لا يختلف الأمر كثيرا إذا كانت تسمية رئيس الحكومة المكلف الدكتور مصطفى أديب هي منتج فرنسي صاف، سقط بالمظلة في الساعات الأخيرة قبل وصول الرئيس إيمانويل ماكرون إلى
لبنان؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فم الحوت الذي يضم كل السياسيين في البلاد، الذين أصبحوا أمام مفترق طرق عند تشكيل هذه الحكومة: فإما حكومة المحاصصة جهارا أو مواربة، وإما حكومة بعطر فرنسي أخّاذ نحو تسوية بمراحل متتالية.
لقد حملت التسمية في طياتها إطلالة لافتة للمسيو (السيد) الفرنسي، تذكّر بإطلالة الجنرال غورو حينما أعلن قيامة لبنان الكبير؛ الذي لم يبق منه سوى التقسيمات الطائفية، بعدما قضى أغلب السياسيين على طموحات شعبٍ جاب الدنيا بمغتربيه وإنجازاتهم، التي تملأ الصحف العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي.
لقد ذكر ماكرون السياسيين اللبنانيين الذين التقاهم في قصر الصنوبر بطريقته اللبقة بما قاله الجنرال غورو منذ مئة عام: "لا تنسوا أن تكونوا مستعدين للتضحيات من أجل هذا البلد". إن هذه العبارة تختصر ثلثي الطريق نحو حكومة الفرصة الأخيرة الممنوحة للبنانيين عبر الفرنسين، علما بأن الموقف الأمريكي السعودي لا يزال مبهما.
فالأمريكي نقاطه الأساسية هي في إيجاد أرضية لترسيم الحدود بريا وبحريا، حيث إمكانية الصدام مع الإسرائيلي، الذي لا يرغب الأمريكي حاليا في حدوثه في ظل مؤشرات خطيرة على قربه، لا سيما بعد خطاب أمين عام
حزب الله العاشورائي الأخير.
ويبدو أن السعودي لا يحبذ وجود حزب الله في الحكومة، لا شكلا ولا مضمونا في البيان الوزاري، ولا تمثيلا مباشرا أو غير مباشر عبر شخصيات ترتدي البدلات وربطات العنق.
إن الأكيد أن الفرنسي هو اللاعب الأساسي في هذه الأيام في لبنان، فربما هذا البلد الجميل يحتاج دائما إلى راع يخيط حلولا لمشاكله التي لا تنتهي من أعوامٍ وأعوام. لقد رسم الراعي الجديد توقيت الحكومة وبيانها الوزاري وأجندتها المبرمة دوليا، ووقت محاسبتها على ساعة باريسية دقيقة بما لا يقبل الشك، حيث قال الرئيس ماكرون: الإصلاحات وإلّا الاضطرار لتوقيف المساعدات الدولية وفرض عقوبات على عدد من المسؤولين الضالعين بالفساد. وأضاف أنّ المساعدات ليست "شيكاً على بياض"، مع إصرار بوضع موعد محدّد بعد ستة أسابيع من تشكيل الحكومة لرسم خارطة طريق تنفّذ الإصلاحات. كما حدّد موعدين أساسيين في النصف الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر للتقييم، وكانون الأول/ ديسمبر للعودة في زيارته الثالثة إلى لبنان.
وأكدَ أنّ تشكيل الحكومة لا يستلزم أكثر من 15 يوماً، مضيفاً: "تم الالتزام بخارطة طريق تتضمن الإصلاحات بقطاعي الكهرباء والمصرفي والتدقيق الحسابي في البنك المركزي ومكافحة التهريب، وحصلنا على موافقة الجميع، وهذه خارطة الطريق التي ستحملها الحكومة الجديدة".
وبلغة بالغة الدقة والدلالات، توجّه ماكرون للسياسيين قائلا: "أنا هنا متطوع وواضح لمساعدة لبنان ومرافقته لمستقبله، ودوركم هو تشكيل حكومة أساسية، ونحن إلى جانبكم وسنبقى إلى جانبكم، واللحظة الآن لأخذ الدروس من المأساة"، مضيفا: "كانت هناك كلمات قوية للغاية مع الرئيس عون، لكن غورو قال لا تنسوا أن تكونوا مستعدين لهذا البلد وتقديم التضحيات"، وكأني بالرئيس الفرنسي يرسم خارطة الطريق للخروج من نفق
الأزمات المتزايدة يوما بعد يوم، في بلد يضج أهله من هول المآسي المتلاحقة.
هذه المآسي شهد لها تقرير الأسكوا الأخير، حيث نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، ونصفهم الآخر عاطل عن العمل، وثرواتهم محجوزة في جريمة موصوفة؛ إن لجهة حرية الأفراد وممتلكاتهم والتصرف بها، وإن لجهة الاقتصاد الذي يموت شيئا فشيئا.
أما آخر التقارير الدولية التي تؤكد هول الفاجعة اللبنانية، فهو التقرير الذي أعده البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي حول الأضرار التي تسبب بها الانفجار في المرفأ، الذي تضمن تقييما أوليا للأضرار، وسيتم تباعا تحديثه كلما توافرت معلومات إضافية.
وأوضح السيد كومار جاه، ممثل البنك الدولي، أن الخسائر الأولية بلغت حوالي 8,1 مليار دولار، وهي تشمل أضرار البنى التحتية والخسائر التي تكبدتها الحركة الاقتصادية. وسيحتاج لبنان في مرحلة أولى تنتهي في كانون الأول/ ديسمبر 2021؛ إلى مبلغ مليارين و200 مليون دولار، من أجل النهوض وإعادة الإعمار، إضافة إلى الانكماش الذي سيحصل في الاقتصاد الوطني. وأوضح أن مستويات الفقر والفقر المدقع سترتفع نسبتها، وأشار إلى أن الجهد سينصب ليكون العمل مستقبلا فرصة لتحقيق الأفضل.
لقد حاول الطرح الفرنسي تأجيل النقاش في مسألة سلاح حزب الله، بالحديث عن تشكيل حكومة جديدة، وترسيم الحدود، وتحييد لبنان عن صراع المنطقة، والدعوة إلى ميثاق سياسي جديد. وفرنسا بواقعتيها هذه، تعتبر أنها قد تؤدي إلى إنجاح مبادرتها وتعزيز دورها في شرق المتوسط، حيث الأهداف الفرنسية الكثيرة التي تبدأ من تموضع لبنان وثرواته في الغاز والنفط، ولا تنتهي في الصراع مع تركيا/ الرئيس أردوغان؛ من ليبيا إلى الجزر اليونانية القبرصية والاتفاقات التي تصاغ في هذا المضمار.
في المقابل، يبدو الطرح الأمريكي مختلفا، وينقسم إلى قسمين: تسوية أولية حول ترسيم الحدود، ومحاولة إبعاد حزب الله عن الحكومة، وانتخابات مبكرة وإن بالقانون القديم، في محاولة لقطف اللحظة التي أوصلت اللبناني إلى نقطة اللاعودة مع الطبقة السياسية الحالية. لكن هذا لا يمكن أن ينفصل عن تسوية ثانية أكبر وأشمل، ترتبط بسلاح حزب الله الذي لن يكون عنوان المئة يوم الأولى للحكومة القادمة من جهة، ومن جهة أخرى دور القوات الدولية اليونيفيل بعد التجديد لها وفق شروط مضمرة؛ تتعلق بنجاح الفرنسين بمبادرتهم في الوقت المستقطع ضمن الانتخابات الأمريكية القادمة.
لقد تلقف حزب الله الطرح الفرنسي ببراغماتية وهدوء، محاولا شراء الوقت، ريثما تظهر تسوية تحاك أو تنهار مع أمريكا وسيدها الجديد، علما أن الضغط الأمريكي مستمر.
يعلم حزب الله أنه في موقع حرج على الصعيد الخارجي، مهما كان على ارتياحه داخليا، ومهما تمكّن من استيعاب الصدمات الداخلية والصمود في وجهها. وتعلم
فرنسا أن نجاحها يتوقف على التكامل مع الدور الأمريكي في كل المنطقة، ومن ضمنها لبنان، حيث يعمل الفرنسيون على استيعاب حزب الله ضمن الدولة، وهو أمر يحتاج إلى كثير من الوقت والتنازلات للجميع في الداخل وضمن الإقليم وضمن المجتمع الدولي، لبلورة صورة لبنان الجديدة وتموضع دوره القادم في شرق المتوسط وكل قضايا المنطقة.
إن كرسي رئيس الوزراء الحالي، الدكتور أديب، كما حكومته القادمة؛ أمام الفرصة الأخيرة الواضحة المعالم، التي حيكت بخيوط سجادة إيرانية بخياط فرنسي ماهر وتطريزة أمريكية وإخراج لبناني لبلوغ أجندة دولية؛ تبدأ من إعمار بيروت ومرفئها، وإقرار كابيتال كونترول، ومحاربة الفساد بآليات سريعة وواضحة، وإقرار إصلاحات جدية وعملية، وإقرار قانون انتخاب، والعمل لإعداد انتخابات مبكرة تعيد الرأي للشعب المنتفض لصياغة عقد جديد بين السلطة والناس، إضافة إلى إجراء تحقيق جنائي مالي من مصرف لبنان، وصولا إلى وزارات الهدر ومجالسها المتعددة، وضمن إطار زمنيٍ محدد؛ نهايته قد تُحسم مع زيارة الرئيس ماكرون القادمة والمقررة في كانون الأول/ ديسمبر القادم، فإما تكون حكومة الفرصة الأخيرة بدأت بالنجاح، وتاليا المساعدة للعبور نحو الشق الثاني من التسوية الفرنسية في لبنان مع حزب الله تحديدا ودوره في العقد السياسي والاجتماعي الجديد، ودعم الدولة بشتى الصعد، وإما فصل آخر لا أحد يستطيع التنبؤ بأحداثه في إقليم ملتهب؛ ليس أقله صراع الثروات في شرق المتوسط.