منذ هروب المخلوع إلى السعودية في 14 كانون الثاني/ يناير من 2011، لم تعرف تونس طوال ما سُمّي بمرحلة الانتقال الديمقراطي سلما اجتماعيا أو حياة سياسية مستقرة؛ تقطع مع المخاوف المشروعة من"الانقلاب" على ثورة 14-17 التي كانت شرارة الربيع العربي. فهذا "الربيع" سرعان ما تحوّل إلى خريف تتنازعه الانقلابات (في مصر) والحروب الأهلية، كما هو شأن سوريا واليمن وليبيا.
وقد كان للإمارات والسعودية (ومن سيتحالف معهما فيما بعد في "محور الشر") دور أساسي في ضرب الثورات العربية والانحراف بها عن مساراتها الأصلية، أي تحويلها من مشاريع تحرر ودمقرطة إلى مشاريع تقاتل واحتراب أهلي في الحد الأقصى، ومشاريع انقلابية في الحد الأدنى.
ورغم استعصاء الثورة على هذين المسارين، فإن القوى الإقليمية الراعية لما اصطُلح على تسميته بـ"الثورات المضادة" استطاعت أن توهن الانتقال الديمقراطي، وأن تعزز حضور القوى المرتبطة بالمنظومة القديمة وبعض حلفائها الأيديولوجيين، كما عملت على تغذية الخطابات الانقلابية والخطابات الصدامية التي تمنع بناء أي تسويات أو توافقات استراتيجية بين القوى الإسلامية والعلمانية، وهو ما أشاع وما زال يشيع مناخا انقلابيا لا تخطئه عين المراقب.
تونس في عين الإعصار
بحكم التشابه السياسي بين مسارات الثورتين التونسية والمصرية (إسقاط المنظومة الحاكمة والاحتكام للصناديق التي أوصلت الإسلاميين إلى السلطة)، مثّل الانقلاب العسكري المصري بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي، وبتواطؤ مفضوح من أغلب القوى"العلمانية" و"الحداثية"، ذروةَ المطامح/ المخاوف الانقلابية في تونس.
فمن جهة المطامح، كان الانقلاب المصري مناسبة لتقوية الخطابات "الاستئصالية" المنادية بإقصاء حركة النهضة من الحياة السياسية، حتى إن تطلب ذلك ضريبة دم. فهي ضريبة رآها الكثير من "الديمقراطيين" ضريبةً "معقولة" في سبيل حماية "النمط المجتمعي التونسي" من "القوى الظلامية والرجعية". ولا ننسى أنّ الأغلب الأعم من "القوى الديمقراطية" في تونس (بأحزابها وجمعياتها ومثقفيها وإعلامييها) كانت قد ساندت الانقلاب المصري واعتبرته "ثورةً تصحيحيةً".
أما من جهة المخاوف، فقد خشي الكثير من التونسيين الرافضين للانقلاب (حتى من غير الإسلاميين) أن تكون تونس هي المحطة القادمة للموجات الارتدادية للانقلاب المصري. ورغم اختلاف الواقعين المصري والتونسي، خاصةً غياب مؤسسة عسكرية انقلابية في تونس واختلاف أداء الإسلاميين في كلتا الدولتين، مع عدم تحمس العديد من القوى الدولية والإقليمية لدعم انقلاب تونسي بحكم ما يمثله انفلات الأوضاع من مخاطر على جنوب المتوسط، فإن المخاوف من الانقلاب كانت مشروعة.
سياسية التوافق وآثارها المزدوجة
رغم سقوط حكومة الترويكا (بنواتها النهضوية)، استطاع التونسيون برعاية الراعي للحوار أن يتجاوزا الأزمة السياسية التي أعقبت اغتيال الشهيدين محمد براهمي وشكري بلعيد، كما استطاعوا الذهاب إلى انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية. ورغم قيام الحملة الانتخابية لحزب نداء تونس (وهو الواجهة السياسية الأساسية للمنظومة القديمة) على منطق التنافي مع حركة النهضة وعلى استحالة الحكم معها، فإن ما أعقب الانتخابات من سياسة "التوافق" أظهر من ناحية أولى استحالة رغبة مراكز النفوذ المهيمنة على المنظومة القديمة في إيجاد تسويات معينة مع حركة النهضة، وهي تسويات تقوم على علاقة لا متكافئة بين الطرفين، ولكنّ التوافق كان من جهة ثانية سببا في عودة الخطابات الانقلابية الرافضة لأي "تطبيع" مع حركة النهضة، بل الرافضة لوجودها في الحقل السياسي القانوني أصلا. ولكنّ الفارق بين هذه الدعوات الانقلابية وما سبقها هي أنها لم تعد تستهدف منظومة الحكم برمتها كما كان الشأن في عهد الترويكا، بل حصرت خطابها في مكون واحد من مكوناتها ألا وهو النهضة. ولا شك في أن إحياء قضية" التنظيم السري لحركة النهضة" كان جزءا من تلك الإستراتيجية.
عبير موسي أو آخر الانقلابيين
بعد انتخابات 2018، دخل إلى الساحة السياسية فاعل جديد كان سببا في عودة "المسألة الانقلابية" إلى واجهة الاهتمام. ونحن نعني به عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر. فرغم استفادتها (وهي القيادية في الحزب الحاكم زمن المخلوع) من الواقع الديمقراطي الجديد المستوعب حتى لأعدائه، فإنها لم تفوّت فرصة لمهاجمته ولتمجيد النظام القديم، وأساسا لشيطنة حركة النهضة بالعنف اللفظي نفسه الذي ساد قبل الثورة. وهو سلوك سياسي قد يكون مردودا في جزء منه إلى خلفيتها السياسية، ولكنه لا شك يتقاطع موضوعيا مع "محور الشر" ومع سياساته الانقلابية في تونس، بصرف النظر عن جدية الشبهات التي تقول بوجود تنسيق بين عبير موسي وبين غرفة العمليات المشرفة على ضرب الانتقال الديمقراطي في بلادنا وغيرها.
وسواء أكان الوجود السياسي لعبير موسي في ذاته تعبيرا عن النجاح الجزئي للثورات المضادة، أم كان تعبيرا عن المسار الاستثنائي للثورة التونسية في ترسيخ انتقالها الديمقراطي، فإنّ هذه الشخصية السياسية تمثّل عنصرا "لا وظيفيا" في مشروع المواطنة، كما تُمثل عنصر تخريبٍ للمرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي، أي الانتقال الاقتصادي والاجتماعي.
قيس سعيد أو "الثورة" على الدستور
ولأن المشاريع الانقلابية عندنا هي كل المشاريع التي تهدف إلى الوصول للسلطة أو تغيير نظام الحكم بعيدا عن إرادة الناخبين وضد استحقاقات الثورة، فإننا لا نعتبر (على خلاف الكثيرين) مشروع رئيس الجمهورية لتعديل الدستور مشروعا انقلابيا، بل نعتبره جزءا من الأطروحات المتصارعة لإدارة الشأن العام وللخروج من المأزق الواضح الذي تعيشه الحياة السياسية في تونس في ظل النظام البرلماني المعدل، وفي ظل القانون المنظم للانتخابات. وهو ما يجعله مشروعا متمايزا جذريا عن باقي الدعوات الانقلابية الصريحة والضمنية.
فالرئيس لا يعارض استحقاقات الثورة، ولكنه ينتقد أداء النخبة السياسية بمختلف أطيافها وأحزابها، ولا يحصر همه في حركة النهضة كما يفعل الانقلابيون. ولذلك فإن التقاء الرئيس موضوعيا مع بعض مطالب الانقلابيين لا يجعله انقلابيا مثلهم، بل منتهى ما يعنيه أنّ عليه توضيح تمايزه عنهم بصورة لا تقبل اللبس والتأويل، والخروج من المنطقة "الضبابية" في علاقته بـ"محور الشر".
ورغم تصاعد الدعوات الانقلابية (تحت مسمّى "ثورة الجياع")، من الواضح أن سقف تلك الدعوات لن يتجاوز تعكير المناخ السياسي وتحقيق بعض المكاسب الشخصية. ولكنّ استحالة الانقلاب في السياق الحالي يجب أن لا تؤدّيَ إلى استهانة الطبقة السياسية أو الحكومة بالمطالب المشروعة للشعب، فهي مطالب ستزداد حدة وإلحاحا في الفترة المقبلة؛ بحكم الآثار الكارثية لوباء كورونا على الاقتصاد التونسي، خاصة على الفئات الوسطى والفقيرة وعلى المناطق المهمشة في الدواخل.
twitter.com/adel_arabi21
من معارك الشجاعة إلى فنون إدارة الاختلافات
ماذا بعد حلّ المكتب التنفيذي لحركة النهضة التونسية؟
الدولُ يبنيها العقلاء ويخربها السفهاء.. تونس في قلب العاصفة
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية