على وقع الحرب والاشتباكات الدائرة بين أذربيجان وأرمينيا، تتجه الأنظار لمعرفة الموقف الإيراني من الأزمة المتصاعدة بين جارتيها الشماليتين.
وحتى الآن، تتمسك التصريحات الرسمية لإيران بالتأكيد على "الحياد" وعرض "الوساطة" والدعوة إلى "وقف فوري للحرب وبدء حوار سلمي" من أجل "حل دائم" للنزاع بين باكو ويريفان المستمر منذ نحو 30 عاما.
ويبدو أن تحرك طهران نحو النزاع المندلع يخضع لحسابات دقيقة، في ظل علاقات معقدة تتشابك فيها الأبعاد الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع جارتيها.
ويظهر موقف طهران الرسمي منسجما مع القرارات الأممية ومجموعة "مينسك"، التي تعتبر إقليم "قره باغ" أرضا أذرية محتلة من قبل أرمينيا. وجاء التأكيد على هذا الموقف وعرض الوساطة في تصريحات متوالية على لسان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وفي تغريدة حسين أمير عبد اللهيان، نائب رئيس البرلمان الإيراني للعلاقات الدولية، وفي حديث الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده.
وشبه مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، موقف بلاده من احتلال أرمينيا لأراض أذربيجانية بموقفها من "الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية". مطالبا يريفان بالانسحاب من تلك المناطق، ومؤكدا في الوقت ذاته على أن هذا الهدف "لا يمكن تحقيقه عسكريا".
ولفت إلى "الخطر الأمني" الناجم عن استمرار النزاع العسكري، وقال: "الحرب في قره باغ تتعارض مع مصالح الشعبين الأرمني والأذربيجاني، وتعرض أمن المنطقة للخطر".
لكن هذا الموقف الإيراني "لم يعجب" بعض الجماعات ومنظمات المجتمع المدني وأعضاء البرلمان الإيراني، حيث انتقد السياسي الإيراني علي مطهري، سياسة بلاده من الاشتباكات الدائرة، مؤكدا على أن سببها "احتلال أرمينيا لأراض أذرية".
وأضاف مطهري عبر حسابه "تويتر": "يجب على وزارة الخارجية أن تحرص على عدم الوقوف إلى الجانب الأرمني لأسباب إثنية"، مضيفا أنه "لا يكفي مجرد طلب وقف إطلاق النار والدعوة للتفاوض، وإنما يجب علينا رؤية الجانب المحق".
وفي ذات السياق، طالب ممثلو المرشد الأعلى في المقاطعات الإيرانية الناطقة باللغة الأذرية في شمال غرب البلاد، في بيان مشترك الأربعاء الماضي، بلادهم بـ"الاعتراف بحق أذربيجان في استعادة منطقة قره باغ بناء على قرار مجلس الأمن الدولي، ووقف الاشتباكات، ووجوب إعادة قره باغ إلى موطنها الأصلي أذربيجان".
ويمثل الأذريون ما بين 25 إلى 30 بالمئة من سكان إيران، وسبق لمقاطعة أذربيجان التي تقع في شمال البلاد أن أعلنت استقلالها عن إيران وقيام جمهورية أذربيجان الشعبية عام 1945، مُتّخذة من تبريز عاصمة لها. وصمدت هذه الجمهورية عاما واحدا قبل أن تنتهي بعد تدخل الجيش الإيراني، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت.
في المقابل، تشير التقديرات إلى أن نسبة المسلمين الشيعة هي الأعلى في أذربيجان بعد إيران، إذ تميل أغلب الإحصاءات إلى أن أكثر من 92 المئة من سكان أذربيجان من المسلمين، وأن الشيعة يمثلون 85 بالمئة منهم، فيما تصل نسبة المسلمين السنة إلى 15 بالمئة، والبعض يرفع هذه النسبة إلى 35 بالمئة.
وأمام توجيه اتهامات إلى طهرن بدعم يريفان على حساب باكو، اتصل محمود واعظي، مدير مكتب الرئيس الإيراني، بنائب رئيس الوزراء الأذري شاهين مصطفايف، ونفى له شائعات حول تقديم بلاده أسلحة ومساعدات عسكرية إلى أرمينيا، معتبرا أن هذه الشائعات تهدف إلى "تعكير صفو العلاقات بين البلدين"، كما جاء في بيان صدر عن الحكومة الإيرانية في 30 أيلول/سبتمبر الماضي.
علاقات معقدة
ويرى الكاتب والمحلل السياسي صابر عنبري أنه لا يوجد تغير في موقف إيران الرسمي من الأزمة منذ بدأت في تسعينيات القرن الماضي، والمنسجم مع اعتبار قره باغ "أرضا أذرية محتلة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، يفسر عنبري الغموض في فهم الموقف الإيراني من الصراع الدائر، بأن طهران نسجت خلال الثلاثة عقود الماضية "علاقات وطيدة مع أرمينيا لا تقارن مع علاقتها بأذربيجان"، مضيفا أن ذلك إلى جانب التوترات المستمرة مع أذربيجان فرض اعتبارات وحسابات خاصة على السياسة الإيرانية لا يمكن تجاوزها بسهولة.
اقرأ أيضا: إيران تدعو لاحترام وحدة أراضي أذربيجان وانسحاب أرمينيا
ويوضح أن العلاقات الإيرانية الأذرية شابها "توترات مستمرة" على مدى السنوات الماضية، ولعب "المتغير الإسرائيلي القريب من باكو" إلى جانب "ميول الحكومة الأذرية نحو الغرب" دورا مهما في ذلك. في المقابل، نسجت أرمينيا "علاقات قوية" مع إيران بحكم "الجبر الجغرافي"، لأن أرمينيا "واقعة بين تركيا وأذربيجان وإيران وجورجيا، وفي ظل إغلاق حدود أرمينيا مع تركيا وأذربيجان لم يبق لها سوى الحدود الإيرانية والجورجية. والحدود الإيرانية لها أهميتها الخاصة بالنسبة لأرمينيا"، وفقا لعنبري.
ويتأثر "الأمن القومي لطهران" بالأزمة المندلعة بين أذربيجان وأرمينيا، وفق ما قاله عنبري، إلى جانب انعكاساتها على "الداخل الإيراني"، موضحا أن عدد السكان الأذريين في إيران يصل إلى قرابة 25 مليون نسمة. ويضيف: "هذه نسبة كبيرة ولديهم حساسية عالية تجاه الصراع في قره باغ. وهم داعمون بشكل قوي للموقف الأذري ضد أرمينيا".
وبناء على هذه المعطيات، يبقى الموقف الإيراني في موضع "الحذر" من الأزمة، كما وصفه عنبري، مشيرا إلى أن إيران مهتمة بما يجري هناك وهي معنية "بوقف فوري لإطلاق النار وبدء الحوار لأسباب داخلية وخارجية".
وفي إشارة إلى إمكانية حدوث تغير في الموقف الإيراني، يستبعد عنبري أن تغير طهران موقفها الرسمي من الأزمة، لكنه قال في الوقت ذاته إن السياسة الإيرانية تجاه النزاع تحكمها عوامل واعتبارات معقدة أخرى غير تلك التي بني عليها الموقف الرسمي، وهو ما يفرض حسابات مختلفة أحيانا.
ويضيف عنبري أن انعكاسات هذه الأزمة بدأت تخرج عن نطاقها الجغرافي المحدود في منطقة قره باغ، حتى باتت تؤثر على الأمن الإقليمي برمته.
مبررات الحياد
ويؤيد الأكاديمي والمحلل السياسي حسين ريوران أن موقف إيران ثابت ويحترم "وحدة الأراضي الأذرية"، وإعادة المنطقة المحتلة إليها عبر "الحل السياسي والحوار".
ويوضح في حديثه لـ"عربي21" أن إيران "لا تؤيد التوسع الأرمني"، لكنها تقف على "الحياد" في هذه الحرب، ولا تدعم أذربيجان لأنها "ترفض أن تكون في جبهة واحدة مع الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين"، على حد قوله.
ويقول: "موقف أذربيجان المتعاون أمنيا مع إسرائيل والسماح لها بإنشاء قواعد تجسس علي الحدود الإيرانية مرفوض، ولا يعكس إرادة طيبة من قبل باكو تجاه طهران".
وتنفي باكو انطلاق هجمات إسرائيلية ضد المصالح الإيرانية عبر أراضيها.
اقرأ أيضا: سفير أرمينيا: "إسرائيل" قد توقف تزويد أذربيجان بالأسلحة
ومن أسباب الخلافات بين طهران وباكو، وفق ما يراه ريوران، "موقف أذربيجان في ضرب التيار الديني والإسلامي والسياسات العلمانية التي تتخذها في إدارة شؤون البلاد".
ومشيرا إلى وجود أقلية أذرية واسعة تتمركز في شمال غرب إيران وفي العاصمة طهران، تتمتع بنفوذ في البنية السياسية الإيرانية وينتمي إليها المرشد الأعلى علي خامنئي، قال ريوران إن "من غير المسموح التشكيك في دعم إيران للأذريين داخليا وخارجيا".
ويستحضر المحلل السياسي في هذا الصدد تغييرات طرأت مؤخرا على توجهات الحكومة الأرمنية، قائلا إنها "تميل إلى الغرب وليس إلى روسيا كما كان في السابق".
وحدث هذا التحول إثر احتجاجات شعبية بأرمينيا اندلعت في نيسان/أبريل 2018 ضد تولي سيرج ساركيسيان (من حزب أرمينيا الجمهوري) منصب رئاسة الحكومة، ما أدى إلى استقالته ليتولى مكانه نيكول باشينيان (سياسي ليبرالي) في أيار/مايو من ذات العام.
وتحدث ريوران عن أن العلاقات الاقتصادية بين إيران وأذربيجان أوسع مما هي مع أرمينيا، خاصة في ظل التباين في عدد سكان الدولتين (أرمينيا 2.9 مليون نسمة)، و(أذربيجان 9.9 مليون نسمة).
وتشير إحصاءات عام 2019 إلى أن حجم التبادل التجاري بين إيران وجارتها أذربيجان تجاوز الـ500 مليون دولار. وبلغ مع جارتها أرمينيا أكثر من 320 مليون دولار، وفي كلا العلاقتين كان الميزان التجاري يميل لصالح طهران.
لماذا عجزت "مينسك" عن حل نزاع قره باغ طيلة 28 عاما؟
المعارضة السورية تتأهب لتصعيد روسي.. ما علاقة "قره باغ"؟
خبير أذري لـ"عربي21": روسيا تريد ليّ ذراع أرمينيا.. وهذه خيارات باكو (شاهد)