قضايا وآراء

مصر وسد النهضة.. هل فات القطار؟

1300x600
منذ توقيع اتفاقية مبادئ سد النهضة، لا تخطئ عين المراقب للمشهد المصري ملاحظة تراخٍ (مشوبٍ بالتخبط) في قرارات الإدارة المصرية تجاه مشروع سد النهضة؛ قاد البلاد إلى مأزق تاريخي يكاد يصفر خيارات مصر أو يحصرها بين مسارين: تفاوضي وعسكري (كلاهما مأزق)، والأول لم تعد تملك فيه مصر أوراقا للضغط لحفظ حقوقها التاريخية، والثاني يخضع لحسابات وتفاعلات دولية وإقليمية وداخلية، تجعله خيارا باهتا وضعيفا طالما لم يكن هناك حسم للإرادة السياسية.

من البديهيات السياسية أن تعمل الدول لمصلحتها، وتحسم قراراتها من هذا المنطلق، لكن الإدارة السياسية في مصر لم تحسم قرارها بخصوص سد النهضة، وفي الوقت نفسه لم تُصغ إلى تقارير الجهات السيادية المصرية التي حذرت من توقيع اتفاق المبادئ، ولم تلتفت للاعتبارات والثوابت الاستراتيجية المحسومة تاريخيا (التي لم تكن الرئاسات السابقة لمصر تتجاوزها) بصدد مياه النيل، وهونت من مخاطر توقيع اتفاقية المبادئ وبنودها الفضفاضة؛ فغيبت حقوق مصر التاريخية بجرة قلم، وأعطت إثيوبيا -كما يقولون- الجمل بما حمل.

تغيير المعادلات القائمة

من المعروف أن علاقات الدول باتت تربط بما يعرف بـ"المتغير المائي"، وحوض نهر النيل يخضع في علاقات دوله لهذا المتغير، ومن ثم يتعين النظر إلى علاقات مصر وإثيوبيا ودول حوض نهر النيل في إطار ما يسمى "الهيدروبوليتك".

بناء سد النهضة كان واضحا أنه يحمل أهدافا سياسية (لا ندري كيف غابت عن صانع القرار السياسي في مصر؟!)؛ تتمثل في استغلال الورقة المائية، وخلق حالة من الهيمنة "الهيدروبوليتيكية" والسيطرة الإثيوبية. وهذا أمر جلي وواضح من التصريحات الإثيوبية تاريخيا وحاليا، ومن شروع إثيوبيا في بناء المزيد من السدود على نهر النيل.

نهر النيل شريان حياة مصر وشعبها عبر التاريخ، وقضية حياة أو موت للدولة المصرية. وسد النهضة لا يعني لإثيوبيا الماء،كما هو حال السد العالي بالنسبة لمصر، التي كانت قبله تتقلب بين الجفاف والفيضان بحسب مواسم الأمطار على هضبة الحبشة.

إثيوبيا بلد يسقط عليه سنويا قرابة 800 مليار متر مكعب من المياه، يصل إلى دولتي المصب (مصر والسودان) 10 في المئة فقط منها. فسد النهضة يمثل لإثيوبيا مشروعا لتوليد الطاقة الكهربائية وبيعها للدول الأخرى.

من جانب آخر، سيصبح سد النهضة مفتاح إثيوبيا للتحكم في حجم تدفقات المياه إلى مصر والسودان؛ ما يعني تغير كثير من المعادلات القائمة. فمن الناحية الجيوبوليتيكية (معروف أن الدولة الأقوى بين الدول التي يمر نهر عبر أراضيها، تسعى دوما للسيطرة على باقي أقاليم الدول الأخرى بغرض التحكم في النهر)، كانت مصر على مدار الحقب الماضية تعمل على التمتع بنفوذ قوي لدى دول النهر، وسد النهضة بوضعه الحالي وسعته الضخمة يمثل انقلابا في موازين القوى السياسية في المنطقة وأفريقيا؛ ما يجعل إثيوبيا متحكمة في مفاتيح  القرار السياسي لدول شرق أفريقيا ومصر.

مكاسب ومخاطر

هناك تصاعد بين الاستراتيجية الإثيوبية والمصرية؛ فإثيوبيا تتبع استراتيجية بناء السدود، ومصر استراتيجيتها الحفاظ على حصتها من المياه.

وبمتابعة مسار مفاوضات سد النهضة، نجد أن المنحنى التفاوضي يؤشر إلى أن أديس بابا هدفها الوصول إلى ما يسمى "التصفير المائي"، وخلق واقع استراتيجي في إطار الهيمنة المائية؛ يعجز معه المفاوض المصري عن إيجاد حلول توافقية في إطار مساحات مشتركة تنمويا وسياسيا.

لقد استطاعت إثيوبيا تحقيق مكاسب في غفلة ورضا من صانع القرار المصري، وحصلت على كل ما ترجوه وقننته بتوقيع اتفاقية المبادئ في 23 آذار/ مارس 2015 التي لم تتطرق إلى حصة مصر التاريخية، ولكن تضمنت فقط مراعاة مصالح الدول الثلاث وعدم الإضرار بها.

إن الحقيقة المؤكدة أن هناك مخاطر لسد النهضة على مصر، وإذا تجاوزنا بناء السد بمواصفات عدائية، وأنه أصبح واقعا؛ فإن الخطر القائم الآن يتعلق بعملية ملء السد وتحديدا الوقت المخصص لعملية الملء، وتلك نقطة خلاف بين مصر وإثيوبيا؛ فمصر حاجتها أن تتم التعبئة بوتيرة بطيئة تجنب البلاد حدوث نقص كبير في إمدادات المياه، بينما تبغي إثيوبيا سرعة الملء لتسريع عملية توليد الطاقة وتريد ذلك في مدى زمني يبلغ ثلاث سنوات، بينما تطلب القاهرة سبع سنوات.

وبغض النظر عن سنوات الملء، فإن هناك مشاكل أيضا في عملية التشغيل ستؤثر على الزراعة المصرية في الشتاء في تشرين الأول/ أكتوبر؛ لأن المياه ستأتي مقطعة على ستة أشهر وليس على شهرين، في فترة تعافي الفيضان والوارد من المياه، وهذا لن يكفي إلا ثلث المساحة المزورعة في مصر.

في دراسة نشرتها "الجمعية الجيولوجية الأمريكية" في أيار/ مايو 2017، توقعت أن مصر ستعاني من نقص 25 في المئة من حصة المياه السنوية في حالة الملء  في مدى زمني من خمس إلى سبع سنوات؛ وهذا سيمثل خطرا كبيرا على دلتا مصر. كما أشارت العديد من التقارير إلى أن عملية الملء خلال ثلاث سنوات ستدمر نحو 51 في المئة من أراضي مصر الزراعية، وتقل هذه النسبة إلى 17 في المئة في حالة الملء خلال ست سنوات.

تخوفات وسيناريوهات

بعد ست سنوات من اتفاقية مبادئ السد، وماراثون مفاوضات؛ من الواضح أن إثيوبيا ترى أنها غير مجبرة على تقديم تنازلات، لذلك استمرت في بناء السد واستخدمت سياسة تمديد الوقت. كما لم تُجد معها الوساطات حتى الآن، مما دفع الجانب المصري مؤخرا إلى اللجوء لمجلس الأمن، وقد حذر رأس الدولة بأنه "لن يتم تشغيل السد بفرض الأمر الواقع".

إن أزمة سد النهضة (الذي أصبح واقعا بمرور الوقت)، تبين الآن أن كثيرا من المحطات في قطار الخيارات قد فاتت الدولة المصرية، وإن صانع القرار يتحمل مسؤولية ذلك، فقد باتت يد المفاوض المصري خالية من أوراق الضغط في ظل ظروف محلية وإقليمية بالغة الصعوبة، وفي قضية مصيرية وجودية كانت تتطلب يقظة أكثر من صانع القرار منذ اللحظة الأولى.

لقد باتت مصر في أزمة سد النهضة حبيسة سيناريوهين أو خيارين، كلاهما مر؛ الأول هو الاستمرار في التفاوض؛ وهو ورقة إثيوبيا الرابحة التي حولت بها السد إلى أمر واقع دون التفات للعروض المصرية، في ظل خلو يد المفاوض المصري من أوراق ضغط، كما أنه ليس في قدرة الإدارة المصرية الحالية تقديم رؤية استراتيجية سياسية واقتصادية قابلة للتطبيق للربط التنموي بين البلدين، ناهيك عن أنه لن تتجاوب إثيوبيا.

وأما الخيار الثاني؛ فهو خيار صعب لكنه ليس مستحيلا ويحتاج الإرادة الحاسمة، وهذا الخيار هو العمل العسكري الذي يواجه تحديات ترتبط بواقع داخلي وتفاعلات وتحالفات إقليمية ودولية لكل من مصر وإثيوبيا؛ اللتين يجمعهما حلفاء استراتيجيون مشتركون يمكنهم كبح الجماح، وكذلك لن يميلوا لمصلحة مصر على حساب إثيوبيا؛ لأن العلاقات الدولية لا تقوم على العشم، بل تقوم على المصالح الصرفة، وهناك من مصالحه تقتضي أن تعيش مصر تبعات هذه الأزمة، ومنهم من دفع إثيوبيا لبناء السدود لأن ذلك يخدم فكرة تطويق مصر وتطويعها عبر ورقة المياه، والاحتلال الصهيوني ليس من ذلك ببعيد.

الخلاصة:

إن الخطوة المصرية الأخيرة بإحالة ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن هي إدراك متأخر في الوقت الضائع أن الأمن المائي المصري مهدد بالسياسات الأحادية لإثيوبيا تجاه نهر النيل، التي شجعتها عليها اتفاقية المبادئ واعتقادي أنها لن تجدي.

إن التلويح بالقوة واستخدامها وإن كان مذموما في مجال العدوان؛ إلا أنه أمر لازم في مجال الدفاع عن حقوق ثابتة ومصائر ووجود.

بعد فشل المفاوضات طوال السنين السابقة؛ فإن أي مفاوضات لن تقدم حلا لحفظ الحقوق المصرية التاريخية ما لم تكن مدعومة بقوة تجبر وتملي، ولئن فات قطار حفظ الحقوق في محطات سابقة، فإنه ليس مستبعدا ولا مستحيلا إدراكه في محطة العمل العسكري الذي لن يكون مواجهة مباشرة، حيث لا حدود مشتركة بين مصر وإثيوبيا، ولكن هناك من الأعمال النوعية ما يمكن أن يسوق نحو الحل.

إن معركة مياه نهر النيل ليست معركة أرض أو حدود، ولكنها معركة مصير وبقاء ووجود، وهذا ما يجب على الجميع إدراكه، وإلا فات مصر القطار.