نحن لم نختر أن نولد ونعيش في أوطان وبلدان لا تمنحنا الأمان، لا تسمحوا بتزييف وعيكم من خلالنا، لم نرد أن نترك أوطاننا ونواجه الخطر ولكن للأسف باتت مواجهة خطر الموت في البحر أخف وطأة من خطر الموت داخل بلداننا.
رسالة بعث بها حسان عقاد إلى الرأي العام في بريطانيا.. حسان هو شاب سوري فر من ويلات وإجرام نظام بشار الأسد منذ سنوات باحثا عن الأمان في مكان آخر، وصل إلى معسكر كالي على الحدود الفرنسية البريطانية ثم وثق رحلته المميتة لعبور القناة بين بريطانيا وفرنسا على متن أحد القوارب المطاطية حتى وصل إلى بر الأمان داخل المملكة المتحدة ليطلب حق اللجوء السياسي ويحصل عليه ثم يعمل في صناعة الأفلام ويحصد جوائز دولية.
يأتي كورونا فيتحول حسان بقراره الشخصي إلى عامل نظافة ليساعد العاملين في وزارة الصحة البريطانية في مواجهة هذا الوباء القاتل ولتصبح قصته ورسائله حديث الرأي العام في بريطانيا على مدار الأشهر الماضية، تحولت صورة اللاجئ في المجتمع البريطاني ولو بنسبة قليلة من شخص يمثل عبئا على المجتمع البريطاني ويأتي طامعا في المساعدات الحكومية إلى هذا الشخص الذي يترك مجال عمله الناجح ويذهب للتطوع في مستشفيات وزارة الصحة كي يساعد المجتمع في مواجهة كورونا، ولكن سرعان ما تغيرت تلك النبرة المتفائلة سريعا وعادت الأصوات العنصرية المقيتة تعلو مرة أخرى داخل بريطانيا واصفين الأطفال الباحثين عن النجاة في بريطانيا بـ "الغزاة".
منذ يومين استيقظ الرأي العام البريطاني على فاجعة موت طفل سوداني غرقا أثناء محاولته عبور القناة مرة أخرى للوصول إلى داخل بريطانيا والبدء في عملية طلب اللجوء السياسي أو الإنساني، ولكن الموت كان في انتظاره بعد رحلة طويلة قطعها من السودان عبر صحراء ومياه ودول وتجار للبشر حتى وصل أخيرا إلى معسكر الجحيم في كالي ومن هناك حاول البحث عن الأمان في بريطانيا ولكنه مات.. وآخر ما كتبه عبد الفتاح عبر حسابه على فيس بوك منذ شهرين كانت هذه العبارة "نسير في واحة القدر ولا نعرف ماذا كتب لنا".
يجب على المجتمع البريطاني وحكومته أن يعلموا أن حربهم ليست مع اللاجئين أو طالبي اللجوء من الفارين بحياتهم بحثا عن الأمان، وإنما حربهم الحقيقية مع أنظمة قمعية يدعمونها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا أيضا، فليوجهوا عداءهم إلى من صنع اللاجئين لا إلى الباحثين عن الحياة من اللاجئين.
على صفحات الديلي ميل الصحيفة البريطانية الأكثر انتشارا في المملكة المتحدة صدمني ما قرأت من تعليقات شامتة وضاحكة في وفاة الطفل السوداني غرقا أثناء محاولته البحث عن الأمان، التعليقات الضاحكة التي عكست لي نظرة قطاع ليس بالقليل من الشعوب الأوروبية تجاه المهاجرين وطالبي اللجوء، هؤلاء للأسف لا يعلمون شيئا عن عالمنا وما نواجهه في بلداننا من قهر وظلم وتنكيل يجعلنا نفضل المغامرة بحياتنا في اليوم ألف مرة على أن نقضي عمرنا داخل السجون أو أن نجد أنفسنا قتلى داخل القبور.
أثناء مقابلتي الرئيسية مع ضابط إدارة الهجرة الخاصة بطلبي للجوء السياسي في ألفين وثمانية عشر، راقبت ملامح وجهه وهو يندهش أكثر من مرة وأنا أحكي له عن النظام المصري الذي اقتحم بيتي وحاول قتلي ووضع اسمي على قوائم الاغتيالات ثم طاردني في تركيا وأبلغ الإنتربول عني لإلقاء القبض علي، ملامح هذا الضابط كانت نفسها التي رأيتها على أحد جيراني الإنجليز وهو لا يكاد يصدق أن البلد التي يزورها لقضاء الإجازة في شرم الشيخ والغردقة هي نفسها التي أحدثه عن جرائم نظامها، حينها تساءلت ولا زلت، هل يعلم هؤلاء شيئا عنا؟ وإن كانت تلك انطباعاتهم عن تجربتي ويرونها مأساوية، فهل سمعوا عن من فروا من الأسلحة الكيماوية التي قصف بشار الأسد بها شعبه؟ هل سمعوا عن نظام التجنيد الإجباري البشع في أريتريا الذي يقضي على عمر أكثر من نصف الشعب الأريتري ذكورا وإناثا؟ هل علموا شيئا عن بنات وأطفال تعرضوا للاغتصاب والتجارة في بعض أعضائهم أثناء عبورهم الصحراء الكبرى وذهابهم إلى مصر ثم انطلاقهم في رحلة البحث عن الأمان في أوروبا؟ هل يعلم هؤلاء شيئا عن أن من اتخذ قرار اللجوء لا يمكن أبدا أن ينظر خلفه وأن مجرد التفكير في ترحيله أو رفض طلب لجوئه أو التضييق عليه في مكانه الجديد يمثل لديه حكما بالإعدام وهو لا يزال على قيد الحياة؟
بريطانيا لا تعيش أزمة لاجئين على الإطلاق ولا يمكن أن تقيس أعداد طالبي اللجوء فيها على دول أخرى، من بين 30 مليون لاجئ على مستوى العالم تقدم 35 ألفا فقط بطلب للجوء في بريطانيا منذ آذار (مارس) 2019 وحتى آذار (مارس) الماضي وفقا لإحصائيات الموقع الرسمي للحكومة البريطانية، من بين لاجئين كثر يأتون إلى بريطانيا عدد ليس بالقليل يمثلون إضافة حقيقية للمجتمع الذي يعيش نسبة كبيرة منه على المساعدات الحكومية، أثناء الموجة الأولى لوباء كورونا مات أكثر من ستة أطباء كلهم من اللاجئين العرب والمسلمين وكانوا في طليعة الصف الأول في الحرب ضد كورونا.
يجب على المجتمع البريطاني وحكومته أن يعلموا أن حربهم ليست مع اللاجئين أو طالبي اللجوء من الفارين بحياتهم بحثا عن الأمان، وإنما حربهم الحقيقية مع أنظمة قمعية يدعمونها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا أيضا، فليوجهوا عداءهم إلى من صنع اللاجئين لا إلى الباحثين عن الحياة من اللاجئين.
بعد مذبحة المماليك جاء دور الأزهر
غياب القوى الحية في المجتمع المصري
بعد سقوط لائحة سحب الثقة.. أين يتجه المشهد السياسي التونسي؟