كانت ثورة "الياسمين" أيقونة ثورات الربيع
العربي، التي دبت الروح في الشعوب العربية، بعد موت سريري دام سنين طويلة، فانتفضت
شعوب مصر وليبيا واليمن وسوريا على حكامها الظالمين الطغاة، فخلعتهم جميعا إلا
طاغية الشام الذي ظل يصارع الموت إلى أن أنقذه قيصر روسيا من السقوط، ولتبدأ بعدها
الثورات المضادة التي تقودها دولتا الإمارات والسعودية، برعاية صهيونية، خوفاً من
أن تنتقل إليهما رياح الثورات ويتنفس شعباهما عبير الحرية..
لم تنعم البلاد التي شهدت ثورات الربيع العربي
بالاستقرار، ولم يتركوها تهنأ بحصاد ثوراتها وتحقق أهدافها النبيلة من حرية وكرامة
وعدالة إحتماعية، فانقضوا عليها وأغرقوها في بحور من الدماء والركام!
كنا نظن أن
تونس قد نجت إلى حد ما من مؤامراتهم الخبيثة،
رغم محاولاتهم الحثيثة في بث الفوضي في البلاد وإثارة الفتنة بين العلمانيين
والإسلاميين، إثر إغتيال السياسيين الاشتراكيين "شكري بلعيد"
و"محمد البراهمي"، وعرقلة المسيرة
الديمقراطية فيها، كي لا تكون نموذجاً
يحتذى به في البلدان العربية يقض مضاجعهم.
لقد أنفقت الإمارات المليارات كي يعاد إنتاج النظام
نفسه، من خلال شخصيات محسوبة على النظام البائد، وعدم وصول شخصيات ثورية محسوبة
على المعارضة، كما حدث مع "المنصف المرزوقي" الذي تولى رئاسة تونس بعد
الثورة،
وكان أول رئيس في الوطن العربي يأتي بشكل ديمقراطي، ولكنهم اخترقوا الساحة
السياسية وعملوا على تلويث البيئة السياسية؛ من خلال المال الفاسد والدعم
اللوجيستي المقدم لبعض الأحزاب. وللأسف استطاعوا شراء ولاء بعض الأحزاب، كما
اشتروا ذمم مؤسسات وشخصيات إعلامية معروفة؛ كي يسقطوا "المرزوقي" في الانتخابات
التالية.
ولقد اتهم "المرزوقي" مؤخراً الإمارات بزعزعة
الاستقرار في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي قائلاً: "محمد بن زايد هو
المكلف بتدمير الربيع العربي، حاول أن يدمره في تونس ويدمره اليوم في ليبيا"،
مضيفا أنه "أصبح معروفاً أن الإمارات هي من يحرك الثورة المضادة في المنطقة"..
وبقدر ما حاربوا "المرزوقي" وأسقطوه؛ بقدر ما
دعموا الرئيس الجديد "الباجي قائد السبسي"، ظناً منهم أنه سيعيد النظام
الفاشي للمخلوع "زين العابدين بن علي" ويقمع الحريات، ما يعني إنهاء
الثورة وتوابعها. وعلى الرغم من بعض تحفظاتنا علي فترة رئاسته، وبعض قراراته
والقوانين التي أصدرها، كقانون مساومة المرأة بالرجل في الميراث، إلا أنه يحسب
للرجل أنه لم يَنسَق لهواهم ولم ينفذ ما طلبوه منه، من اجتثاث حركة
النهضة، بل أرسى
دعائم التوافق السياسي مع حركة النهضة (توافق الشيخين)، ولم يجر البلاد إلى الفوضى
التي أرادوها، وساهم في استقرار البلاد طوال فترة رئاسته، وظل محافظاً على المسار
الديمقراطي في تونس إلى أن سلم السلطة للرئيس المنتخب "قيس سعيد"، الذي
لم يكن على هواهم أيضا، فقد كانوا يدعمون وزير الدفاع السابق "عبد الكريم
الزبيدي" ورجل الإعلام المتهم في قضايا فساد مالي..
لم ينجح أقطاب الثورة المضادة في استمالة الجيش لهم لتنفيذ
انقلاب عسكرى ضد إرادة الشعب، لأن الجيش ظل محايداً بعيداً عن السياسة وعلى مسافة
واحدة بين الفرقاء.
وشهدنا إشعال الحرائق في بعض المصانع والمحلات والمنشآت؛
لإحداث فوضى عارمة في البلاد، تستوجب نزول الجيش للإمساك بزمام الأمور، وتعطيل المؤسسات
الرئاسية والتشريعية والتنفيذية، ولكن خاب أملهم مرة أخرى في وأد الثورة
التونسية..
الأزمة الحالية في تونس، والتي أدت إلى سحب الثقة من
حكومة "إلياس الفخاخ" وإقالتها لتورطه في
قضايا فساد واستغلال نفوذ،
منذ أن كان وزيرا للمالية، وهو الذي شكل حكومته على أساس حملة محاربة الفساد. أعقب
ذلك عمل صبياني قام به بإقالة وزراء حركة النهضة من حكومة تصريف الأعمال التي يترأسها،
انتقاما منها لأنها كشفت فساده!
هذه الأزمة، ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى ما أفرزته
الانتخابات التشريعية من تركيبة عجيبة؛ برلمان ينخر الانقسام في صلبه، فنوابه غير
متجانسين ويكيدون لبعضهم كيداً على خلفية أيديولوجية متجذرة في جيناتهم.
فعلى الرغم من كل التوقعات بتشكيل حكومة ائتلافية، على
قاعدة الشراكة الثورية بين النهضة وحركة الشعب والتيار، إلا أن الصراعات الحزبية والمصالح
الضيقة بين الأطراف أفشلت حكومة الائتلاف برئاسة "الحبيب الجملي" ولم
تحظ بتزكية البرلمان. ومع إصرار أحزاب الكتلة الديمقراطية على منع حركة النهضة من اختيار
مرشحها كما ينص الدستور، وبعد أن تفاقمت الأزمة، وافقوا على مضض على اختيار
"قيس سعيد" لـ"إلياس الفخاخ" لتشيكل الحكومة، رغم شعبيته
الضعيفة التي أظهرتها نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث كان مرشحاً فيها وحصل
على المركز 16 بنسبة 0.34 في المئة، أي 11532 صوتا فقط..
ومما زاد من حدة الصراع السياسي وساهم في تعقيد الأزمة،
دعوات لحل البرلمان، وحملة انتقادات لاذعة لحركة النهضة وشيطنتها، طالت زعيمها "راشد
الغنوشي" والطعن في ذمته المالية، مع نغمة العصر السائدة في العالم كله (فزاعة
الإسلام السياسي)..
هناك أطراف سياسية داخلية غذت هذه
الحملة الضروس، وهي
الأطراف الخاسرة في الانتخابات والمتضررة من عملية الإصلاح السياسي. والمستفيدون
من تلك الحملة جزء من المنظومة القديمة (الحزب الدستورى الحر ورئيسته "عبير
موسي" رأس الحربة لتعطيل الديمقراطية)، واليسار المتطرف الرافض للديمقراطية،
وكل القوى الداخلية والخارجية المعادية لنجاح التجربة التونسية..
منذ اليوم الأول لانعقاد البرلمان؛ عملت "عبير
موسي" على
إرباك المسار السياسي وإظهار أن الديمقراطية لن تنجح في العالم
العربي، لأنها ستأتي بإسلاميين متطرفين. وهي مدعومة من الإمارات. وعلى غرار حملة "تمرد"
المصرية التي رعتها ومولتها الإمارات، شُكلت غرفة عمليات من شخصيات تونسية معروفة
بقربها من الإمارات، لضرب التحول الديمقراطي في تونس، وتسليم السلطة لشخصية عسكرية
على غرار ما حدث في مصر، للقضاء على الثورة نهائياً وقمع الإسلاميين بلا هوادة..
ولقد
حذر الرئيس التونسي من محاولات لتفجير الدولة من
الداخل، وزعزعة أمن البلاد من خلال تآمر أطراف داخلية، لم يسمها، مع أخرى أجنبية
على الأمن القومي، ومحاولة البعض إقحام الجيش في المعارك السياسية..
والآن، وبعد أن استقالت الحكومة، وبدافع المكايدة
السياسية؛ قدمت بعض الكتل البرلمانية عريضة لسحب الثقة من رئيس البرلمان (الغنوشي)،
ما يعني استمرار الشد والجذب بين القوى السياسية، ومن شأنه تعميق جذور الأزمة في
البنيان السياسي ككل، وينذر بعواقب وخيمة تخطط لها الجهات المعادية لنجاح التجربة
التونسية الوليدة والفريدة في المنطقة.
ومن المحزن والمؤسف؛ أن بعض الأحزاب المحسوبة على الثورة
تساعد على ذلك، لمجرد الاختلاف الأيديولوجي مع الحزب الأكبر (حركة النهضة)، مثلما
حدث في مصر تماماً؛ حيث أضاعت الثورة بدافع الحقد والكراهية للإخوان المسلمين
الفائزين في جميع الاستحقاقات الإنتخابية! والخوف كل الخوف أن تضيع ثورة الياسمين
كما ضاعت ثورة يناير..
لا شك في أن التجربة الديمقراطية في تونس، رغم هشاشتها، كانت
بمثابة بقعة ضوء وسط ظلام دامس يحيط ما حولها، وكل ما نتمناه أن تظل متقدة ولا
تنظفئ..
twitter.com/amiraaboelfetou