الكلمة الحرّة، سواء أكانت عبر وسائل الإعلام المكتوبة أم المقروءة أم المرئيّة، هي سيف حادّ يمكن أن يقتل صاحبه، ويرميه في الظلمات، أو يجعله في عالم الأموات!
والعمل الإعلاميّ والصحفيّ ليس مهنة ترف فكريّ، وعلاقات عامّة، وإنّما هي مهنة معقّدة ومحفوفة بالمخاطر، ولهذا يفترض بمنْ يفكّر السير في دروبها أن يتّصف بجملة من الصفات، ومنها الشجاعة والموضوعيّة والدقّة. وعليه، ليس هيّنا أن تكون إعلاميّا وصحفيّا حرّا في البلدان الخالية من الأضواء والقوانين والإنصاف!
ومع غياب القانون، وسلطة الدولة، وانعدام الإنصاف، تشخص أمامنا حيرة غالبيّة الزملاء الإعلاميّين الذين يحاولون نقل حقيقة الشأن العراقيّ، سواء من داخل الوطن أو خارجه، وذلك لأنّ كلمة الحقّ في
العراق ليست بالمجّان، بل فاتورتها إمّا التغييب، أو الموت!
ومساء الاثنين الماضي اغتال مسلّحون الخبير الأمنيّ العراقيّ
هشام الهاشمي، الذي يُعدّ من الخبراء القلائل في التنظيمات المسلّحة بتصنيفاتها العقائديّة والفكريّة كافة.
مقتل الهاشمي أربك القوى الأمنيّة والسياسيّة والإعلاميّة الرسميّة بسبب "خبرته الأمنيّة"، وعلاقاته الواسعة مع غالبيّة القوى الحاكمة المدنيّة والعسكريّة، وفي ذات الوقت كانت حادثة الاغتيال تحمل في طياتها رسائل تخويف وتهديد لبعض السياسيّين، ولكلّ المنتقدين للوضع العامّ في البلاد!
وبعد الحادثة بيوم واحد زار رئيس حكومة بغداد "
مصطفى الكاظمي" منزل الهاشمي لتقديم العزاء، وتعهد لعائلته بملاحقة القتلة وتقديمهم للعدالة!
والعجيب أنّه، في ذات اليوم، تمّ تنسيب الفريق جميل الشمري إلى مديرية "إمرة الدفاع"، رغم أنّه متّهم بقتل العشرات من المتظاهرين في مدينة الناصريّة الجنوبيّة، وصدرت بحقّه مذكّرة قبض قضائيّ!
فكيف يمكن تَفهُّم "وعد"
الكاظمي بملاحقة قتلة الهاشمي، وفي ذات الوقت يَسمح بعودة الشمري إلى وزارة الدفاع؟
أفلا يدل ذلك على تناقضات واضحة، وقرارات غريبة، ووجود دولة عميقة تتّخذ قرارات غير مسؤولة؟
ولكن السؤال الأهم هنا:
هل اغتيال الهاشمي هو نهاية المطاف، أم بداية لسلسلة جديدة من
الاغتيالات المنظّمة ضدّ الإعلاميّين والصحفيّين غير السائرين على
سكّة المليشيات؟
أرى أنّ الهاشمي هو الحلقة الأولى من حملة اغتيالات واستهداف جديدة لبعض الإعلاميّين غير المتّفقين مع الحالة السلبيّة في البلاد!
والملاحظ أن الزملاء الإعلاميّين والأكاديميّين كافة في داخل العراق وصلت إليهم الرسالة الإرهابيّة، ولهذا فضّل بعضهم توخّي الحيطة والحذر، والاعتذار عن الظهور التلفزيونيّ؛ لأنّهم يعلمون جيّدا أنّ الهاشمي يمتلك علاقات واسعة ومميزة مع الكثير من السياسيّين والأمنيّين؛ ومع ذلك قُتِل بدم بارد!
مقتل الهاشمي، ربّما، سيفتح الباب لمرحلة حاسمة في علاقة حكومة الكاظمي مع
المليشيات، وبالذات مع اتّهام وزير الخارجيّة الأمريكيّ، مايك بومبيو، الأربعاء الماضي، "المليشيات المدعومة من إيران بالوقوف وراء عمليّة اغتيال الهاشمي"!
قافلة الاغتيال في العراق بدأت منذ الأيّام الأولى للاحتلال، ولم تتوقّف حتّى اللحظة، وقد سُحِقَ بسلاح الاغتيال الكاتم آلافُ الأبرياء في وضح النهار وأمام ذويهم، في سلسلة جرائم بشعة أكّدت قسوة المجرمين، وضياع هيبة القانون وفشل الدولة في بسط الأمن!
الغريب أنّ حكومة الكاظمي تعرف أنّ المليشيات هي سبب الفوضى الأمنيّة والسياسيّة، وهي تعبث بكلّ أريحيّة في ملفّات خطيرة، ومنها ما يتعلّق بالإرهاب، ومع ذلك نجد أنّ الحكومة عاجزة عن ضبطها!
وقبل يومين قرّرت مفوّضيّة الاتّحاد الأوروبيّ إدراج العراق ضمن قائمة الدول عالية المخاطر بشأن غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، معتبرة تلك الدول بأنّها "تشكّل تهديدا كبيرا على النظام الماليّ للاتّحاد"!
القرار الأوروبيّ سيجبر مصارف العراق على تدقيق عمليّات نقل الأموال على مستوى الأفراد والمؤسّسات الماليّة الوطنيّة والأجنبيّة، للحدّ من أيّ تدفّق لأموال غير نظيفة من وإلى البلاد.
وكذلك سيجبر البنك المركزيّ العراقيّ على ضبط وتنظيم مزاد الدولار الأمريكيّ، حيث يبيع البنك الدولار بأسعار مخفّضة عبر "مزاد مشهور" للمحافظة على سعر صرفه داخل العراق، وهو باب واسع للفساد وتمويل الإرهاب الداخليّ والخارجيّ!
أتصوّر أنّ القرار الأوروبيّ معضلة جديدة ستضاف للإشكاليّات الكبرى التي تواجه حكومة بغداد، وفي ذات الوقت هو قرار مُربك للقوى المستفيدة من حالة اللادولة، سواء من العراقيين أم غيرهم!
اتّجاه بوصلة الصراع ما بين المليشيات و"الدولة" غير واضح، وكذلك موقف "الدولة" من المليشيات غير حازم ومحاط بالضبابيّة. ومن هنا تأتي قوّة المليشيات في تنفيذ جرائم الاغتيالات، وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وغير ذلك من الجرائم الضاربة للسلم المجتمعيّ والمُجهضة لمفهوم الدولة!
twitter.com/dr_jasemj67