تم الحديث في
المقال السابق عن قيام الأنظمة العربية الوطنية ما بعد الاستعمار وغرقها سريعا في حكم الفرد والاستبداد والفساد، فجاءت الحركات القومية كثائر على هذا الوضع القائم، وقدمت تصورها لطريق
النهوض في التخلص من الفرقة والتقسيم الجغرافي الذي تركه الاستعمار ومحاربة الدولة الوطنية، لينتهي بها الأمر إلى دول مستبدة دكتاتورية يسودها حكم الفرد والحكم البوليسي.
بعد انهيار المشروع والنظرية القومية في النهوض ظهرت نظرية الحركات الإسلامية، التي تقوم فكرتها السياسية على فكرة استعادة الدولة والإمبراطورية الإسلامية القديمة، فصعد نجمها بعد نكسة عام 1967 التي كانت أبرز تجليات فشل المد القومي.
لكن هذه الحركات بقيت تحارب كل المنتجات الغربية في العلوم السياسية وإدارة الدولة، وكانت تعتقد أنها يمكن أن تعبر إلى المستقبل بوسائل التاريخ القديم المعروض بصورة طوباوية بسيطة، على اعتبار أن تلك العلوم السياسية الحديثة شكل من أشكال الغزو الثقافي الذي يجب مقاومته، لتصل بهذا التصور إلى إهدار أكبر فرصة في قيادة تحول ديمقراطي في المنطقة، فتحول الربيع العربي إلى شتاء سياسي قارص عاد بالاستبداد بوجوه جديدة، وأهدرت الفرصة في قيام الدول ديمقراطية حديثة.
لكن هل فعلا
الديمقراطية هي كلمة السر في النهوض؟
وهل الديمقراطية قادرة على جلب الرفاه والدول المتقدمة؟
وما هي أبرز العوامل التي يمكن أن تفشل الديمقراطية في تحقيق أهدافها.
(1) هل الديمقراطية هي كلمة السر في النهوض وجلب الرفاه؟
يمكن الجزم بأن الديمقراطية تمثل حاليا خير وسيلة توصلت إليها البشرية حتى الآن في استخراج أفضل ما لدى المجتمعات من قيادات وكوادر بشرية؛ قادرة على إدارة المال العام وموارد الدولة وإعادة توزيعها بما يحقق النهوض والتقدم.
تغيرت النظرة للسلطة عبر العصور، فبعد أن كانت الشعوب بلا سلطة، ثم ظهرت السلطة التي كانت تمارس الرعاية الدينية أو الرعاية الطبقية لبعض الفئات الاجتماعية، تطور مفهوم الدولة الحديث إلى أن أصبحت السلطة تنحصر مهمتها في احتكار العنف المحكوم بنصوص القانون، وتحقيق الأمن، وإدارة المال العام (مال دافعي الضرائب).
الديمقراطية وقرار الشعب في إفراز من يحكمه، هي الخطوة الأولى والمقدمة الأساسية والباب الأول لأي نهوض بشري، إذ لا يمكن أن يكون هناك نهوض وتقدم بعمر طويل نسبيا إلا بوجود نظام ديمقراطي يحكم الشعب به نفسه؛ ليستخرج أفضل ما لديه من الموارد البشرية لقيادة نهوضه وتقدمه.
مثلت الديمقراطية وصفة أساسية لنصف البشرية في التحرك نحو النهوض، ومتطلبا أساسيا لكل الدول التي حققت نهوضا، وتقدمت وحققت الرفاه لشعوبها.
لكن، يلاحظ أن هناك دولا ديمقراطية لكنها دول متخلفة وفقيرة وتعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة، فلماذا إذن لم تحل الديمقراطية مشاكل تلك الدول وتحقق الرفاه والنهوض لشعوبها؟ مثال ذلك الديمقراطيات الأفريقية والديمقراطيات العربية في المغرب العربي، وخاصة في تونس؛ الديمقراطية الأبرز والأعمق عربيا، إذ تعاني الدولة من الفقر والبطالة وتخلف النظام الصحي والتعليمي.
(2) لماذا تفشل الديمقراطية مؤقتا في تحقيق النهوض؟
هناك عدة أسباب تحول دون تحقيق الديمقراطية أهدافها بشكل مؤقت في التقدم والنهوض والارتقاء بمستقبل الشعوب:
1- الديمقراطيات الوليدة: بلا شك أن الديمقراطية لا تملك العصا السحرية في حل المشاكل الاقتصادية والأمنية للمجتمعات المتخلفة، لكنها تقوم بمهمة أساسية بوضع قدم الشعوب على بداية الطريق، واستخراج أفضل ما لدى الشعوب من إمكانيات وقدرات في إدارة موارد الدولة على خير وجه، وحل مشاكل الشعوب في أبدع الطرق وأفضلها.
وهذا عادة لن يتحقق بشكل سريع في الديمقراطيات الوليدة، إذ إن حجم العطب في كل المجالات التي تركته الأنظمة المستبدة كبير يصعب تفكيكه بشكل سريع، كما أن الديمقراطيات الوليدة تكون في مرحلتها الأولى التي تقدر بربع قرن؛ تعاني من مراهقة الاختيار وسوء الفرز، والشغب السياسي غير المبرر ما قبل النضوج واستقرار الحال. فالزمن وحده القادر على ترشيد تلك الديمقراطيات وتحسين مخرجاتها لتحقيق النهوض.
2- دخول رجال الدين على العملية الديمقراطية: يمكن تعريف رجل الدين بأنه كل شخص يملك شوكة أو سلطة دينية في نفوس الشعوب، مما يجعل المعيار لدى الشعوب في اختياره والتصويت له هو سلطته المقدسة التي تملك الرهبة والسلطان على نفوس الشعوب، ومن أمثلة رجال الدين: الداعية، والوعاظ، والخطيب، الإمام والمفتي، وشيخ الطريقة، والمرجعية الدينية، وآية الله، والبابا، والقسيس، والراهب، والحاخام اليهودي.. إلى آخر ذلك من المناصب والمنازل الدينية، فيتم بهذا الاختيار تفريغ الديمقراطية من أهم سمة من سماتها، وهي اختيار الأفضل لإدارة الموارد ومواجهة المشاكل التي تواجه حياة ومعاش الشعوب ومستقبلها.
بكل تأكيد لا يُرفض دخول رجل الدين إلى العمل السياسي لكونه رجل دين، لكن بإمكانه أن يمارس العمل السياسي ويقدم نفسه كشخص قادر على بناء مستقبل الناس وحل مشاكلهم بما يملكه من خبرات وقدرات شخصية وبرامج واقعية وعملية، لا بما يملكه من سلطة دينية مقدسة وصفته كرجل دين.
كما علينا هنا التفريق بين السياسي المتدين ورجل الدين، فالسياسي المتدين هو شخص يملك القدرات في إدارة موارد دافعي الضرائب وتنمية حياة الشعوب ومستقبلها، وفي الوقت نفسه يكون محافظا ملتزما بأحكام دينه.
كما علينا أن نفرق أيضا بين شمولية الدين، وشمولية رجل الدين. فالدين شامل يتسع لكل مناحي الحياة، وهذا لا يعني شمولية رجل الدين الذي عادة يكون قادرا في الشؤون الدينية فقط، بعيدا عن الشؤون الحياتية.
وهنا يجدر التنبيه إلى أن هناك من رجال الدين من لا يقبلون العملية الديمقراطية ولا يؤمنون بها، لكنهم يتعاملون معها كأمر واقع ومؤقت يمكّنهم من الاستيلاء على السلطة، ومن ثم يتم إعادة إنتاج السلطة وتفصيلها، لكي لا تأتي بأحد غيرهم إلى الحكم، كما حدث في إيران.
3- دخول العسكر إلى العملية الديمقراطية: يمكن تعريف العسكر: هو كل من يستخدم مقدرات الدولة العسكرية للاستيلاء على السلطة في البلاد، فيحوّل السلطة العسكرية من قوة لحماية البلاد من العدوان عليها داخليا أو خارجيا؛ إلى وسيلة يستخدمها ليستولي على السلطة ويضطهد بها خصومه بقوة السلاح الذي يتم إنتاجه وشراؤه بأموال الدولة ودافعي الضرائب.
العسكر الذين يستولون على السلطة بالقوة الجبرية، لا يؤمنون أساسا بالديمقراطية كوسيلة من وسائل الوصول للسلطة، وتكون الديمقراطية أول ضحية من ضحايا وصولهم للسلطة؛ بالإلغاء أو التشويه أو تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى مساحيق تجميل لتقديم أنفسهم دوليا بصورة مقبولة.
من المهم هنا التفريق بين حكم العسكر الذي يستخدم القوة في الاستيلاء على السلطة، والأشخاص الذين يصلون إلى السلطة عبر الصندوق وجاؤوا من خلفيات وسابقة أعمال عسكرية، كما يحصل في كل الدول الغربية. إذ لا يمكن اعتبار من يصل للسلطة عبر الصندوق وكان عمله السابق في السلك العسكري أنه حكم عسكر، ما دام لم يستخدم القوة في قهر خصومه وجاء عبر الصندوق النزيه الشفاف.
هناك أمور أساسية تجعل العسكر عاجزين عن النجاح في إدارة شؤون البلاد واستمرار التداول السلمي للسلطة، فالعسكر ميدان عملهم هو الحرب والتدمير وتحطيم الشيء القائم، والطرف الذي يقابلهم هو العدو، لكن العملية السياسة ميدانها هو البناء وتحسين العمل القائم، والطرف المقابل هو المنافس وشريك الوطن الذي يمكن التعاون معه لبناء الدولة وازدهارها.
4- دخول رجال الأعمال على خط العملية الديمقراطية: تكاد تكون هذه المشكلة الأبرز حاليا من الديمقراطيات الغربية التي لا تزال تتسلل للعملية الديمقراطية دون القدرة على علاجها. تنبه المفكرون القدماء مبكرا لهذه المشكلة، وكانت القاعدة العامة أن التجارة لا تجتمع مع الإمارة، وأن التجارة إذا دخلت على الإمارة يكون ميلاد الفساد الاقتصادي الذي يهدم التنمية والرفاه. ويكاد يكون الخلط بين الإمارة والتجارة هو الرحم الولود للفساد، وأول خطوة على طريق تراجع الدول وانهيارها.
تزداد مشكلة الخلط بين السياسة والعمل التجاري، إذ تتحول السلطة بالنسبة لرجال الأعمال كبيئة خصبة لتحقيق مزيد من الأرباح والأموال، وبعد ذلك تتناسل الجرائم الاقتصادية التي تنهك الدولة وتبشر بانهيارها وتراجعها وتخلفها وتقهقرها للخلف.
5- دخول النظام القبلي على العملية الديمقراطية: تمتاز المنطقة العربية بشكل عام بأنها منطقة قبلية، إذ تشكل القبائل رابطا وكيانا اجتماعيا بين أفراد المجتمع، لكن سرعان ما يتم تحويل القبائل من كيانات اجتماعية إلى كيانات سياسية في مواسم الانتخابات والفرز السياسي.
يعد تدخل القبيلة مشكلة معقدة في تعطيل العملية الديمقراطية عن تحقيق أهدافها، لكنها مشكلة يمكن تجاوزها من خلال تفصيل القوانين الانتخابية وتوسيع الدوائر الانتخابية، لتمتد الدوائر الانتخابية على مناطق جغرافية واسعة، فيبهت تركيز القبلية وتأثيرها في الفرز الانتخابي؛ لصالح الأحزاب البرامجية الممتدة في كل مكونات المجتمع.
(3) كيف للديمقراطية أن تثمر؟
عند ذكر الديمقراطية عادة ما يتبادر للأذهان أن الديمقراطية هي الخضوع لنتائج الصندوق والتسليم بها، وهذا يمثل الجزء الأهم من العملية الديمقراطية، لكنه بكل تأكيد لا يمثل كل عناصر العملية الديمقراطية.
فالدعوة للانتخابات المبكرة جزء أساسي ورئيسي من العملية الديمقراطية، وخاصة في أنظمة الحكم البرلمانية والديمقراطيات الوليدة، كما أن الاستقالة قبل انقضاء المدة الدستورية ومغادرة السلطة وفسح المجال للشعب لتجديد الاختيار قبل الميعاد في حال الفشل أو المنعطفات السياسية الحادة؛ أيضا من صلب العملية الديمقراطية التي يمكن أن تجعل الديمقراطية قادرة على الإثمار.
لا يمكن للديمقراطية أن تثمر إلا إذا نشأت في بيئة تؤمن إيمانا حقيقيا بالحرية، فلا ديمقراطية في مجتمعات لا تؤمن بالحرية. وهنا نقصد بالحرية الحرية المطلقة المحكومة بسقف القانون، فلا يمكن أن نكون أمام ديمقراطية حقيقية إذا لم تكن هناك حريات شخصية وحريات سياسية وحريات دينية وحريات إقتصادية وحريات فكرية. فالصندوق يصبح رحما لميلاد المستبد وعشا لتفريخ الدكتاتور إذا غابت الحريات.
حتى تثمر الديمقراطية وتكون الباب الأول نحو الرفاه والنمو والتقدم، لا بد أن يحسن الشعب الاختيار ويتحرر من معوقات وآفات الديمقراطية (العسكر ورجال الدين ورجال الأعمال والقبائل) التي تفرغ الديمقراطية من حقيقتها التي وجدت من أجلها.
الديمقراطية لا يمكن أن تثمر إلا إذا كانت في دولة مدنية تقوم على الحرية والمواطنة والدولة الوطنية والمساواة، إذ لا يمكن للديمقراطية أن تنهض في الدول الدينية الثيوقراطية أو الدولة العسكرية البوليسية أو الدول القبلية، فهي نبتة لا تنمو إلا في تربة الدولة المدنية. فأي محاولة للعبث بآلية الديمقراطية وبيئتها سوف يعطل خصائصها، ويوقف آلية عملها ويفشل ميكانيكيتها في الإنتاج.
الديمقراطية حتى تثمر لا يمكن حصرها في شكل محدد، فيمكن أن تكون برلمانية أو رئاسية، ويمكن أن تتطور في المستقبل لأي شكل آخر يتناسب مع البيئة التي تكون فيها، لكن في كل أشكالها لا بد لها من توفر عنصر أساسي، وهو الاحتكام إلى رأي الشعب وقراره وكلمته.
الديمقراطية حتى تثمر، لا بد لها من تطوير دائم وبشكل مستمر بما يتناسب مع تطور الزمان والمكان وحاجات الأمم والشعوب، فهي علم لا بد أن يتطور مثل باقي العلوم وفي كل الاتجاهات.
لكن السؤال هنا يثور: ألا يمكن أن يكون هناك دول مستبدة محكومة بالرجل الواحد، لكنها دولة تحقق النهوض والتقدم وتحسن الإدارة وتحقق الرفاه، كما هو في بعض الدول حاليا؟
... هذا ما سوف نناقشه في المقال الثالث (كلمة السر في النهوض- 3).