الكتاب: "العربية أداة للوحدة والتنمية وتوطين المعرفة"
المؤلف: عبدالعلي الودغيري
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/ 2019
عقبتان أو معضلتان تعيقان مهمة اللغة العربية في تحقيق التنمية الشاملة والوحدة الفكرية والثقافية والسياسية، سواء بين أبناء الشعب الواحد من الشعوب العربية أو بينه وبين بقية الشعوب العربية والإسلامية، الأولى مرتبطة بالضعف الحضاري العام الذي تمر به المنطقة العربية، والثانية مرتبطة بالموقف السلبي لأبناء هذه اللغة ومجتمعاتهم من العربية، حيث يكاد يغيب تماما الاهتمام بها، مع ما يعنيه ذلك من عدم إدراك لقيمتها وأهميتها. حدث هذا وما زال يحدث في سياق "موجات" من التحديات واجهتها اللغة العربية في العصر الحديث على مدى القرنين الماضيين.
مع بداية الاحتكاك بالحضارة الغربية الحديثة ومنجزاتها الثقافية والعلمية "انكشف" ضعف وقصور المستوى الذي انحدرت إليه الفصحى، سيما مع ما كانت تشهده المجتمعات العربية من "طغيان العاميات المنحرفة التي تغلّب عليها الدخيل الأعجمي من التركية واللغات الأخرى". غير أن نخبة واعية تنبهت سريعا لهذا الخلل، تصدرت حركة النهضة العربية وسعت بكل جهدها لنشر التعليم وإطلاق المنابر الصحافية وتأسيس المطابع، لتنشيط الحركة الثقافية، فضلا عن إرسال البعثات العلمية للخارج، و"تجديد التأليف المعجمي، وإخراج قواميس حديثة عامة وخاصة بالترجمة، ووضع المصطلحات المقابلة للألفاظ الأجنبية، ودعم حركات الإصلاح الاجتماعي والفكري والديني.
إن التعريب الفعال المعول عليه لقيام نهضة عربية وتنمية شاملة يحتاج إلى قرار سياسي جريء وعزيمة راسخة، وهذه التنمية مرتبطة بطبيعة الحال بالتعليم والمعرفة التي لا يمكن امتلاكها بدون توطينها،
مع ذلك فقد كانت معظم دول المنطقة العربية تخضع لاحتلال أجنبي استيطاني، استخدم سياسة لغوية وتعليمية تفرض استعمال لغته وثقافته في كل مجالات الحياة العملية الاقتصادية والإعلامية، وفي بعض المناطق مثل الجزائر وصل صلف الاحتلال إلى الحد الذي صدرت فيه قوانين "تجرم" استعمال الفصحى في المدارس والصحافة. كما صدرت مذكرات رسمية من حكام الاحتلال الفرنسي في المغرب وغرب إفريقيا وشمالها تأمر بالكف عن فتح مدارس العربية، وكتاتيب القرآن، وتعليم الفصحى.
وبعد خروج الاحتلال واجه التعريب "حملة شرسة مضادة ومقاومة عنيفة ـ ولا سيما في منطقة المغرب الكبير ـ مع الاستمرار في اتهام العربية بالقصور والعجز والتخلف"، وإن كانت هذه الحملة أقل ضراوة في منطقة المشرق. لكن ذلك لم يمنع أيضا من عودة دعوات قديمة ظهرت في القرن التاسع عشر لاستعمال اللهجات العربية محل الفصحى في التعليم. ثم جاءت العولمة الاقتصادية لتحمل أيضا في طياتها دعوات للعولمة اللغوية والثقافية، تكون فيها السيادة للغة واحدة "مسيطرة" و"متفوقة" هي اللغة الإنجليزية.
يقول عبدالعلي الودغيري: إن الأخطر في الوقت الحالي من كل التحديات سابقة الذكر هو"مبالغة أهل هذه اللغة في الإعراض عنها وإهمالها.. وفي النظرة السلبية والأحكام القبلية التي يصدرونها عليها"، معتبرا أن إهمال أهل العربية لها وعدم حرصهم على توريثها لأبنائهم هو أكبر تهديد تواجهه هذه اللغة.
اللغة الوطنية وسيلة للتحرر
أدرك القائمون على تأسيس الدولة الإسلامية الأولى أهمية استعمال العربية كلغة رسمية في كل شؤون الدولة، كمؤشر على الاستقلالية، وركن أساسي من أركان بناء الدولة "المتحررة من التبعية الخارجية"، لذلك نشط المسلمون في ترجمة المعارف والكتب من اللغات الأخرى، وتعريب العديد من الألفاظ الأجنبية. في العصر الحديث أصبح للتعريب مفهومين؛ "وضع مصطلحات ومقابلات عربية لألفاظ أجنبية .. تطويرا لطاقاتها التعبيرية"، وجعل العربية "لغة تلقين" لمختلف العلوم ولغة الاستعمال الرسمي في الإدارة وكل مرافق الدولة. وهو بهذا المعنى الأخير "إعادة اعتبار" للغة الوطنية الرسمية كونها لغة الأمة.
والمبتغى، كما يقول الودغيري، هو إعادة "تثبيت الهوية الثقافية العربية الإسلامية التي تعبر عنها هذه اللغة بكل كفاءة وشمولية ودقة وعمق"، موضحا أن ذلك لا صلة له بما يروج له المعارضون للتعريب من أنه انغلاق على الذات ورفض لاستعمال اللغات الأجنبية، التي يرى أنه من الواجب إتقانها والتعمق فيها. لكنه يدعو إلى التمييز بين نوعين من التعدد اللغوي؛ التعدد على مستوى الأفراد، والتعدد على مستوى الدولة. فالأفراد لهم كامل الحرية في اكتساب اللغات المختلفة إلى جانب لغتهم الأم، ويجب أن تتاح لهم كل الفرص لتحقيق ذلك. أما الدولة فيجب أن تلتزم بكل مؤسساتها وأجهزتها باستخدام اللغة الوطنية الرسمية دون غيرها. ويضيف:" إن الثنائية اللغوية القسرية المفروضة في جهات كثيرة من الوطن العربي، ولا سيما في أغلبية بلدان المغرب الكبير(المغرب، الجزائر، تونس، موريتانيا) تعيق حرية الاختيار هذه ( حرية الأفراد) .. وإنما تلزمه بلغة أجنبية واحدة".
اللغة لا تتطور بالإهمال
إن التعريب الفعال المعول عليه لقيام نهضة عربية وتنمية شاملة يحتاج إلى قرار سياسي جريء وعزيمة راسخة، وهذه التنمية مرتبطة بطبيعة الحال بالتعليم والمعرفة التي لا يمكن امتلاكها بدون توطينها، بحسب الودغيري.
بحكم واقع الحال فإن معظم معارفنا مستوردة من الخارج، وهي أما أن تنشر بلغتها الأصلية في المجتمع ما يعني تعميم استعمال تلك اللغة وفرض تعلمها، وهو طرق يقود إلى تبعية حتمية لغوية وثقافية واقتصادية، أو أن يتم ترجمة هذه المعارف والعلوم الى اللغة الوطنية، وهو طريق سلكته الدول التي "خرجت من مرحلة التبعية والاستلاب والتخلف إلى طور التحرر والتطور والإبداع الذاتي".
يؤكد الودغيري هنا أن اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعرفة، فهي مرتبطة بالروح والعاطفة ونمط التفكير ورؤية العالم، وهي ذاكرة المجتمع وخزان ثقافته وحصيلة تجاربه وخبرته، وعنوان تميزه وأصالته، ورمز لسيادته وهويته. ولذلك فإن استخدام اللغة الوطنية(العربية في حالتنا) كلغة معرفة وعلم ضرورية لتحقيق التنمية وتعميم التعليم. كما أن ذلك يعمل على إغناء اللغة وإحيائها وتطويرها.
فالعربية التي تتهم من قبل البعض بأنها قاصرة ومتخلفة لا يمكن أن تنمو وتتطور وهي مهملة ومعطلة. إضافة إلى ذلك فإن كل الدول الصغرى والكبرى التي استطاعت تحقيق طفرة في مجال التعليم استعملت لغتها الوطنية وسيلة لنقل المعرفة، مع الانفتاح على اللغات الأجنبية. وفوق ذلك فإن التعليم الذي يراد له أن يكون شاملا لجميع أفراد المجتمع حتى يشاركوا في التنمية إذا تم بلغة أجنبية فإن كلفته المعنوية ستكون أعلى وأكثر فداحة من التكلفة المادية؛ فمثل هذه العملية سينتج عنها اقتلاع لهوية المجتمع من جذورها، وستدمجه في انتماء آخر لا صلة له به بعيدا عن انتمائه التاريخي والحضاري.
ضغوط داخلية وخارجية
يحول دون تطبيق التعريب غياب القرار السياسي الحازم بهذا الشأن. يقول الودغيري أن مثل هذا القرار يكون أيضا أكثر فاعلية وأيسر في التطبيق لو صدر في وقت واحد عن الدول العربية مجتمعة. فبعض الدول التي حاولت تطبيق سياسة التعريب بمفردها، كالجزائر والمغرب وتونس، واجهت صعوبات هائلة بدون أن تحصل على الدعم المعنوي والمادي والسياسي اللازم، فوجدت نفسها معزولة أمام ضغوطات داخلية وخارجية رافضة لهذا التوجه، دفعتها في كثير من الأحيان للتراجع.
إلى ذلك فإن "القوى الأجنبية التي تجد مصلحتها العليا في إبقاء العالم العربي على حالته من التمزق والضعف الاقتصادي والسياسي" مارست ضغوطها باستمرار على كل دولة عربية على حدة حتى تتخلى عن فكرة التعريب ولا سيما في المنطقة المغاربية، وفي تعزيز محاولة "الفصل اللغوي والثقافي" بين المغرب والمشرق العربيين. أيضا فإن موجة العولمة الاقتصادية جعلت من اللغة الإنجليزية، تحديدا في المشرق، لغة العولمة الوحيدة، فزاحمت العربية في كل القطاعات، التي اقتنع الكثير من أبنائها أن لا مستقبل لهم بدون اتقان الانجليزية على حساب لغتهم الأم.
اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعرفة، فهي مرتبطة بالروح والعاطفة ونمط التفكير ورؤية العالم، وهي ذاكرة المجتمع وخزان ثقافته وحصيلة تجاربه وخبرته، وعنوان تميزه وأصالته، ورمز لسيادته وهويته.
يضاف إلى ما سبق، بحسب الودغيري، عوامل أخرى تعطل سير عملية التعريب في طريقها الصحيح منها؛عدم إلزامية المواطنين باستعمال لغتهم الوطنية في كل المجالات إلزاما قانونيا تترتب عليه عقوبات، وعدم اشتراط إتقان العربية الفصحى في المتقدمين للوظائف في بلدانهم ولا سيما في المواقع الحساسة، ما عزز الإحساس بأن إتقان اللغة الأجنبية لا العربية هو الأساس في الحصول على الوظائف، وبالتالي صار السؤال الذي يطرحه جيل كامل من الشباب هو: ما الجدوى إذن من دراسة العربية؟.
ويزيد الوضع سوءا عندما نرى العديد من أساتذة الجامعات والمعاهد العلمية يرفضون استخدام العربية في التدريس بشكل مطلق، وغياب التشجيع الرسمي لترجمة الكتب العلمية إلى العربية، خاصة المصادر الأساسية منها، وتخاذل النخب المثقفة وتراجع دورها في قيادة مثل هذه المحاولات الإصلاحية الضرورية. يضيف الودغيري إلى ما سبق تراجع المد العروبي الذي يؤمن بالوحدة العربية لتحل محله القطرية الضيقة التي لا تؤمن إلا بالدولة ذات الحدود المغلقة، فضلا عن ضغوط قوية تمارسها لوبيات اللغات الأجنبية (اللوبي الفرنكفوني في المغرب الكبير واللوبي الإنجلوفوني في المشرق) التي تحتل مراكز مهمة في دوائر اتخاذ القرار، لمنع التعريب والتقليل من أهميته ودوره في التنمية.
صورة الحسين بن علي بين هويتين سرديتين (2من3)
صورة الحسين بن علي بين هويتين سرديتين (1من3)
التنوير البريطاني وسوسيولوجيا الفضيلة (2من2)