الكتاب: "مدخل إلى دراسة السياسة المالية ببلاد المغرب، من القرن الأول إلى القرن الخامس"
الكاتب: إبراهيم جدلة
دار النشر: كلية الآداب والفنون والإنسانيات، منوبة ومجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المشترك- تونس 2019
عدد الصفحات: 227 صفحة.
بين يدي الكتاب
يمثل نظام الجباية مدخلا مفيدا كثيرا ما يكشف وجوها من الحياة السياسية والاقتصادية والإدارية لعصر من العصور أو لدولة من الدول قد تخفى عن طالب المعلومة التاريخية المباشرة الصريحة. ضمن هذا الأفق يمكننا أن ننزل أثر "مدخل إلى دراسة السياسة المالية ببلاد المغرب، من القرن الأول إلى القرن الخامس هجري" لأستاذ التاريخ الإسلامي بالجامعة التونسية إبراهيم جدلة فهو يعود إلى نظام الجباية ليكشف عن صفحات من تاريخ بلاد المغرب في القرون الخمسة الأولى بعد الهجرة.
فحرر أثره في ثلاثة أقسام" القسم الأول تأطيري توسع فيه في السياسة المالية في الإسلام عامة وجعلناه موضوع حلقتنا الأولى من تقديم الكتاب لأهميته التي تجمع بين التأريخ وتدقيق المصطلحات. وبحث في القسمين الثاني والثالث النظام الجبائي في بلاد المغرب في علاقته بالتطور السياسي والاقتصادي وجعلناهما موضوع حلقتنا الثانية والأخيرة.
1 ـ النظام الجبائي في الإسلام
يشير الباحث في مستهلّ أثره إلى خلط الفقهاء والمؤرخين المتقدمين بين مصطلحات الخراج والجزية والغنائم والفيء والعشر. ويردّ ذلك لعدم اكتمال هذا النّظام المالي. فقد امتدّ تأسيس جهازه النظري من أواخر خلافة عمر الدولة إلى مراحل متقدمة من تاريخ الدولة العباسية.
فالجباية، في مرحلة بناء الدولة وتثبيت الدعوة ونريد عهد الرسول وعهد أبي بكر من بعده، كانت تختزل في الزكاة الواجبة على المسلمين. وكانت قد ظهرت أول أمرها، في شكل صدقة توزع على فقراء المسلمين بينما كان المقاتلون يحصلون على الغنائم فيوزعونها بينهم بالتساوي ثم خُمست بعد غزوة بدر. ولكن مع اتساع الدولة وكثرة الغنائم وتنوع الموارد في عهد عمر بدأ النظام المالي الإسلامي يتبلور شيئا فشيئا. فأنشأ عمر الدواوين كديوان الجند وديوان الخراج وضُبط مفهوم بيت المال. ثم ظل هذا النظام يتطور في شكل إصلاحات تُدخل عليه دون أن تحصل فيه قطيعة جوهرية مع سابقه.
2 ـ النظام الجبائي والأرض
اعتمد الفاتحون على الأرض المغنومة مصدرا أساسيا للجباية أكثر ممّا اعتبروها وسيلة للإنتاج. وكانوا يلحقونها بأملاك الدولة الإسلامية ويبقونها، غالبا، عند ملاكها الأصليين ليفلحوها بأنفسهم مقابل جبايات ومكوس منها الزكاة. وهي الضريبة الشرعية الوحيدة الواجبة على المسلمين من بين كافة الجبايات، والركن الخامس من أركان الإسلام.
كانت أول أمرها حركة تضامنية بين الأنصار والمهاجرين الفقراء في الغالب، وكانت امتدادا لممارسة وجدت منذ الجاهلية. ثم تحولت إلى أداء على الثروات ضبط بالنص القرآني في الآية 103 سورة التوبة "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم". فكانت تؤخذ في المدينة ثم تم تعميمها على سائر الجزيرة العربية بعد الفتح. ولم تلق دائما القبول الحسن. فامتنعت قبيلة تميم عن آدائها في حياة الرسول وكانت سببا في حروب الردة بعد وفاته، لما قالت القبائل "نقيم الصلاة ولا نؤدي الزكاة" وعد أبو بكر ذلك خروجا عن الدين بتقويض أحد أركانه.
اعتمد الفاتحون على الأرض المغنومة مصدرا أساسيا للجباية أكثر ممّا اعتبروها وسيلة للإنتاج. وكانوا يلحقونها بأملاك الدولة الإسلامية ويبقونها، غالبا، عند ملاكها الأصليين ليفلحوها بأنفسهم مقابل جبايات ومكوس منها الزكاة.
ومن جهة الاصطلاح تسمى الجباية على الأموال الباطنة وعلى الماشية زكاة. أما الآداء على منتج الأرض فيصطلح عليه بالعشر. فقد حث القرآن على دفع الصدقة على منتج الأرض نحو ما ورد في الآية 267 من سورة البقرة: "أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض" وحددت الزكاة عليها بالعشر من ثمارها. ثم صُنفت الأراضي إلى عشرية وخراجية. وبعد ساد الارتباك في تعيين دلالة الخراج وخلط مع دلالة الجزية استقر الأمر على الدلالة التالية "ما وضع على رقاب الأرض من حقوق عنها" أو "حق معلوم على مساحة معلومة" ولا يشمل الخراج إلا الأراضي التي افتتحت صلحا ولم تغنم بعد حرب. أمّا الأراضي التي تغنم فتخمس، ونفصّل معنى التخميس لاحقا، ثم تقسم وتعشّر. ولكن الفقهاء اجتهدوا في ضبط التعامل معها على غير هذه الصيغة. فلم تكن تقسم أحيانا على المسلمين، كما حدث مع أرض السواد بالعراق. فتعتبر وقفا للمسلمين. وتترك لدى مالكيها الأصليين ليستغلوها مقابل مقدار سنوي، فُلحت تلك الأرض أو تُركت بورا أو مقابل نصيب من ريعها عند جمع محصولها.
ويعود هذا الإجراء إلى أسباب موضوعية. فما كان العرب وقتئذ يهتمون بالنشاط الزراعي لقلة خبرتهم به ولانشغالهم بالقتال. والخلفاء أنفسهم كانوا ينصحون بذلك. فقد قال عمر للمقاتلين أثناء فتح الأهواز مثلا "لا طاقة لكم بعمارة الأرض فخلوا ما في أيديكم من السبي واجعلوا عليهم الخراج". وفي منتصف القرن الرابع للهجرة وضعت أغلب تلك الأراضي تحت تصرف الجيش العباسي لتغطية نفقاته ضمن ما عرف بالإقطاع العسكري. وكان الإقطاع قبل ذلك إقطاع تمليك ثم أضيف إليه، بعد توقف الفتوحات وازدياد الحاجة إلى الموارد، إقطاع الاستغلال.
واصطلح على تقاسم أموال الخراج والغنائم بالعطاء. ولتنظيمه أنشأ عمر الدواوين كديوان الجند وديوان الخراج، وقد كان متأثرا بالتنظيم الإداري الفارسي والبيزنطي. ولم يكن العطاء يقسّم بالتساوي، فحظ المهاجرين لم يكن كحظ الأنصار، وحظ العرب لم كحظ الموالي، وحظ الفارس كان يعادل ثلاثة أضعاف حظ الراجل. وعامة كان هذا النظام يشجع على اعتماد الخيول في الحرب. فعفا الرسول عن زكاة الخيل. ومقارنة بالمعركة التي استعمل فيها المسلمون فرسين، وصل عدد خيول عمر 4 آلاف فرس حسب صاحب كتاب الخراج. وتم استيراد الخيول من آسيا الوسطى والشرق الأقصى. وعلى ظهورها تمت الفتوحات في مشارق الأرض ومغاربها.
3 ـ النظام الجبائي والجند
مثلت الحرب نشاطا اقتصاديا مهما للمقاتلين وكانت موارده الغنائمَ والفيءَ والجزيةَ. فالغنائم ما أخذ قهرا. وقد شرح القرآن طريقة اقتسامها بعد اختلاف المسلمين حول غنائم معركة بدر. فقدر أن يكون نصيب المقاتلين أربعة أخماس فيما يذهب الخمس الباقي إلى الرسول. وذهب من بعده إلى الخلفاء. أما الفيء فيمثل ما أخذ دون قتال. ويرجع مباشرة إلى الرسول أو الخليفة وإلى بيت مال المسلمين بعد تأسيسها، ويصرف على النفقات العامة.
اصطلح على تقاسم أموال الخراج والغنائم بالعطاء. ولتنظيمه أنشأ عمر الدواوين كديوان الجند وديوان الخراج، وقد كان متأثرا بالتنظيم الإداري الفارسي والبيزنطي.
ويشار إلى الأموال التي يتحصّل عليها الرسول لنفسه أو التي آثر بها الخلفاء أنفسهم من بعده بالصفايا. إذن فرضت هذه الجبايات على الأرض فيما فرضت الجزية على الرقاب. فكان المنتصرون يفرضونها على المهزومين للحماية. ومن ثمة جاءت تسميتهم بأهل الذمة. ولم تظهر إلاّ في آخر عهد النبوة، لما قويت شوكة الدولة الإسلامية وأضحى بإمكانها فرض قانونها على خصومها. واختُلف في مقدارها. ولم تكن تدفع بالصيغة نفسها دائما. فالموسر يدفع أكثر من غير الموسر والفقير يدفع أقل منهما. ويشير الباحث إلى أنّ التمييز بين الفيء والغنيمة والجزية والخراج كان متأخرا في الزمن.
4 ـ النظام الجبائي والشريعة الإسلامية
كان التنظيم المالي في فجر الدولة الإسلامية بسيطا لسببين، لبساطة موارد الدولة ولبساطة هياكلها الوليدة. ولكن مع اتساع رقعة البلاد نتيجة للفتوحات تنوعت هذه الموارد وبرزت الحاجة إلى تركيز هياكل تنظمها. وفي عهد الدولة العباسية تراجعت الغنائم وتناقصت أموال الجزية بسبب تحول سكان البلدان المفتوحة إلى الإسلام. ووجد الاقتصاد في تطوير الفلاحة والتجارة بديلا. وفُرضت جبايات جديدة، أثارت الاحتجاج وعُدت غير مشروعة. فظهرت الحاجة إلى عمل تشريعي تولاه الفقهاء. فاعتمدوا النصّ القرآني والسنة لتقنين الجزية والزكاة واستندوا إلى الاجتهاد، مثل فرضهم للخراج، حين يفتقدون للحجة في النصّ. وأصبحت موارد الجباية موضوعا يختلف الفقهاء في شأنه. ولكن اتفقوا عامة في بعضها واعتبروها شرعية.
أما العشور، وهي مكوس تضرب على أصحاب التجارة بحساب 1/40 للمسلمين و1/20 لأهل الذمة و1/10 لأهل الحرب، وهي أيضا غير الأعشار التي مجالها الزكاة، فاعتبرت ضريبة غير شرعية. وذكرت أحاديث مشكوك في صحتها، لتأكيد منعها. وأثارت الأحقاد لعدم عدالتها. ونتيجة لحاجة الدولة إلى تسديد نفقات البناء الداخلي والقيام بأعباء الجيش ظهرت مكوس أخرى تسمى بالضرائب المستحدثة رغم أنّ أصولها تعود إلى العصر الجاهلي. فقدأعفى الرسول سوق المدينة منها. ولكنها عاودت الظهور في هذه المرحلة وفرضت على بعض المهن.
وفي العهد الأموي شملت الضرائب هدايا النيروز وأجور ضاربي النقود وإذابة الفضة... ومنها المستغلات وهي ضريبة فرضت على الأسواق، يبدو أنها كانت مجال تنافس بين الخواص والخليفة. فينقل الباحث عن البلاذري: "ذكر أبو الخطاب الأزدي أنه كانت لرجل من ولد أبي معيط بعكة أرجاء ومستغلات، فأراده هشام بن عبد الملك على أن يبيعه إياها فأبى المعيطي ذلك عليه. فنقل هشام الصناعة إلى صور واتخذ بصور فندقا ومستغلا". ولم تكن هذه المكوس مستقرة ولا ثابتة، كانت تقتضيها الحاجة ثم يتم تشريعها أو التخلي عنها يحسب إكراهات السياسية والاقتصاد.
5 ـ بيت المال:
كان الرسول يوزّع الغنائم مباشرة على المقاتلين بعد جمعها. ثم اقتضت التحولات وكثرة الموارد والنزاع بين المقاتلين حول نصيبهم منها، من جهة، والحاجة إلى تأمين الثروات للأجيال اللاحقة وتأمين استمرار الدولة الوليدة إنشاء بيت مال للمسلمين. ومع إنشائه تم الفصل، على مستوى الوعي وعلى مستوى الإجراء، بين الملك الخاص والملك العمومي. وكانت الثروات تتمثل في الأسرى والسبايا والأراضي والأموال والدواب والمواد الغذائية. وكانت تنفق على الأعمال الحربية والأعمال الاجتماعية. فخصّص عمر بعض الأموال لنفقات الأبناء اللقط وأجرى الوليد بن عبد الملك الأرزاق على أصحاب العاهات والمساكين.
ومن هذه الثروات كانت الأعمال الكبرى تُموّل، مثل تنظيم الري وإصلاح الطرقات، في العهد العباسي خاصّة، وحفر الأنهار واستصلاح مياهها كالإنفاق على آبار الرملة أو نهر دجلة. فقد كتب يزيد ابن الوليد إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عند أمره بحفر دجلة: "إن بلغت نفقة هذا النهر خراج العراق.. فانفقه عليه". ومنها كانت تدفع رواتب الموظفين من ولاة وقضاة وشهود وفقهاء وقراء ومحتسبين وأصحاب البريد. وكانت هذه النفقات بسيطة في البداية. فأبو بكر كان يتقاضى ثلاثة دراهم يوميا. وبعد فترة أصبح مال الخراج يذهب مباشرة إلى بيت مال المسلمين أما في الأمصار فترسل الأموال بعد اقتطاع النفقات. وفي هذا الإجراء شيء من الاستقلال الذاتي.
لهذا التنظيم الجبائي دلالته المباشرة. ومدارها على تطور بناء هياكل الدولة، وهي دلالة مهمة بكل تأكيد. ولكن أهميتها المضاعفة حينما تتحول إلى علامة تدل على جوانب من الحياة الاقتصادية والسياسة والاجتماعية أهملها التاريخ الرسمي ولم يتح النظر إليها من زاوية مختلفة. ولعل أن يتعلّق أولها بالمعايير التي كانت تعتمد في توزيع هذه الأموال. فافتقادها أحيانا للشفافية كان مصدرا للتوترات ومحاولات الخروج عن الدولة. فسواد العراق التي ذكرناها باعتبارها أرضا مشتركة بين المسلمين مثلت الشرارة الأولى للفتنة الكبرى لما قال سعيد بن العاص والي الكوفة "السواد بستان قريش" فأثار غضب القراء. وتوسع الغضب ليتحول إلى ثورة على خلافة عثمان. ويتعلق ثانيها بموارد الدولة التي كانت ترتبط ارتباطا مباشرا بالغنائم والفيء. فلم تكن تعمل على إنتاج الثروات.
ولكن هذا النموذج سيظل يتكرّر حتى أيامنا هذه. فالمشرق يعيش على عائدات النفط والمغرب يعيش على عائدات السياحة، كما يذكر محمد عابد الجابري في تشخيص أزمة العقل العربي السياسي. وسيمثل هذا النظام الجبائي زاوية ينظر من خلالها الباحث إلى جوانب من تاريخ المغرب وهو ما يمثل موضوع ورقتنا المقبلة.
عبد الناصر وثورة يوليو في ميزان التاريخ.. شهادة إعلامي (2من2)
الأنا والآخر ومقومات العلاقات الإنسانية من منظور قرآني
الوجود الإسلامي في الأندلس.. استعمار أم ثورة حضارية؟