من الواضح أن زلزال بيروت أو "هيروشيما" المرفأ ضربت كل شيء إلا الضمائر الميتة القابعة في قصور فارهة لم تنجز أقل المطلوب وهي الإصلاحات. تلك الإصلاحات التي عقد لأجلها مؤتمر سيدر منذ ثلاث سنوات، ولم تضعها الحكومات المتعاقبة موضع التنفيذ؛ إصلاحات في الكهرباء والمياه، إصلاحات في التعاطي مع المواطن من موقع المسؤولية والاحترام لعقله وإنسانيته وحاجاته.
زيارة لافتة في الوقت والمضمون
وعلى وقع هيروشيما المرفأ، وصل الرئيس الفرنسي في زيارة لافتة في الوقت والشكل والمضمون واللقاءات والأهمية. عناوين الزيارة كثيرة؛ تبدأ من التحقيق الدولي في الجريمة التي طاولت سيدة العواصم، بيروت الحبيبة، الصابرة على وجعها وفقدان أبنائها وأحبابها وقاطنيها، تلك بيروت التي لم تركع لغاز، بيروت عنوان الفرنكوفونية وتقارب الحضارات وروح العالمية في الثوب العربي الأصيل.
وصل ماكرون وعنوانه الأول الشعب
اللبناني الذي تلقى المصيبة بالصدر العاري، حيث المالية المكشوفة، والفساد الظاهر والفاقع والمستشري، والإهمال الحقير والسافل الذي أودى بحياة كرام الناس الذين يركضون خلف رغيف خبزهم. لقد قال ماكرون صراحة عن عقد جديد، فهل من طائف فرنسي جديد يلوح في الأفق؟
هل تكون
فرنسا عرابة طاولة حوار حقيقية حول المقاربات الجدية في نظام لبناني يراعي كل الخصوصيات المستجدة بعد الطائف، وأولها العلاقة بين حزب الله ومقاومته والدولة اللبنانية؟ حيث بات الهامش منذ الحكومة الديابية الحالية ضيقا لحدود الانكفاء شبه التام بين الدولة اللبنانية ومحيطها العربي، وفي مقدمته دول الخليج العربي التي كانت على الدوام رئة لبنان ومنفسه في
الأزمات الكبرى، مضافا إليها فجوة مع الأمريكان والأوروبيين الذين لا يزالون يرسلون الموفدين الواحد تلو الآخر لتحريك الأصنام نحو الإصلاحات، ولكن لا حياة لمن تنادي.
إن المناداة الحقيقية كانت في شوارع بيروت للرئيس الفرنسي للعودة إلى زمن الانتداب. لقد طفح الكيل باللبنانيين وبلغ السيل الزبى، ليصل بهم الأمر إلى طلب الوصاية من جديد، ولكن بنكهة أوروبية فرنسية الطعم.
عودة فرنسية قريبة
يبدو من المرجح عودة الرئيس الفرنسي مطلع أيلول القادم، ولكن ماذا على اللبنانيين لا سيما السياسيين إنجازه خلال تلك الفترة القصيرة، لا بل والقصيرة جدا؟ ثم ما هي الرؤية للمحاسبة في ظل حديث الرئيس ماكرون عن تحقيق دولي شفاف واضح، يحدد المسؤوليات مهما بلغ سقف المدانين؟ علما أن أطرافا لبنانية رفعت الصوت للمطالبة بالتدخل الدولي القضائي، لا سيما رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط، واصفا الحكومة بحكومة الذئاب، وكذلك القوات اللبنانية عبر رئيسها الدكتور سمير جعجع الذي علق معتبرا أنه تجب محاكمة السلطة السياسية الحاكمة، لافتا إلى أنه لا أحد يصدق أن وجود 2750 طنا من نترات الأمونيوم بمرفأ المدينة منذ ست سنوات، هو بسبب الإهمال أو النسيان، مشيرا إلى الجهة التي تخزن هذه المواد دون النظر لمصلحة البلاد، غامزا لإدانة أطراف لبنانية بعينها، وهو أمر مرشح للتصاعد في ظل الانقسام السياسي الذي تعبره البلاد منذ ثورة تشرين (أكتوبر) 2019.
وشدد جعجع، الخميس، على أن السلطة في موقع الاتهام، "ونطالب بلجنة تقصي حقائق دولية توفدها منظمة الأمم المتحدة في أقرب وقت ممكن استنادا لميثاق الأمم المتحدة، وإنشاء صندوق دولي لإغاثة المنطقة المنكوبة والقطاعات الإنتاجية المتضررة في لبنان".
وليس ببعيد عن زيارة الرئيس ماكرون، لا تزال ترددات كلام سيد الدبلوماسية الفرنسية جان إيف لودريان حاضرة في أروقة السياسة اللبنانية. فقد قال لودريان في حديث للصحفيين: "هذا البلد بات على حافة الهاوية" في حال لم تسارع السلطات إلى اتخاذ إجراءات لإنقاذه. وأضاف: "الجميع يعرف المسار الذي يجب اتخاذه، وهناك وسائل للإنعاش، وفرنسا جاهزة لمرافقتهم بشرط أن تتخذ السلطات السياسية القرارات للسير في طريق الإصلاحات".
ولم يخف الوزير الفرنسي خيبة أمله قائلا: "أكثر ما يذهلنا هو عدم استجابة سلطات هذا البلد للأزمة الراهنة"، مشددا على الحاجة لأفعال ملموسة طال انتظارها، وهذا ما سطر مضبطته ماكرون في زيارته بعد الزلازل الكبير في هيروشيما بيروت.
هل من مخرج
لقد شجع ماكرون الشباب اللبناني على التغيير الديمقراطي، فهل تحمل المبادرة الفرنسية القادمة حديثا عن انتخابات مبكرة للضخ الدم الجديد في الحياة السياسية اللبنانية البائسة؟ وقد أشار إلى أنه تحدث مع السياسيين اللبنانيين عن مفتاح للحلول. ولكن كيف ومتى وحال اللبنانيين يكاد ينهار، والأرقام والمؤشرات تتحدث، وآخرها تصنيفات وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية التي خفضت تصنيف لبنان إلى (سي)؟
إن الحوكمة الفاعلة مفتاح الحل لكل مشاكل البلاد الإدارية والسياسية والقضائية، والتواضع لأجل لبنان يكبر أصحابه؛ كبادرة لعودة المجتمع الدولي والعربي لنجدة لبنان الصامد الصابر من الأزمات الاقتصادية والنقدية والمالية، وصولا إلى الأزمات الصحية مع كورونا، وما استجد من كارثة صحية بعدد الشهداء والجرحى مع
الانفجار القاتل كهيروشيما، الذي ضرب العاصمة في القلب. ولكن يبقى الأمل في الغيارى على لبنان بأن ينتشلوه من محنته. وأعتقد أنهم كُثر، ولكن كما قالت فرنسا ومعها الكثير من دول العالم والعرب الأشقاء: "ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم". هل من سامع لصوت أحباب لبنان في العالم؟!
إن دموع بيروت وأهلها، ومآسيهم وخراب مرفئهم، ووجعهم النفسي والشعور بالانكسار والخوف؛ أكبر من أي سلطة وأي حكومة، لذا لا بد من محاسبةٍ حقيقيةٍ في بلد اعتادت التحقيقات ألا تصل إلى الفاعل الحقيقي.
أحبائي بكل بساطة، الكل مدان حتى يثبت العكس، فأرواح من سقطوا ليست لعبة، ودماء الجرحى ليست ماء، وعذابات المفقودين ودموعهم وانهيار أعصابهم ليس تسلية.. فاتقوا الله؟!
سيدي الرئيس ماكرون غردت عند دخولك بيروت: "لبنان ليس وحيدا".. أرجوك لا تتركه وحيدا.