باستقالة رئيس الحكومة أو بإقالته يكون المسار السياسي التونسي قد خطا خطوة جديدة في بنائه الانتقالي. وبقطع النظر عن الرابح وعن الخاسر من الإقالة أو الاستقالة أو سحب الثقة فإن حالة التجاذب السياسي دليل على حيوية المشهد وتفاعله. أثبتت التحقيقات التي تمخضت عنها اللجنة التي كُلفت بالتقصي في شبهات فساد رئيس الحكومة ثبوت تورطه المباشر في قضايا استغلال نفوذ وإثراء غير مشروع وتضارب مصالح مذ كان وزيرا للمالية.
تورّط رئيس الحكومة في ملفات فساد ضخمة وهو الذي شكّل حكومته على أساس حملة محاربة الفساد مسنودا بدعم رئيس الجمهورية أو بتعبير أدقّ بدعم مستشاريه. هذا الواقع الجديد فرض تغيير رئيس الحكومة الذي تعنّت في الاستقالة وأنكر تهم الفساد في البداية وحاول الهروب إلى الأمام لكنّ قرار كتل برلمانية سحب الثقة منه هو الذي فرض على رئاسة الجمهورية الدفع به نحو الخروج من الباب الصغير.
واقع سياسي جديد يتشكّل بناء على احتمالات كثيرة وقراءات متباينة تجعل من المسرح التونسي محطّ أنظار المراقبين مشرقا ومغربا لما سيكون للتجربة من تداعيات على البلاد وعلى المنطقة وعلى مسار الربيع العربي برمته.
سقوط الحكومة أم سقوط الرئيس
بعد تقديم استقالته تعتبر حكومة إلياس الفخفاخ في حكم المستقيلة وتتحوّل فورا إلى حكومة تصريف أعمال إلى حين تسلم الحكومة الجديدة مقاليد تسيير الدولة في الآجال التي حددها الدستور. سقطت الحكومة وسقط رئيسها بسبب تورطه في ملفات فساد ستحول دون مواصلته القيام بمهامه في قيادة البلاد ومؤسساتها الحساسة.
إن المسار التونسي سيكون في الأرجح الموضوعي مسارا ناجحا مهما عرف من تقلبات ومطبات وأزمات بل يمكن القول إنه لا يمكن لهذا المسار أن ينجح أو أن يكتمل ما لم تنضجه الأزمات والهزات مهما بلغت من العنف والحدّة.
لا بد من التذكير في هذا السياق بأنّ رئيس الحكومة المستقيل شغل منصب وزير المالية والسياحة في حكومة حمادي الجبالي وكذلك في حكومة علي العريّض. كما يجب التذكير بأنه ترشح لمنصب رئيس الجمهورية وتحصّل على نسبة 0.34 من أصوات الناخبين لكنّ قيّس سعيّد اختاره رئيسا للحكومة قبل أن تنفجر في وجهه ملفات فساد ضخمة. رغم شعبيته الضعيفة اختاره رئيس الجمهورية لرئاسة الحكومة بعد فشل حكومة الحبيب الجمني في الفوز بتزكية البرلمان وبعد إصرار أحزاب الكتلة الديمقراطية على منع حركة النهضة من اختيار مرشحها كما ينصّ على ذلك الدستور.
سقطت حكومة الجمني ولم تفز بالتزكية وسقطت اليوم حكومة الفخفاخ بسبب فساد رئيسها وهو ما يفتح البلاد على واقع جديد لم تعهده من قبل في التداول على السلطة. فلأوّل مرّة في تاريخ البلاد تسقط حكومة بسبب ملفات فساد وهو ما يُعدّ مؤشرا على تقدّم الوعي السياسي في تونس بعد الثورة.
إذا كان سقوط الفخفاخ يعني سقوط الحكومة فهذا لا يعني تورط الحكومة كلها في الفساد بل يكشف عن خلل في اختيار رئيسها وهو الأمر الذي يضع المسؤولية كاملة على عاتق رئيس الجمهورية. ثم إنّ الفخفاخ لم يكتف بالفساد والتستّر عليه بل قام فور إقالته بحركة صبيانية تمثلت في إقالة وزراء حركة النهضة انتقاما منها واحتجاجا على كشفه وهم في الواقع من أنجح الوزراء الذين عرفتهم تونس منذ هروب بن علي.
أزمة سياسية أم أزمة أخلاقية؟
إنّ ما تسبّب في سقوط الحكومة وفي استقالة رئيسها يعود إلى تعمّده المراوغة والتدليس بشأن ثروته وشركاته واستغلاله لمنصبه السياسي من أجل النفع الخاص الذي يعاقب عليه القانون. بناء على ذلك فإنه لا يمكن أن يكون قادرا على قيادة البلاد وهو الأمر الذي تدعمه النسبة التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
الأزمة الأخلاقية تعود كذلك إلى فشل البرلمان في منح الثقة لحكومة السيد الحبيب الجمني حيث تجمعت كتل سياسية بعينها لمنعه من نيل الثقة بسبب قربه من الإسلاميين لا بسبب الانتماء إليهم. بل هي أزمة تعود إلى أبعد من ذلك بكثير حيث لم تنجح النخب السياسية التونسية المحسوبة على الثورة أو على المعارضة في تجاوز ثاراتها السياسية وأحقادها الأيديولوجية القديمة من أجل إنجاح المسار الانتقالي وتجنيب البلاد السقوط في الفوضى.
من الطبيعي جدا ومن المنتظر أن تعطّل أحزاب النظام القديم سير أشغال البرلمان لضرب المسار الانتقالي لكن من المستغرب أن أحزابا تدّعي محاربة النظام القديم تتحالف اليوم معه وتشاركه أهدافه وأجنداته. القوميون العرب الذين رفعوا لواء الثورية والعروبة والتحرر من الاستعمار يتحالفون اليوم مع ألدّ أعداء الثورات وأخطر أنصار الاستبداد. كذا فعلت الأحزاب اليسارية التي سحقتها الإرادة الانتخابية ولم يعد لها وزن يُذكر في الخارطة السياسية التونسية اليوم بعد أن خيّرت هي الأخرى التحالف مع الدولة العميقة ومع بارونات الفساد.
المشهد التونسي يتغيّر بشكل متسارع ولا يتوقف فيه الفرز لحظة واحدة وهو ما يفسر التحوّل السريع للوعي الجمعي القاعدي رغم قدرة أذرع الدولة العميقة على الإيهام والتخدير والمناورة. نجح رئيس الجمهورية مثلا في إقناع السواد الأعظم بثوريته وباندراجه في خندق الدفاع عن الفقراء وبقدرته على محاربة الفساد لكنّ أسابيع قليلة كانت كافية ليتحالف الرجل مع الفاسدين ويدافع عنهم ويعيّنهم على رأس الحكومة. إن انهيار شعبية الرئيس اليوم هو أهم الأدلة على التحول السريع للوعي في تونس وهو مؤشر هام على قيمة المسارات الانتقالية في نحت الوعي السياسي للشعوب.
المخارج والمآلات
تتجه المخارج التونسية إلى منفذين أساسيين: إما التوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس نواب الشعب حول شخصية توافقية تتولى إدارة شؤون البلاد في ظرف حاسم أو تعنّت الرئاسة والذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة بعد حلّ البرلمان. صحيح أنّ الخيار الثاني سيكون مكلفا لكنه قد يساهم في مزيد تفعيل مبدأ الفرز عندما تتبخّر الأحزاب الأيديولوجية التي فقدت رصيدها ولن يكون في إمكانها الحصول على نفس العدد من المقاعد خاصة منها حزب حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي.
صحيح أيضا أن ذلك لن يكون ممكنا دون تفعيل مبدأ العتبة الانتخابية التي تمنع شتات الأحزاب من التمثيل النيابي. لكنّ معطيات ميدانية أخرى تلعب اليوم دورا بارزا في تغليب نجاح الخط الثوري على تيار النظام القديم والقوى السياسية المتحالفة معه. من ذلك نذكر انكشاف مصادر الفوضى والإرهاب لدى جزء كبير من الرأي العام التونسي أو انفضاح الدور الخطير الذي لعبه المنبر الإعلامي العمومي لصالح الثورة المضادة أو حتى الفعل التخريبي الذي مارسه الاتحاد العام التونسي للشغل أو المركزية النقابية لصالح منظومة الاستبداد.
مهما يكن من أمر فإن المسار التونسي سيكون في الأرجح الموضوعي مسارا ناجحا مهما عرف من تقلبات ومطبات وأزمات بل يمكن القول إنه لا يمكن لهذا المسار أن ينجح أو أن يكتمل ما لم تنضجه الأزمات والهزات مهما بلغت من العنف والحدّة. من كان يُصدّق منذ سنوات أنه باستطاعة البرلمان المنتخب ديمقراطيا في دولة عربية أن يقيل رئيس الحكومة بسبب ملف فساد؟ هذا الإنجاز مكسب في حدّ ذاته وخطوة على الطريق الصحيح ترسم بها تونس مسار الضوء لباقي التجارب العربية التي لن تتأخر رغم المصاعب والأزمات في سلك مسلك أهل تونس نحو الحرية والتعدد والديمقراطية.