فاجأنا
حراك الريف
المصري، أكثر مما فاجأ عبد الفتاح
السيسي ودوائره الأمنية!
من الخطأ
وصف الحاصل في مصر بأنه نظام، أو القائمين عليه بأنهم "أهل الحكم"، فنحن
أمام حكم "الرجل الواحد" في طبعته الأكثر رداءة، والأكثر وضوحاً في نفس
الوقت. فالسيسي هو من يحكم وكل من حوله هم جهة تنفيذ لا أكثر، وإذا كانت التقاليد
العسكرية تقضي بتنفيذ الأمر، ثم تعطي الحق في التظلم بعد التنفيذ، فالحق في التظلم
ليس مكفولاً لدى السيسي!
ومن هنا
كان القول إن
حراك الريف فأجأ السيسي والدوائر الأمنية، وليس النظام المصري، وإذا
كان الخائف، الذي يترقب مثله، يتوقع في معاركه أسوأ الاحتمالات، فقد توقع السيسي
ودوائره الأمنية الاستجابة لدعوة
الداعي للمظاهرات يوم 20 أيلول/ سبتمبر، ومن هنا
كان الحضور الأمني الكثيف في الميادين والشوارع المعروفة للحراك، من قبل موعد
الحدث، لكن كانت المفاجأة لهم أن يكون الخروج في "الريف المصري"، وفي
مناطق لم يكن متوقعاً أن تخرج منها
المظاهرات، فلم تخرج في ثورة يناير. وجزء من
أزمتنا أن الثورة المصرية بدت من حيث اختيار الميادين، ثورة نخبة، لكن الأمر اختلف
الآن، إنه "حراك الجلاليب" كما قالوا تهكماً.
وإذا كان
حكم السيسي، ومع توقعه الشر دائماً، لم يتوقع "الحراك" في هذه المناطق،
فقد فوجئنا نحن بالاستجابة لهذه الدعوة، التي اعتقدنا أنها ستنضم لدعوة سابقة
فشلت، تنحى بعدها الداعي لها عن قيادة الجماهير، والعودة للانشغال بأعماله وحياته،
وكتبت أنه سيعود للمشهد، ولن يطيق صبراً على الابتعاد عنه، وقد عاد فعلاً!
ندرك
تماماً أن مصر حبلى بالثورة، بسبب فشل الحكم وفساده وجهالته، فتضررت منه كل فئات
المجتمع، والنغمة التي تقول إنه لا يعمل إلا من أجل رجال الأعمال ليست صحيحة،
فمبارك كان يعتمد هذه السياسة، فقد وقع الضرر على رجال الأعمال أيضاً في حكم الرجل
الواحد، الذي استبدل الهيئة الهندسية بكل شركات المقاولات وما إلى ذلك، فما زاد عن
الحاجة ذهب للإمارات. ويكفي أن نعلم أن شركة إماراتية أعلنت في الأسبوع الماضي عن
فوزها بتوسيع بحيرة المنزلة بمبلغ وقدره 163 مليون دولار، ومن الواضح إنه عطاء
بالأمر المباشر، فكل العقود التي تستحوذ عليها الهيئة الهندسية هي بالأمر المباشر.
ولم يتم الإعلان من قبل الحكومة المصرية عن هذا التعاقد، فالإثم هو ما حاك في صدرك
وكرهت أن يطلع عليه الناس!
التهديد
بالإبادة:
بيد أن
مصر الحبلى بالثورة يحكمها عبد الفتاح السيسي، الذي هدد بإبادة القرى بحجة هدم
المباني المخالفة، فهكذا حذر عياناً بياناً، وعلى الهواء مباشرة دون أن يهتز له
رمش. لكن حدث بعد هذا ما لم يكن في حسبانه، فقد كان يقصد بتهديده إزالة ما يراه مخالفات
في البناء، وكان معه حق فقد شاهدنا بيوتاً تهدم، ويكون رد العفل هو ولولة النساء الثكالى،
وصار مشهدا مثيراً للشجن لا سيما مع الفيديوهات التي رُفعت على منصات التواصل
الاجتماعي وعملية الهدم مصحوبة بقصيدة للشاعر
الصعيدي "هشام الجخ"، كانت
معبرة عن حجم الوجع، ومثلت بصوته الموجوع مثالاً للمرار الطافح، فجاءت وكأنها
بكلماته وصوته تعبيراً عن طفح المرار، ولم يكن شعره ضد ما تقوم به جرافات السلطة
من هدم البيوت وإن عبر عنه. وهذا كله لا يؤثر في عواطف جابي مصر الأكبر؛ إنه لا
يعرف إلا لغة القوة الغاشمة،
فلوّح بها بإعلانه إنه سيدفع بالجيش للإبادة. فمن في
القرى يقدر على المواجهة؟!
لقد حدث
ما لم يكن في حسبانه، عندما خرج شباب في حارة بمحافظة الإسكندرية للتصدي لعملية الإزالة،
وأرغموا قوة التنفيذ على الخروج من المكان صاغرة. وكانت هذه رسالة لا تخطئ العين
دلالتها، وكاشفة عن أنه ليس في كل المناطق ستواجه قواته بالصراخ والولولة وقد
تهدمت البيوت، في تصرف لم يقدم عليه إلا الاحتلال الإسرائيلي، لكنه فعله في مدينة
رفح بسيناء، حيث خطط ونفذ!
في إحدى
قرى محافظة القليوبية طوردت قوة التنفيذ بالحجارة، وأدرك حكم الرجل الواحد أن هذه
روح لو انتشرت بالعدوى فسيفشل مخططه، فكان تصريح رئيس الحكومة بإعطاء الناس مهلة
شهرين لتقديم طلبات التصالح، ثم قال إن المهلة المقررة حتى نهاية شهر أيلول/ سبتمبر،
قبل أن يعود ثانية بعد "حراك الريف" فيمدها لنهاية تشرين الأول/ أكتوبر.
القشة
التي قصمت ظهر البعير:
فلم يلتفت
الناس لهذا التراجع، وكانت الاستجابة لدعوة التظاهر، يوم 20 أيلول/ سبتمبر ولا
تزال مستمرة حتى الآن. واختيار مناطقها كاشف عن إبداع المشاركين فيها، وبدون توجيه
من أحد، إنهم يتظاهرون على أرضهم. وبدا الريف المصري غريباً علينا، وغريباً على
السيسي ودوائره الأمنية، فقد تعلم من ثورة يناير أن الخطر يأتي من المدن الكبرى،
ومن العاصمة،
ومن الميادين المعروفة، فبنى خطته على ذلك، فكان الإبداع الشعبي الذي
بدا وكأنه توافق بين المشاركين في الحراك بدون اتفاق!
ولا يمكن
القول إن حراك الريف كان السبب فيه هو قانون التصالح في مخالفات البناء، لقد كان القانون
هو القشة التي قصمت ظهر البعير، لكن السبب هو أزمة حاكم فرد فَقَدَ مبرر وجوده على
كرسي رئيس الدولة، وقد أخاف المثقفين والسياسيين، يعتقل فريقا منهم ويطارد فريقاً
آخرا، فتحرك الأصيل في غياب الوكيل. وكان "حراك الريف"، الذي يمثل خطراً
على مخطط السيسي الذي يقوم على جمع 200 مليار جنيه، تحت لافتة البناء بالمخالفة،
وقد هدد باستخدام القوات المسلحة في إبادة القرى، بهدف تحريض الشرطة على الصرامة
في التنفيذ وبدون تقاعس وإلا قام بتوكيل الجيش بالمهمة!
ومن هنا
تأتي قوة هذا الحراك، أو "انتفاضة الجلاليب"، والتي يشارك فيها أطفال
كانوا أجنة في بطون أمهاتهم عندما قامت ثورة يناير، ولأنهم لا ينتمون للحركات
السياسية فليس لديهم خطوط حمر في رد الفعل. لقد كانت الشرطة تقذفنا بالقنابل
والرصاص فنجري أمامها. صحيح أن الوضع اختلف يوم 25 كانون الثاني/ يناير، عن يوم
جمعة الغضب 28 كانون الثاني/ يناير، لكن الاختلاف كان فقط في الدرجة!
في اليوم
الأول كانت أي حركة من الشرطة تدفع لجري المتظاهرين، فكنت أهتف: "اثبت"،
وفي اليوم الثاني كنا أمام القنابل والرصاص نجري ثم نعاود الكرة من جديد. كان هناك
إصرار على دخول ميدان التحرير، لكن لا نملك القدرة أو الإرادة على
المواجهة مع قوة
البطش!
الوضع
مختلف في حراك الريف، إنهم يقذفون قوات الأمن بالحجارة، ويجرون أمامها ثم يعودون
إلى نفس السلاح، ثم
يمزقون صور السيسي المعلقات على البنايات، فأسقطت هذه
المظاهرات مبرر وجوده بحراك من يشارك فيه هم من يملكون الأرض التي يقفون عليها،
فلا تخسف من تحتهم، ولا يعتدى عليهم من فوقهم ولا يواجهون بما كان ينال من مظاهرات
رفض الانقلاب وممن يُطلق عليهم "المواطنين الشرفاء"، وهم شبيحة النظام،
وبلطجية الأجهزة الأمنية. إن الثوار هم أبناء هذه المناطق، فضلاً عن كونهم يتحركون
في معية الحاضنة الشعبية، فلم يخرج كل الناس، لكن من لم يخرجوا لا يرفضون سلوك من
خرجوا، فماذا بقي للسيسي في حواري مصر وكفورها ونجوعها؟!
خيولنا
التي لا تصهل:
ومن هنا
يستشعر السيسي ودوائره الأمنية خطورة الموقف، والذي يهون نفر من المنتسبين لثورة
يناير من أهميته، حسداً من عند أنفسهم، وربما هي ثقافة الجيوش المهزومة، فيسألون
في استخفاف: هل يمكن لهذه المظاهرات المحدودة أن تُسقط هذا النظام القوي؟ ليكون
السؤال وهل هو نظام قوي فعلاً، أم أن قوته يستمدها من خيولنا التي لا تصهل، أو
التي لم تعد تصهل؟!
إن مخطط
السيسي يقوم الآن على استنزاف الريف لجمع 200 مليار جنيه، بعد أن توقف الدعم
المالي الخارجي تماماً أو كاد، لكن هذا الحراك هو رسالة بأن سلاح "القوة
الغاشمة"، الذي
تحدث عنه السيسي، والذي هو أداته في فرض سياساته الفاشلة على
الناس، قد سقط!
وفضلاً عن
هذا، فإن هذا الحراك مثّل إفساداً لسلاح الخوف الذي يحكم به عبد الفتاح السيسي،
ويمثل خطوة مهمة لم نصل إليها في ثورة يناير وهي "تثوير الريف"، أو ما
كنت أطلق عليه "تثوير الدوائر الانتخابية"، لتنطلق بعد ذلك إلى ما هو
أبعد، لكن على نار هادئة، ليكون التأثير أقوى ولا يمكن بعد ذلك الالتفاف عليه، ولا
يمكن لفريق العاطلين عن العمل، تمثيل الثورة فيتم التلاعب بهم لدى المجلس العسكري
كما حدث من جانب من شكلوا ائتلافات الوجاهة الاجتماعية دون تفويض من الميدان!
إن قيمة
وصول الثورة إلى "الريف المصري" في هذا الكشف عن أن العامة يربطون بين
الديمقراطية كقيمة حضارية وبين معاش الناس، فالديمقراطية ليست خياراً فقط للمثقفين
الذين يتحدثون من أنوفهم، فاختيار الحاكم بإرادة الشعب، هو الضمانة لأن يعمل من
أجله صاحب السيادة. فالسيادة ليست للجيش، وليست للحاكم منه، إنها أسقطت لغما في
طريق معركة التحول الديمقراطي، يتمثل في الادعاء بأنه لا يصلح لحكم مصر إلا شخص من الجيش، فقد عاش الناس المرار الطافح في ظل العسكري الحاكم!
إن البعض
يبحث عن نصر قريب في الثورات، ربما لأنهم يرتاحون لـ"المسلوق" في
الطعام، لكن ماذا جنينا من ثورة الأيام القليلة التي اعتقدنا معها أننا انتصرنا
بتنحي مبارك!
لقد لدغ
السيسي من مأمنه.
twitter.com/selimazouz1