نشرت مجلة
فورين بوليسي مقالا للصحافي مايكل هيرش ناقش فيه كتاب باري غوين، The
Inevitability of Tragedy "حتمية الكارثة" حول التاريخ الفكري لكسينجر وزمنه والذي يقول فيه إنه
يمكنك أن تبغض هنري كسينجر وتعتبره شريرا، ولكن ما لا تستطيع فعله هو أن تهمله وخاصة الآن.
وفي الواقع
ليس الأمر أننا لا نستطيع أن نهمل رجل الدولة الطاعن في السن الذي بلغ من العمر
الآن 97 عاما، ولكن نحن بحاجته أكثر من أي وقت مضى. وللدقة نحن بحاجة إلى أفكار
كيسنجر وحدسه حول كيف يمكن لنا أن نشق طريقنا في أوحال عالمنا.
فمن وجهة نظر
واشنطن لقد عاد العالم إلى "كيسنجريته" مرة أخرى، فحروب أمريكا الصليبية
انتهت، وفي أفضل الأحوال تآكلت أساساتها القديمة. وكانت الولسونية (نسبة إلى
الرئيس وودرو ويلسون) قد حولت الحرب الباردة من حرب احتواء معقولة إلى معركة ضد
أسطورة "الشيوعية المتجانسة"، والتي انتهت بشكل بشع في فيتنام، ثم أفاقت
مرة أخرى بعد انتهاء الحرب الباردة على شكل سياسة ريغان الجديدة لإنهاء أنظمة
"الشر"، والتي انتهت بشكل مأساوي في العراق. ولم يعد أحد يريد أن يكون
له علاقة بتغيير العالم – إلى درجة أن الأمريكان انتخبوا انعزاليا جديدا، هو
دونالد ترامب، للرئاسة كي يعزل البلد عن العالم.
وسرعت أزمة
فيروس كورونا أجندة ترامب وألهمت موجة جديدة من الانعزالية تحت عنوان "أمريكا
أولا"، كما يقول ممثله للتجارة، روبرت لايتايزر، في مقال حديث دعا فيه إلى
عكس سياسة نقل الصناعة لخارج البلاد ردا على "سياسات الصين التجارية
والاقتصادية الجشعة"، والخداع بشأن مصدر جائحة كورونا. لدرجة أن إدارة ترامب
تفكر في العودة إلى محاور القوى من الحقب الماضية حيث تفكر بإنشاء "شبكة
ازدهار اقتصادي" من البلدان ذات التفكير المشابه والتي ستتخلى عن الصين.
ويتابع: "على
مدى القرن الماضي تقريبا شهدنا فضح زيف الملكية والاستبداد والفاشية والشيوعية
والشمولية، كل منها تم اختباره حتى النهاية. والآن نشهد إلى حد ما فشل الديمقراطية
والتي أصبحت في أماكن كثيرة مستقطبة لدرجة الشلل".
ويلفت الانتباه
قائلا إن مكانة أمريكا وقوتها أصبحت في أسوأ حالاتها في الذاكرة الحية وخاصة بعد
دورة ترامب الأولى التي تسببت بالفرقة والاستقطاب والتي توجت حديثا بالشجب العالمي
لمقاربته الوحشية للتعامل مع مظاهرات المحتجين على مقتل رجل أسود خلال اعتقال
الشرطة له في مينيابوليس.
كل هذا
يعيدنا، كما يقول، مباشرة إلى كيسنجر وإلى الواقعي هانز مورغنثاو (الذي كان معلمه)
والإلحاح الجيوسياسي الحاد حاليا.
فمشاعل الفوضى
العالمية وانتشار التنافس بين القوى العظمى تحتاج إلى دبلوماسية حكيمة وعنيدة، ذلك
النوع الذي تخيله مورغنثاو نظريا وأتقنه كيسنجر عمليا. وتبدو هذه هي الرسالة
الرئيسية لكتاب غوين الذي يستحق القراءة، وخاصة في وقت ارتفعت فيه مشاعر رهاب
الصين.
ويقترح غوين
بأن الجواب لمستقبل العلاقات الأمريكية الصينية – والسلام والاستقرار العالميين
الذين يعتمدان على ذلك – قد يكمن في الماضي. فلم تكن صدفة أن اكتسب كيسنجر وفلسفته
شهرتها خلال وقت ضعف أمريكا في سبعينات القرن الماضي خلال حرب فيتنام والاضطرابات
المدنية ووترغيت وكساد السبعينات، عندما كان على الدبلوماسيين إيجاد أرضيات مشتركة
وتوازنات بين القوى الكبرى.
ولأن واشنطن قد تكون في موقف مشابه اليوم فيما يتعلق بالصين، التي كانت أفضل مواضيع كيسنجر وحيث حقق أكثر نجاحاته، تحتاج أمريكا للعودة إلى السياسة الواقعية المجربة التي يمكنها أن تحول التنافس بين القوى العظمى إلى تسويات مؤقتة.
وكما كتب رئيس وزراء أستراليا السابق كيفين راد،
العالم الخبير في الصين في مقال له حول جائحة كورونا في مجلة فورين أفيرز:
"إن الحقيقة غير المريحة هي أنه يتوقع لكل من الصين وأمريكا الخروج من هذه
الأزمة أضعف بمقدار كبير، ستكون القوتان أضعف محليا وخارجيا. والنتيجة
ستكون انجرارا بطيئا ولكنه ثابت نحو الفوضى الدولية".
عالم القرن
الحادي والعشرين الفوضوي هو بالضبط ما وصفه مورغنثاو في نصه الأول للواقعية الحديثة قبل أكثر من 70
عاما في كتاب Politics Among
Nations، وتوقعه للتفكك
الحاصل حاليا بناء على اعتقاده بتطور المجتمع الإنساني عندما قال إن العقلانيين
الذين يأملون الوصول إلى المثالية في الحكم والمجتمع البشري ينكرون "حتمية
الكارثة"، وهو ما جعله غوين موضوع كتابه الرئيسي. وهذا ما عرفه كل رجل دولة
كبير – أن "الخيارات التي تواجهه ليست بين الخير والشر .. ولكن بين السيئ والأقل سوءا"، بحسب ما كتبه غوين.
وهذا يصف جزءا
كبيرا من سيرة كسينجر العملية، بما في ذلك الانفتاح على الصين والهدنة عام 1973 في
الشرق الأوسط، وحتى النهاية الفوضوية والدموية لحرب فيتنام.
وصحيح أن
كسينجر ليس شخصا من السهل تقبل الرأي العام له كما يشير غوين إلى ذلك بشكل مفصل.
فقد أشرف كسينجر وريتشارد نيكسون على حملة وحشية لدفع هانوي إلى طاولة المفاوضات
وألقوا على كمبوديا قنابل أكثر مما ألقى الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية مما
أدى إلى قتل مئات آلاف الأبرياء.
وتلك السياسة
مصحوبة بالسكوت على الإبادة الجماعية في بنغلاديش عام 1971 ودعم الانقلاب في
تشيلي، مما استفز مجموعة من الليبراليين البارزين أمثال سيمور هيرش وكريستوفر
هيتشنز أن يصموا كسينجر بالمصاب بجنون العظمة ومجرم الحرب. وكان هناك دائما
ازدواجية حول معتقداته.
ولكن أفكار
كسينجر ستجد تناغما لأننا في حالة ضعف شبيهة بسبعينات القرن الماضي، عندما كانت
نخبة السياسة الخارجية لا يفكرون بالانتصار بل بالبقاء، كما يجب عليهم أن يكونوا
حاليا، وخاصة أن مشاكل أمريكا الداخلية اليوم مسببة للضعف كما كانت حينها. وربما
كان أكبر أخطاء غوين في الكتاب هو أنه بعد الحديث في مئات الصفحات عن تفاصيل
واقعية كسينجر المسكونة بما فعله هتلر، لا يقوم الكاتب بعكس ذلك على واقعنا اليوم
– ولكن بشكل عابر فقط على الصين، لأنه ليس هناك تبرير أكبر لواقعية كسينجر مما حدث
للصين خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فبعد أن أصبح رائجا في واشنطن
منذ ربع قرن التفكير بأن استيعاب الصين في نظام الأسواق العالمية ما بعد الحرب
الباردة سيدفع البلد نحو التنوير – أو ما أطلق عليه كسينجر مرة "الحلم
الأمريكي القديم بالسلام الذي يتحقق من خلال تحويل الخصم إلى مبادئك" – ولكن
زالت مثل هذه الأوهام. وكل ما نراه اليوم هو قوة عظمى صاعدة تناسب رأي كسينجر عن البلد التي زارها حوالي 100 مرة.
وقال غوين في
كتابه إن ما لم يفهمه المحتفون بالنصر ما بعد الحرب الباردة هو أنه بعد انهيار
الاتحاد السوفييتي واجهنا "عالما بدون أيديولوجيا، لم توفر فيه الوصفات
المتعالية للديمقراطية جوابا لمشاكله".
وفي الواقع
أصبح الأمر أسوأ من ذلك. ويجب علينا بصراحة أن نواجه واقع ما بعد الحداثة حيث لم
تتحقق آمال المثالية للمجتمع والحكم، ولم يعد هناك قضية عظمى للقيام بثورة لأجلها.
وكان يأمل رئيس أمريكا الثالث، توماس جفرسون أن تتدحرج ما أسماها "كرة
الحرية" في أنحاء العالم فانتهت في خندق. ويبرز تقرير Nations in Transit الذي يصدر عن فريدم هاوس "انهيارا صادما للديمقراطية" وخاصة في وسط وشرق أوروبا ووسط آسيا حيث قال
"إن هناك عدد ديمقراطيات أقل اليوم .. من أي وقت" وسيمضي التاريخ
وستستمر دول مثل أفغانستان في الفشل، وستبقى الديمقراطيات والدول الاستبدادية مثل
أمريكا والصين في خلاف مع بعضها ولكن يجب ألا يخدع أحد نفسه بأن صدام إرادات
سيؤدي إلى نتيجة لصالح أي من المبدأين.
وكما أوضح
كسينجر مرة: "كل وضع تقريبا هو وضع خاص". وكتب إن الصعود الجديد للقومية
قد يسعى إلى "تحقيق الهوية القومية من خلال مواجهة أمريكا"، وهذا هو ما
يفعله شي اليوم. وفي الواقع فإن كل القوميين اليوم يتعاملون مع واشنطن كما فعل
السوفييت مرة، حيث يحكمون قبضتهم القومية بلعب ورقة تهديد الأعداء الخارجيين.
وكما يشير
غوين فإن كسينجر أشار في كتابه لعام 2011 عن الصين إلى أنه حتى ماو، الثائر الماركسي
المسؤول عن مقتل ملايين الصينيين لم يكن أيديولوجيا مثل لينين ولكن قوميا يمثل
بلدا لها عزلتها الخاصة – مثل أمريكا – ولكن على عكس أمريكا لم ير النظام الصيني
حاجة لحماسة المبشرين والتبشير في الخارج.
والصين اليوم تشتري النفوذ في كل مكان. ولكن خلق
ما يسمى بمستعمرات الدين في أنحاء العالم يمثل تهديدا أقل بكثير من الغزو المباشر.
والمفتاح يكمن في عدم المبالغة برد الفعل. ويقول غوين إن الخيار واضح للبلدين،
"فبشكل أو بآخر، ومن خلال التطور الفكري والتنازلات الدبلوماسية أو من خلال
سفك الدماء، على البلدين التخلي عن استثنائيتهما لصالح نظام ويستفاليا [يقوم على
القانون الدولي واحترام سيادة الدول] للتنوع الدولي وتوازن أكثر بساطة حتى وإن كان
غير مريح"، وعلى واشنطن وبكين إقناع القوى الرئيسية الأخرى في العالم بقبول
هذا التوازن الجديد.
ويقول غوين إن
كسينجر توقع هذه النتيجة. فقد رأى قبل عقود أن عهد ريغان ونهاية الحرب الباردة لن
تكون بداية للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية على الطريقة الأمريكية كما كان
يأمل المحافظون الجدد والليبراليون الدوليون، ولكن كانت الحالة حالة "غروب
ساطع"، وبينما سلم كسينجر أن الولسونية ستبقى في لب السياسة الخارجية
الأمريكية كتب أنه حتى في الانتصار في الحرب الباردة، على حكام أمريكا أن يفكروا
بتوازن قوى جديد "للمحافظة على التوازن في عدة مناطق في العالم ولا يمكن
اختيار الشركاء دائما بناء على اعتبارات أخلاقية فقط".
اقرأ أيضا: بومبيو يشبه الصين بالنازيين لممارساتها في هونغ كونغ ويحذر
كما أن الصين
بدأت اليوم تتساءل حول مدى إمكانيتها بسط نفوذها في العالم، ووسط كل هذا الشك بالقدرات
الذاتية والاختبار المتبادل للحدود يكمن احتمال إيجاد أرضية مشتركة، وحتى لو انفصل
الاقتصادان من حيث سلاسل الإمداد والاعتماد المتبادل. لأنه دون دبلوماسية ذكية
فهناك احتمال لوقوع أحداث كارثية وربما تؤدي إلى دمار العالم.
إن رهانات حل
القضايا بين واشنطن وبكين صعبة الهضم بالنسبة للأمريكان ولكن مبادئها بسيطة إلى حد
بعيد: على الجانبين الاتفاق على عدم الاتفاق بشأن بعض المعتقدات الأساسية، بحسب
كسينجر.
لن يتخلى الأمريكان عن التزامهم بحقوق الإنسان والحريات الشخصية ولن يتوقف
الصينيون عن تركيزهم على الحفاظ على الاستقرار بين شعبهم الضخم وهو ما يعني عدم
منح اعتبار لحقوق الإنسان والحريات. من ناحية أخلاقية هذا مأزق لا يمكن حله. ومن
ناحية اقتصادية أيضا ولكن هناك فقط التنازل الدبلوماسي.
أو كما اقترح
كسينجر، إيجاد "مفهوم براغماتي للتعايش"، لا يختلف كثيرا عن تفاهمات زمن
الحرب الباردة، عندما كانت أمريكا العالقة في فيتنام والتي تعاني من الكساد ولم
تكن في حالة تسمح لها بالقيام بحروب صليبية أيديولوجية وبدلا من ذلك توافقت مع بكين
في الوقت الذي كانت تتفاوض فيه مع موسكو حول الحد من الأسلحة.
وقضية أخرى
تنبأ بها كل من كسينجر ومورغنثاو هي أنه كلما تحولت الديمقراطية أكثر إلى الشعبوية
كلما أصبحت أقل قدرة على القيام بسياسة خارجية يمكن الاعتماد عليها. وكان مورغنثاو
الذي اختلف مع كسينجر في معارضة الحرب في فيتنام رأى كيف يمكن أن تؤثر الديمقراطية
الشعبوية على الدبلوماسية الاحترافية – وهو أثر واضح جدا في إدارة ترامب وكان قد أثر
أيضا في إدارتي أوباما وبوش.
وأشار كسينجر إلى هذا الموضوع في كتابه Does America
Need a Foreign Policy عام 2001 وفي مقال له في مجلة أتلانتيك عام 2018 يصفه غوين على أنه "الدرس الأخير من الشخص الذي نصب نفسه
معلما للشعب الأمريكي". فرأى كسينجر في نمو العالم السبراني "نموا
للفوضى السياسية، وفي رأيه فإن انتشار الكمبيوتر في العالم شجع نوعا من التفكير غير
المسؤول وكان ذلك ضارا بالحكم المنطقي على أقل تقدير وكارثيا على أسوأ تقدير.
الصين تعتزم فرض تشريع جديد للأمن بهونغ كونغ وترامب يحذّر
ترامب يتهم الصين بالتضليل ويهاجم منافسه بايدن
الصين تصعّد بملف تايوان بعد "استفزازات" أمريكية