(1)
أنا في الأصل جشع ومتسلط ومغرور وأناني، أحببت امتلاك السلطة والشهرة والمال والنساء..
الأوصاف ليست مجازية أو على سبيل الافتراض، لكنها حقائق عشتها في أوقات متفرقة خلال سنوات عمري، قبل أن أبدأ جهادي الأكبر وأنشغل بتحرير نفسي وتهذيب طموحاتي وسلوكياتي..
قبل أن أعبر على هذه النقطة، أُذَكِّركم لأن كل واحد فيكم له نفس الصفات، فهي الخامة الغريزية الأولى للإنسان، لكن الفرد لا ينتهي أبداً كما بدأ، بل يكتسب الكثير والكثير من الإيجابيات والسلبيات التي تصنع هويته ومعتقداته وسلوكياته، من تفاعل عناصر وظروف وعوامل كثيرة يمر بها في حياته.
أنا ممن يؤمنون بأن كل شيء مصنوع (وهذا أول الإيمان وأول العقل)، لكن الاختلاف بين الناس يكون في المعرفة وليس في الحقيقة، الاختلاف يكون حول سؤال: من الصانع؟ وهذا السؤال في حد ذاته أكبر دليل على أن كل شيء مصنوع ولم نجده على قارعة الطريق عبثاً.
في هذا المقال أتجاوز أسئلة صناعة الجبال والأنهار والفيروسات ومختلف السلع، إلى صناعة الإنسان ذاته..
* الإنسان مصنوع؟
- نعم بالتأكيد.
* من يصنعه؟
- انزل بتفكيرك من قدسية الصانع الأعظم (حيث لا خلاف على ذلك أيا كانت تسميته له) وحدثني عما تحت ذلك: عن الأب والأم.. عن النطفة والبويضة.. عن الماء الدافق.. عن الأسرار البيولوجية العجيبة. وتذكر جيداً أن هذا المخلوق في تلك المرحلة ليس الإنسان، بل مجرد جنين بلا ملامح إنسانية فاصلة، مجرد مشروع مستقبلي قد ينتج إنسانا وقد ينتج وحشاَ، فالإنسان يبدأ بعد ذلك.. يبدأ عندما يكون قادرا على "الأُنس"، أو قادراً على "النسيان" حسب النظرية التي تفضلها في تعريف أصل كلمة "إنسان".
ولحظة الميلاد هي اللحظة التي تدق فيها ساعة الصفر لتبدأ مهمة حصولك أو عدم حصولك على إنسانيتك، وهذه المهمة تمتد إلى آخر لحظة في العمر، بمعنى أن كل واحد فينا يظل طول عمره "إنسانا في مرحلة التصنيع"..
(2)
هل مقال اليوم مجرد موعظة أخلاقية باردة؟ أو محاضرة من محاضرات التنمية البشرية؟
- لا أنوي ذلك، لكنني لا أمانع في أي طريقة تناسبكم لتلقي الكلمات، فكما اتفقنا كل قارئ يعبر عن ثقافته هو في القراءة والتلقي، وما كلماتي وكلمات غيري إلا تحفيز لاكتشاف ما بداخلك. ويهمني اليوم أن أبلغك أن كل شيء فيك مصنوع، حتى ما تتوهم أنه اختيارك الحر، كل شيء فيك تصنعه التربية والمناخ وظروف النشأة والجينات الموروثة والمدرسة والجيران والتلفزيون وحجم التحديات والأمراض والأعباء، وعوامل أخرى كثيرة أنت آخر وأضعف عامل فيها..
هذه المؤثرات الخارجية تظل لها الكلمة الحاسمة حتى تبدأ جهادك الأكبر، وتسعى لإعلاء إرادتك في صنع نفسك، والتحكم في الغرائز والموروثات والظروف المحيطة والمتحكمة في تصنيعك.
(3)
أريد أن أقول لك من خلال هذا المدخل الطويل: لا ينبغي لك أن تحاكم شخصاً (مصنوعاً مثلك) على ما صنعه الآخرون فيه، حاكمه (إذا استطعت الفصل) على ما يسهم به هو في صناعة نفسه، بمعنى لا تحاكم أحدا غيرك على لون جلده، ولا ملامحه التي لم يخترها، ولا موروثاته، ولا قدراته الصحية ولا الجنسية..
آآآه...
انت بتقول الجنسية؟!!!..
كده فهمنا أن المدخل مجرد استدراج لفتح النقاش في كلام قليل الأدب..
(4)
للأسف مضطر أقف هنا شوية، ضروي أعطلكم وأرجع بكم لملل المداخل التمهيدية والشرح الطويل، فقد كتبت في الفقرة السابقة كلاما كثيرا في السياسة والإعلام والتربية والجينيولوجي، لماذا إذاً يتوقف أحدهم عند كلمة واحدة ليبدأ منها الجدال أو العراك؟
لعل بعضكم يذكر أنني كتبت كثيرا أن "الرؤية هي الشخص".. رؤيتك هي أنت. وهناك نكتة
مصرية عن كهربائي اسمه "شحاتة" يشعر بالغيرة من زميله "جابر" الأنجح منه في العمل، وذات يوم قال له زميل ثالث: جابر الكهربائي فاسد، يغش في العمل، ينافق المدير ويقدم له رشوة كي...
قاطعه شحاتة قائلاً: ما تقولش كهربائي، ده لا كهربائي ولا بيفهم في الكهرباء!!
لقد أسقط شحاتة كل التهم والمساوئ في العبارات التي سمعها عن جابر، ولم يهتم إلا بالموضوع الذي يشغله ويسيطر على بؤرة شعوره بسبب المنافسة بينهما في أعمال الكهرباء.
في علم النفس يسمون هذا السلوك "اختبار رورشاخ" أو "اختبار بقعة الحبر"، حيث توضع نقطة حبر على ورقة ويتم طيها فتتخذ البقعة أشكالا عشوائية، يتم عرضها على المشاركين وسؤالهم عن رؤيتهم، فيتحدث كل شخص بما يكشف عن أفكاره ودوافعه ورغباته. فبرغم أن الصورة واحدة، إلا أن المشاركين يختلفون في وصفها حسب ما يستقر بداخلهم. فالصورة واحدة وثابتة لكن تفسيراتها لا تعبر عن حقيقتها، بل تفصح عن دواخل الواصفين والمتكلمين، لذلك دخل هذا الاختبار مجال التحليل النفسي للتعرف على المشاكل المترسبة في العقول والنفوس.
(5)
يكتب أحدهم: الرئيس الشهيد محمد
مرسي (رحمة الله عليه)
تعرض للقمع خارج القانون، وحرمته سلطة الانقلاب من ضمانات المحاكمة عادلة، ومنعت عنه العلاج، وحرمته من زيارة الأهل والمحامين المنصوص عليها قانونا، ولم تسمح بتحقيق مستقل عن ظروف وفاته، و...
فيرد أحدهم: ازاي ما تقولش أول رئيس مدني منتخب؟
ويقول آخر: عرفت منين إنه شهيد وفي أي حرب؟!
ويعلق غيره: الله يحرق البرادعي أبو تويتر.
ويقول آخر: انقلاب إيه يا حيوان؟ دي أعظم ثورة.
ويرد ثالث: عبد الناصر الله يلعنه السبب.
ويضيف آخر بطريقة شحاتة: ما تقولش رئيس، ده لا رئيس ولا يفهم في المرأسة!!
كأن الكلام عن القمع والتنكيل وغياب الضمانات القانونية مجرد زوائد لغوية لا تعني شيئا لمن يرد ويناقش ويتفاعل!
(6)
المثال الخاص بالدكتور مرسي يأتي بحكم الحس الصحفي والانشغال الموسمي الذي تربينا عليه باستعادة الأفكار حسب المناسبات، لذلك نشط التفاعل والتعليق حول الدكتور مرسي بمناسبة ذكرى رحيله، لكن القضية لا يجب حصرها في مثال، القضية تخص الاجتزاء المخل في حياتنا كلها. ولعل أحدكم توقف عند تريند طريف لعالم دين جزائري يروي في فيديو منشور أن أحدهم سأل رسول الله: أي البلاد أحب إليك يا رسول الله؟
فقال: الجزائر.
فأعاد عليه السؤال ثلاثاً: ماذا يا رسول الله؟
فقال: الجزائر.
لكن ظهر أن الفيديو مقتطع من سياقه، لأن عالم الدين كان ينقل رؤية لشخص آخر شاهد فيها هذا الموقف في منامه، وبالطبع هذا قصة آخرى تختلف عن المعنى الذي ذهب إليه الناس الذين شاهدوا الفيديو بعد الاجتزاء.
ومن هذا المثال يبدو أن التغافل المتعمد عن السياق جريمة تضليل خبيثة، والاجتزاء المتعمد تحريف احتيالي رخيص ومدان، ولا نعفي المتغافل والمجتزئ بحسن نية؛ لأن واجب التبين فرض عليه حتى لا يصيب فردا أو مجتمعا بجهالة.
لكننا للأسف نفضل التغافل والاجتزاء إذا كان مناسبا لغيظ خصومنا، والكيد لمنافسينا، والنيل ممن يختلف معنا. ولعل ضخب الخلاف حول انتحار فتاة مصرية تدعى
سارة حجازي يعبر لنا عن بشاعة الاجتزاء. فقد تعرضت الفتاة للاعتقال والتعذيب البدني والمعنوي عن طريق الصعق بالكهرباء والتحقير والنبذ، كما تعرضت من قبل لضغوط تربوية وتثقيفية ومعيشية، لكن المناصرين قفزوا على السياق لتحويلها إلى "أيقونة مقدسة"، والمنددين قفزوا على السياق لتحويلها إلى "خاطئة مدنسة"..
لم يروا التعذيب ولا الاضطهاد ولا البشاعات التي أدت بها إلى أسوأ مصير، رأوا فقط الشيطانة المثلية الملحدة، وهو الجانب الفردي الذي تتحمله الفتاة، بينما الجانب العام المتعلق بأداء الشرطة وضمانات المحاكمة وسيوط التعذيب في السجون لم يشغل بال المتطهرين البوريتانيين الذين لا يشغلون أنفسهم بأمراض المجتمع وأمراض السلطة؛ إلا إذا مست أحداً منهم، كأنهم قلّدوا الدولة في تبعية صندوق النقد، فخصخصوا
الرحمة ورفعوا الدعم عن الضحايا المخالفين لهم.
(6)
لا أريد أن أكون سخيفا ومتزيداً في أمثلتي، ولا أتغافل عن الفوارق الخاصة بين إنسان وآخر. فالفروق الفردية والأخلاقية محفوظة بالضرورة، لأن كل فرد يصنعها بسلوكه وتصرفاته وتاريخه، لكن في الشأن العام نسعى للمساواة في الحقوق والواجبات، لا فرق بين الرئيس وعامل النظافة. وهذه
المساواة لا تحط من كرامة أحد، خاصة وأن رسولنا الكريم فعلها قبل قرون من نشأة الدساتير في العالم عندما قال عليه الصلاة والسلام: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لـ.....".
هذا لا يعني أن فاطمة رضي الله عنها لصة تسرق، لكن يعني التأكيد على المساواة في تطبيق القاعدة. وكلكم تعلمون أن السلطات في مصر تتعامل بتمييز وعدم مساواة، فقد منعت العلاج عن رئيس مصري سابق وقتلته بالإهمال والتغافل، كما عذبت متهمة في مقتبل العمر، لدرجة قتل روحها وتدمير نفسيتها، بينما أفرجت عن قاتل متعمد ومعترف مثل محسن السكري وأحسنت معاملة محرض على القتل مثل هشام طلعت مصطفى، وأفرجت عنه بالعفو أيضا قبل ذلك.
لكن السلطة ليست وحدها التي ترتكب جريمة الإجحاف والتمييز، فهناك الكثير من ضحايا هذه السلطة يثبتون بكل أسف وأسى أنهم يرتكبون نفس حماقات السلطة وخطاياها في تعاملهم بالتمييز بين إنسان وإنسان، بحسب الاقتراب النفسي أو العقائدي أو السياسي..
(7)
أعرف أن كلامي مثير للجدل، وأن مقاصل الاستقطاب الحاد في المجتمع لا تقبل بمساواة "فتاة خاطئة" بـ"رئيس شهيد"، لكن إذا كان ذلك الرئيس لا يزال في الحكم ولم يحرص على صون كرامة تلك الفتاة المتهمة وحمايتها من التعذيب ومن التحقير ومن التنمر، فإنه لن يكون أفضل من الموجود، لأن
العدل الذي نبتغيه لا يخص أهل ملتنا وأعضاء جماعتنا وفقط.
العدل أن نطبق القواعد الإنسانية المتفق عليها حتى على القاتل المتعمد المحكوم عليه بالإعدام، فلا نحقره، ولا نعذبه قبل إعدامه، ولا نمثل بجثته بعد إعدامه، فهذه خسة همجية لا ينص عليها دين الرحمة، ولم يوافق عليها يوما "نبي الرحمة".
وإذا كان هناك من يتصور أن الإسلام اقتصر في رحمته على المسلمين فهو متغافل ومجتزئ ويقلل من عظمة الدين الحنيف ومن خلق النبي الرحيم، لأن الرحمة في الإسلام هي رحمة للعالمين، وليست رحمة للمسلمين وفقط، فمن يرحم هرة فجزاؤه خير، فما بالنا برحمة إنسان؟ لكننا صرنا في هذا الزمان البليد والبعيد نستكثر الرحمة على الله، ونقصرها في دعائنا على الأحباب والأحزاب، وهذا أول الخراب، لأن الأصل في الدعاء هو التعميم بالخير للجميع وعدم القنوط من رحمة الله التي تسع كل شيء. ولعلكم تعرفون أن الدعاء بالهداية (حتى للكفار) أولى وأحب عند الله ورسوله من النطق باللعنات، لكن الهزيمة العميقة للروح والانقسام إلى فرق وشيع أعمى بصائرنا وأغلظ قلوبنا، وقربنا من ابتغاء اللعنات قبل طلب الهدى، وجعلنا مجتمعا مفعول به، ترك للآخرين فرصة صناعته وصياغته، ولم يسهم كل فرد بنصيبه في تحسين نفسه وصناعة أخلاقه واقترابه من الجوهر الإيجابي في دينه، فاستسلم لرد الفعل، والرغبة في الإقصاء وإزاحة الآخر وتكفيره والانتقام منه والرد على الذم بذم، وعلى الدم بدم، متغافلين عن الخير والحسنى!!
(8)
ختاما، لا تهتموا بأي موعظة في هذه السطور فهي مكررة ونعرفها جميعاً، تعاملوا معها باعتبارها "بقعة حبر" وضعها أمامك عالم النفس السويسري هيرمان رورشاخ ليكشف ما بداخلكم ويتعرف على أزماتكم ودوافعكم ومشاكلكم. وأدعو الله أن يكون الاكتشاف بداية لجهاد أكبر يطوّع النفس الأمارة بالقسوة والسوء، و"إدارة التوحش" مع الخصوم والأعداء، ويدربها على الحكمة والرحمة والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة.
اللهم أعنا على طاعتك وحسن عبادتك، فالحسن في القرآن زينة الأعمال.
رحمنا الله وإياكم أجمعين.
tamahi@hotmail.com