لا تزال تداعيات الصلاة في
آيا صوفيا تطل برأسها عربيا، رغم أنها لا تحمل الاستقطاب ذاته داخل
تركيا بين الحكومة والمعارضة المتدينة منها وغير المتدينة. وذلك لأن الأمر له بعد قومي أبعد من مسألة تحول المبنى الأثري لمسجد أو الإبقاء عليه كمتحف، إذ يتعلق
بهزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. لكن كمعظم الاستقطابات العربية في القضايا الموسمية، فالقضية محملة بأبعاد سياسية وتنطوي على نقاش
الحالة العربية أكثر من كونها قضية تركية.
وبغض النظر عن الرأي العام العربي المؤيد والمعارض للمسألة، ينبغي التوقف عند نقطة هامة تتعلق بدور المسجد كتراث إنساني عالمي. فالظاهر من سياق المسألة أن الطرح الأوروبي
والمسيحي تحديدا هو المفاضلة بين إبقاء المكان كمتحف وإعادته كمسجد، من دون الحديث عن إعادته إلى الأصل القديم ككنيسة. والمفاضلة العربية في النقاش العام هو
تاريخي بالأساس عن مدى أحقية محمد الفاتح في تحويل المكان إلى مسجد من الأساس. ولا أحد يجيب على سؤال هام هو: أين نذهب بنحو خمسمئة سنة كان المكان فيها مسجدا؟ لقد بنيت إضافات معمارية وتغيرت الوظيفة لمدة خمسة قرون، مما يعني أننا أمام مبنى له هوية مزدوجة، كالطفل الذي يولد لأبوين أحدهما مسلم والآخر مسيحي.
الإجابة السهلة على السؤال السابق هي: إبقاء المكان متحفا تفاديا لأي جدال أو سجال. وهي إجابة منطقية لو لم يكن سياق تحويله لمتحف هو سياق استعماري إقصائي تم في لحظة هزيمة كبيرة، ومن دون أي مرجعية شعبية أو حكومة منتخبة، وسط ترحيب أوروبي استعماري وقتها. كما أنه تم في إطار أوسع من طمس أية معالم تاريخية إسلامية عثمانية، في ظل قهر شعبي غير مسبوق.
لا تمكن إعادة ترتيب حوادث التاريخ بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه، ولا يمكن فرض
رؤية معينة على الأتراك إذا اتفقت حكومتهم المنتخبة مع معارضيها عليها. وبالتالي، أفضّل التعامل مع القضية كأمر واقع والنظر للمستقبل من دون الإغراق كثيرا في الماضي. وهذه النظرة تقتضي إعادة النظر في وضع آيا صوفيا في وظيفته المسجدية الجديدة التي تعطلت أكثر من ثمانية عقود.
لقد كان وضع آيا صوفيا وقفا طول القرون الخمسة السابقة على علمية الإغلاق. والوقف هنا ليس ملكية خاصة وليس ملكا حكوميا، إنه أشبه بمؤسسات المجتمع المدني الخيرية الحديثة. ولذا فأتصور أن تفعيل وقف آيا صوفيا العلمي والتعليمي سيكون رسالة سلام هامة، بدلا من رسائل الصدام التي تنطلق هنا وهناك. وإذا تمت إضافة مهام ثقافية وحوارية بين الأديان لهذه الوقفية، سيكون أكثر تعبيرا عن المستقبل الذي نريده في تركيا أو في أوروبا بشكل عام.
إن النظر للأمر من زاوية صراعية بحتة غير مفيد؛ لأن هناك الملايين ولدوا ويعيشون في دول أوروبا التي كانت تحارب العرب المسلمين في الحروب الصليبية، وكانت تخوض مواجهات عسكرية دامية مع السلطنة العثمانية. وقد افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه العام الماضي أكبر مسجد يبنى بمدينة كامبريدج البريطانية العريقة؛ التي تحتضن واحدة من أهم جامعات العالم. وبالتالي، فإن استدعاء تاريخ الصراع ليس مفيدا لأحد في عالم متداخل سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا بشكل كبير.
يوجد في مصر، وتحديدا في معبد الأقصر، مبنى أثري تحول من معبد فرعوني إلى كنيسة قبطية ثم إلى مسجد، هو مسجد أبو الحجاج الأقصري. وفيه مزاران، أحدهما للقديسة تريزا والآخر للشيخ أبو حجاج الأقصري، ويصلي فيه المسلمون وسط المسيحيين الذين يأتون لزيارة الضريح والسائحين من دون أية حساسيات دينية أو قومية. كل هذا تم في إطار تاريخي متباعد، من دون إثارة حساسيات رغم وجود المسيحيين في مصر.
وأتصور أن على الأتراك الآن التحضير للوظيفة الجديدة لآيا صوفيا ليعبر عن فكرة
المسجد الوقف كتراث جامع للإنسانية له وظيفة حضارية.
twitter.com/hanybeshr