسع لغات، يتناول بأسلوب مشوق التاريخ الأوروبي بعصوره المتتابعة، وكما يقول مترجمه: "بعد انتهائك من قراءته، سيتركك تفكر وتقارن بين أحوال الأمم بذخيرة من عبر التاريخ وتداول أيامه بين الناس".
والكتاب غير معني بتناول موضوعات التاريخ بوصفها قصصاً لها بداية وعقدة ونهاية سعيدة أو تعيسة، لكنه يركز على المكونات الرئيسية للحضارة الأوروبية وكيفية تفاعل هذه المكونات مع تطورات التاريخ تأثيراً وتأثراً عبر الزمن، ومع ذلك لا يخلو الكتاب من رواية وقائع تاريخية ذات دلالة بأسلوب قصصي جذاب برغم ما تنطوي عليه من مآس إنسانية.
والمؤلف نفسه في تمهيده لكتابه، يقول بوضوح: "هدفي في هذا الكتاب أن أستعرض العناصر الرئيسية للحضارة الأوروبية وأن أنظر في كيفية تطورها عبر الزمن، وأن أعرض كيف تتخذ الأشياء الجديدة أشكالها من تلك القديمة، وكيف يتماسك القديم ويعود؟".
بل يقول المؤلف بجلاء وتحديد: "بعد استعراض الكتاب للعصور الكلاسيكية، يركز على أوروبا الغربية. فليست كل أجزاء أوروبا بذات الأهمية في تشكيل الحضارة الأوروبية. فالنهضة في إيطاليا، والإصلاح في ألمانيا، والحكومة البرلمانية في إنجلترا، والديمقراطية الثورية في فرنسا.. كان لها آثار أكبر من تقسيم بولندا (على سبيل المثال)..".
يستهل المؤلف كتابه بالقول:
تكونت الحضارة الأوروبية في بدايتها من ثلاثة عناصر: ١ ـ ثقافة الإغريق والرومان، ٢ ـ المسيحية، ٣ ـ ثقافة المحاربين الجرمانيين الذين أغاروا على الإمبراطورية الرومانية وداهموا أراضيها. وكانت الحضارة الأوروبية مزيجاً من هذه العناصر.
وترد في الفصل الأول من الكتاب هذه الصيغة اللافتة المقارنة:
ـ لقد كان الرومان أفضل من الإغريق في الحروب، وكانوا أفضل منهم في القانون الذي استخدموه في إدارة شؤون الإمبراطورية. وكذلك كانوا أفضل في الأعمال الهندسية، فاستعانوا بها في الحروب وتنظيم الإمبراطورية، ولكن فيما عدا ذلك، اعترف الرومان بأن اليونانيين القدامى كانوا أفضل منهم، فنسخوا ما فعلوه واقتفوا آثارهم. فتجد النخبة من الرومان يتحدثون اليونانية واللاتينية، لغة الرومان، ويرسلون أبناءهم إلى أثينا للدراسة في جامعاتها، ويتخذون عبيداً يونانيين يستأجرونهم لتعليم أطفالهم في البيوت. لذلك عندما نتحدث عن الإمبراطورية الرومانية باعتبارها يونانية ـ رومانية، فلأن الرومان أرادوها كذلك" (ص 27).
اعتقد المفكرون والكُتاب في عصر النهضة أن الفن والأدب والمعرفة اليونانية والرومانية يمكن فقط التساوي معها، ولا يمكن التفوق عليها. ولهذا أطلقوا عليها وصف كلاسيكي، بمعنى الأفضل. تجادل الناس لقرنين كاملين حول إنجازات القدماء مقارنة بالمعاصرين. ولم ينته هذا الجدل إلا في القرن السابع عشر، عندما تم إثبات أن علم اليونان كان مخطئاً فيما يتعلق بالشمس والأرض والكواكب والنجوم. ومن هذا الوقت لم تعد هناك للكلاسيكيين قداسة، وعقدت آمال أكبر على ما يمكن للمعاصرين تحقيقه. لكن في بعض حقول العلم، كانت نقطة البداية هو ما كتبه اليونانيون والرومان. ومازال ممكناً حتى وقتنا الحالي أن يأتينا هذا "الشعور الكلاسيكي" عندما نتأمل ما فعله هؤلاء العظماء.
مازال الفلاسفة الثلاثة الكبار الآتون من آثينا ـ "سقراط" و"أفلاطون" و"أرسطو" ـ قوى عظمى في علم الفلسفة. وقد قيل إن كل الفلسفة الغربية مجرد هامش لما كتبه "أفلاطون". وارتبط الثلاثة بعلاقة وطيدة. فأفلاطون سجل كلمات سقراط، الذي أبدع الفلسفة كحوارات مع تلامذته. وكان "أرسطو" تلميذاً لـ "أفلاطون".
لم يدع "سقراط" أنه يعلم الحقيقة، بل يبني الطريقة التي توصل إليها، وهي أساساً بأن تتساءل عن كل شيء، وألا تقبل شيئاً بمعناه الظاهر، ويفترض أن الرأي المعتاد ليس له أسس منطقية. فيسأل "سقراط"، مثلاً، بما يظهر أنه سؤال بسيط: من هو الإنسان الجيد؟ فيرد أحد تلامذته برد ما، فيسترسل "سقراط" مظهراً ما في الإجابة من عوار، فيجيب التلميذ، أو آخر من التلامذة بإجابة أخرى، ولكن بدقة أكبر.
وتتوالى الأسئلة والإجابات بتوضيح أكبر. اعتقد "سقراط" أنه إذا كان عقلك صافياً، ذكياً، يمكنك التوصل للحقيقة. لست مضطراً لتعقب الحقيقة، أو تقوم ببحث حولها. الحقيقة موجودة، وما عليك إلا تربية عقلك لتمسك بها.
عاش "سقراط" و"أفلاطون" و"أرسطو" في أثينا، عندما كانت ديمقراطية، في القرنين الخامس والرابع قبل ميلاد المسيح. وكان ثلاثتهم من المنتقدين للديمقراطية، وسقط "سقراط" ضحية لأثينا الديمقراطية. فقد حوكم لإنكاره للآلهة، وإفساد أخلاق الشباب. وكان دفاعه أنه لم يكن مصراً على أن يتبعه أحد في آرائه.
وهذه الطريقة مازالت تحمل اسمه: الطريقة السقراطية. وهي الطريقة التي تتبع في دور العلم، حيث لا يطلب من المعلم أن يتلو المعلومة أو القانون، ولكن يساعد التلاميذ على التفكير بوضوح، ويشارك معهم في مناقشة مثمرة، على مثل هذا النحو:
المعلم: أماندا، ما هي الثورة؟
أماندا: إسقاط حكومة بالقوة.
المعلم: ماذا لو كانت دولة يحكمها ملك، فيقوم أخوه بقتله ليصبح ملكاً مكانه ـ هل هذه ثورة؟
أماندا: لا.
المعلم: إذن ليس كل حالات استخدام القوة، لتغيير الحكومات، ثورات.
أماندا: حسناً، ليس في كل الحالات.
المعلم: إذن ما هو المطلوب، بالإضافة لاستخدام القوة، لصنع الثورة؟
هناك فخ في هذه الطريقة. فالأذكياء يستطيعون التمييز، دون الكثير من المعرفة.
عاش "سقراط" و"أفلاطون" و"أرسطو" في أثينا، عندما كانت ديمقراطية، في القرنين الخامس والرابع قبل ميلاد المسيح. وكان ثلاثتهم من المنتقدين للديمقراطية، وسقط "سقراط" ضحية لأثينا الديمقراطية. فقد حوكم لإنكاره للآلهة، وإفساد أخلاق الشباب. وكان دفاعه أنه لم يكن مصراً على أن يتبعه أحد في آرائه. هو ببساطة قام بسؤال الناس حتى تكون لديهم أسبابهم فيما يعتقدون. ووجد 501 من المحلفين "سقراط" مذنباً، وإن كان التصويت متقارباً. وكان على المحلفين أن يقرروا أي عقوبة سيفرضون عليه. وقد طالب الإدعاء بالموت لـ "سقراط". وعند هذه النقطة، كان على المتهم أن يكون معتذراً، وأن يأتي بزوجته وأطفاله مطالباً بالرحمة. لكن "سقراط" رفض أن يتنازل، وتساءل، ما هي العقوبة المناسبة لشخص شجعك أن تحسن من مستواك العقلي والأخلاقي؟ ربما معاشاً منتظماً لمدى الحياة! ربما تعاقبونني بالنفي كجزاء، ولكن إذا ما طردت من مدينة، سأفعل نفس الشئ في مدينة أخرى. حيثما سأكون، قال "سقراط"، لن أستطيع العيش دون إلقاء الأسئلة "فالحياة التي لا تختبر، لا تستأهل العيش فيها". ربما تفرضون غرامة عليَّ، ولكن لدي القليل لأعرضه، فأنا لست رجلاً غنياً.انتفض أتباع "سقراط"، وقد فقدوا الأمل في تغيير موقفه، فعرضوا دفع غرامة كبيرة، لكن المحلفين كالمتوقع آثروا إعدامه.
كانت عمليات الإعدام في أثينا سريعة، في المعتاد، لكن إعدام "سقراط" أُجل بسبب أعياد دينية. وكان يمكنه أن يهرب، وتمنت السلطات، بعض التمني، أن يفعل، ولكنه رفض هذا الخيار. لماذا التمادي في التمسك بالحياة، إذا لم أكن سأعيش للأبد؟ تساءل "سقراط".
ليس الهدف أن تعيش، ولكن أن تعيش بشكل حسن. لقد عشت حياة طيبة تحت القوانين اليونانية، وأنا مستعد للقبول بجزائي. لقد استمر فيلسوفاً حتى النهاية. ولما نزعت الأغلال عنه، علق قائلاً: "ما أقرب الألم من السعادة".
كانت وسيلة إعدام "سقراط" أن يشرب سماً مستخرجاً من نبات الشوكران. وترجاه تلامذته أن يؤخر شرب السم، إذ كان عليه أن يشرب السم في نهاية اليوم، ولم تكن الشمس قد غربت بعد وراء التلال. وقال "سقراط" إنه سيشعر بالمهانة، أمام نفسه، إذا تمسك بالحياة، وأخذ السم بكل هدوء، وبلا أي علامة لعدم استساغته قائلاً إن هذا السم يقتل سريعاً.
لقد حكيت مقتل "سقراط" بشكل فيه تعاطف مع الفيلسوف، فهل من الممكن أن تحكي هذه القصة ليكون تعاطفك مع الإدعاء؟ لقد كان ابن المدعي من المرتادين لمناقشات "سقراط"، ثم أصبح ساقطاً، معاقراً للخمر. الم يكن المدعي على حق عندما قال إن "سقراط" شخص خطر؟ إذا تم التساؤل عن كل شيء. فسيفقد الناس وجهتهم، لا يمكن العيش بالعقل وحده، يجب أن تكون هناك تقاليد، وعادات، ودين حتى يوجه الناس، ويجعل المجتمع ممكناً.
هذه حالة يصعب الجدل بشأنها. فالانحياز الآن في ثقافتنا هو لـ "سقراط". لكن الأمر لم يكن دائماً على هذا النحو، لكن شرح "أفلاطون" لموت "سقراط"، صمد أمام السنين، ليجعل منه قديس التساؤلات.
مازال "أفلاطون" هو نقطة البداية لسؤال رئيسي للفلسفة: هل خبرة أحاسيسنا، دليل جيد للحقيقة؟ اعتقد "أفلاطون" أن ما نراه ونجربه في حياتنا ما هو إلا ظل ممثل لما يوجد فعلاً بشكل كامل في حياة أخرى سامية وروحانية. توجد في هذه الحياة موائد عادية، ولكن في نطاق آخر، هناك موائد في أشكال كاملة. حتى الأفكار المجردة مثل العدل، والخير موجودة بشكل كامل في عالم آخر. وأن البشر قد جاءوا من هذا النطاق الآخر. وهم من خلال تمرين عقولهم وأرواحهم، عليهم أن يعيدوا اكتشافه. "أفلاطون" هو الفيلسوف الأعظم للمثالية، برفضه وجهة النظر المادية للعالم.
كانت وسيلة إعدام "سقراط" أن يشرب سماً مستخرجاً من نبات الشوكران. وترجاه تلامذته أن يؤخر شرب السم، إذ كان عليه أن يشرب السم في نهاية اليوم، ولم تكن الشمس قد غربت بعد وراء التلال. وقال "سقراط" إنه سيشعر بالمهانة، أمام نفسه، إذا تمسك بالحياة، وأخذ السم بكل هدوء، وبلا أي علامة لعدم استساغته قائلاً إن هذا السم يقتل سريعاً.
عرف "أفلاطون" أن الأشخاص ذوي الفهم العادي، سيرفضون تعاليمه: ولأمثالهم كانت لديه إجابة قوية إلى يومنا هذا. تخيل مجموعة من الأشخاص موثقين في الأغلال أمام كهف. لا يستطيعون رؤية ما خلفهم، ولكن يستطيعون رؤية ما في الكهف. من خلفهم الأعلى طريق، ومن خلفه نار. عندما يمر الناس والماشية والعربات بالطريق، يعكسون ظلالاً على حائط الكهف، حيث يحجبون الضوء الناجم عن النيران. لن يرى هؤلاء الأشخاص إلا الظلال، سيعرفونهم، ويتناقشون بشأنهم، ويعملون أفكارهم حول ما يرون، وسيظنون أن هذه الظلال هي الحقيقة. وبعد ذلك خذ شخصاً من الكهف إلى الخارج، لن يرى في البداية بسبب الضوء، وبعد ذلك سيكون مشتتاً ومندهشاً بالألوان، وبأجسام لها ثلاثة أبعاد. ولكنه سيقول في النهاية: إننا لم نستطع أن نرى الحقيقة كاملة حيث كنا.
أما "أرسطو"، تلميذ "أفلاطون"، فقد كان المنظم الأكبر للمعرفة عن العالم الطبيعي، وعن الكون، وعن الأرض، وعن النطاقات السماوية.
في القرن السابع عشر، ومع الثورة العلمية، كانت تعاليمه أن الأرض هي مركز الكون، قد أسقطت. على أي حال، فقواعد "أرسطو" عن صفاء التفكير قد صمدت. لقد أعطانا القياس المنطقي، المكون من ثلاثة أجزاء، تبدأ بفرضيتين، وتنتهي إلى نتيجة.
كان اليونانيون أكثر تفوقاً من الرومان في كل فروع المعرفة، باستثناء القانون. تطور القانون الروماني بأحكام القضاة، وتعليقات خبراء القانون، التي أصبحت جزءاً أصيلاً من القانون. ورغم أن الرومان كانوا أكثر واقعية من اليونانيين، إلى أن فكرهم القانوني تأثر بالمثالية اليونانية. ومع تعرف الرومان على قوانين الشعوب التي غازوها، كانوا مهتمين بالقواسم المشتركة بينها. ما الذي اتفق عليه الناس جميعاً ليكون قانوناً؟ وطريقة التفكير هذه، قادت لمفهوم أن هناك قانوناً طبيعياً ـ القانون في شكله المكتمل ـ والذي يجب أن يستخدم لتنقيح قوانين أي مجتمع، والذي لا يجب أن ينحرف عنه أي مجتمع يتحرى العدالة.
يختم كتاب جون هيرست "أوروبا.. تاريخ وجيز"، فصوله، بالفقرة التالية:
- لدستور الاتحاد الأوروبي، ديباجة ـ كما هي الطريقة المعتادة ـ وفي حضارة متعددة الأصول، كان هناك جدل حول ما يجب أن يكتب فيها. لكن أشير بشكل مبهم للموروث الديني لأوروبا، والذي يرتبط بالإرث الإنساني منذ عصر النهضة، وبثقافتها على وجه العموم. كان التنوير هو العامل الأكثر تأثيراً على أوروبا التي تلتزم "بالقيم العامة وبحقوق الإنسان، التي لا يمكن انتهاكها أو مصادرتها"، وتتبع طريق "التقدم والرفاهة". وسيتم التجاوز عن القومية إذ "إنه مع استمرار اعتزازهم بخصائصهم القومية وتاريخهم، فإن شعوب أوروبا عازمة على تجاوز انقساماتها السابقة، وعلى أن تكون أكثر اتحاداً، لتشكل مصيرها المشترك".
هل حرق الكتب أو اغتيال الكُتاب يقتل أفكارهم؟ (2من2)
هل حرق الكتب أو اغتيال الكُتاب يقتل أفكارهم؟ (1من2)
كتاب في مزاعم الإرهاب الإسلامي والمشروع الحضاري للمنطقة