في أجواء النكبة السادسة، أحيا الفلسطينيون
ذكرى النكبة الأولى، أي احتلال فلسطين وإعلان دولة إسرائيل في 15 أيار/ أيار 1948. النكبة السادسة تتعلق برؤية أو وعد ترامب، واستعداد إسرائيل لتنفيذ ضم فعلي لغور الأردن والمستوطنات في الضفة الغربية، ما يعني ضمّ ثلاثين في المئة منها، وتحديداً ثرواتها وخزاناتها الطبيعية المائية والزراعية والاستراتيجية، وفي السياق القضاء نهائياً على إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967، وفق ما يعرف بحل الدولتين.
اعتقدت دائماً أن نكباتنا وبالتالي النكبة الأولى بدأت مع تفكيك الخلافة العثمانية، كآخر تعبير دولتي مؤسساتي جامع عن وحدة حضارة وثقافة الأمة الإسلامية (حمت القدس وفلسطين لقرون من الغزاة)، من أجل تقسيم العالم العربي نفسه وفق معاهدة سايكس بيكو (1916)، لتسهيل اغتصاب فلسطين وإقامة إسرائيل في القلب منه وفق وعد بفلور1919 الذي جاء في سياق التسلسل الزمني، بعد قرار الغزاة إنهاء وتفكيك الخلافة الجامعة، وتوقيعهم على معاهدة سايكس بيكو. ولكن مع اعتماد ذكرى إعلان دولة إسرائيل كتاريخ للنكبة الأولى، سيتم التعاطي معه ضمن شرح التسلسل التاريخي للنكبات المترابطة التي ألمّت بنا، وصولاً إلى النكبة السادسة أو
وعد ترامب الهادف إلى تصفية القضية بثوابتها الرئيسة الثلاثة: القدس والحدود واللاجئين، وفرض حلّ أحادي توراتي صهيوني على الشعب الفلسطيني.
للتذكير، فقد احتلت إسرائيل في النكبة الأولى 80 في المئة من أرض فلسطين التاريخية (جرى احتلال النسبة المتبقية في النكبة الثالثة)، وقتلت الآلاف عبر عشرات المجازر، وهجرت مئات آلاف الفلسطينيين، ودمّرت مئات القرى والبلدات الفلسطينية الوادعة والمزدهرة.
حصل هذا بعد ثلاثة عقود من الجهاد والثورة بقيادة شعبية فلسطينية وعربية، وبعد وصول سبعة جيوش عربية إلى فلسطين لمواجهة العصابات الصهيونية؛ التي انتصرت بفضل تدريبها وخبراتها القتالية العالية والدعم غير المحدود من الاحتلال البريطاني.
وقعت النكبة الثانية بعد سنوات قليلة، عبر انقلاب تموز/ يوليو 1952 الذي كرّس حكم العسكر في مصر والعالم العربي، وقطع سيرورة النهوض والاستقلال العربية في خطواتها الأولى، وأسّس أنظمة استبدادية عربية قهرت وجوّعت وأذلّت الناس بحجة إزالة آثار النكبة الأولى، وفق القاعدة الاستبدادية الأحادية سيئة الصيت "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
الانقلاب أوصل مستبدين مجرمين قتلة إلى السلطة في حواضرنا وعواصمنا التاريخية الكبرى. ويبدو حتى مصطلح نكبة أقل مما ينبغي، كونه (الانقلاب) أقرب إلى الجائحة التي اجتاحت الوطن العربي، وتركت وراءها أرضا مدمرة ومحروقة في طول الوطن وعرضه.
بعد عشرين عام تقريباً تسببت أنظمة العسكر بالنكبة الثالثة التي أسموها نكسة، كي لا يدفعوا الثمن ويرحلوا كونهم وصلوا إلى السلطة أصلاً بحجة إزالة آثار النكبة الأولى.
في النكبة الثالثة (حزيران/ يونيو 1967) احتلت إسرائيل كامل فلسطين، بما في ذلك قبلتنا الأولى، القدس، وهزمت ثلاثة جيوش عربية في ست ساعات لا ستة أيام. ورغم لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث، إلا أنه جرى القبول بقرار مجلس الأمن رقم 242، ثم مشروع وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز، والقبول ضمنياً، بل صراحة باختصار وتقزيم فلسطين إلى الضفة الغريبة وغزة. وبدل أن يتغيّر القادة الفاشلون غيّروا القضية، وبدل المطالبة بتحرير كل فلسطين قبلوا بخمسها فقط، مع المطالبة باستعادة ما فقدوه هم أنفسهم في النكبة الثالثة (سيناء والجولان). وهنا تحديداً زرعت بذور حلّ الدولتين والاعتراف بإسرائيل، ما مثّل الأساس لكل التسويات والاتفاقات التالية معها، من كامب ديفيد إلى أوسلو مروراً بوادي عربة.
لا أحد لخّص حقبة عشرينية النكبتين الثانية والثالثة مثلما فعل العبقري مصطفى محمود رحمه الله؛ الذي كتب ذات مرة أن قائد انقلاب 1952 جمال عبد الناصر تسلم السلطة كحاكم لمصر والسودان وقطاع غزة، أيضاً سلّمها لمن بعده دون السودان وغزة وسيناء نفسها. وهي قاعدة يمكن تطبيقها ببساطة على فترات حكم الناصريين القذافيين الصغار في سوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر.
وفق التسلل التاريخي المنطقي، ارتبطت النكبة الرابعة مباشرة بالنكبات السابقة التي سبقتها، وتمثلت بغزو الرئيس العراقي صدام حسين للكويت، ثم حرب الخليح الثانية (1990).. صدام وصل وحزبه للسلطة في الأجواء الانقلابية المسعورة للنكبة الثانية (انقلاب 1952)، وما كان لينتصر في أي اختبار ديمقراطي شفاف ونزيه لا حزبياً ولا وطنياً، ولو فعل ما كان ليبقى أكثر من دورة انتخابية واحدة. النكبة الرابعة كسرت وأضعفت العراق وأخرجته من معادلة الصراع مع إسرائيل، وقدمته فيما بعد على طبق من ذهب للغزاة الأمريكان والفرس (2003)، وكانت (النكبة الرابعة) قبل ذلك قد جلبت علينا النكبة الخامسة المتمثلة باتفاق أوسلو 1993.
النكبة الخامسة أنهت عملياً الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأقرّت ليس فقط بحق إسرائيل في الوجود (كما جاء في رسائل الاعتراف المتبادل) ما يتناقض مع الرواية الفلسطينية المحقة والعادلة، إنما أقرت بالاحتلال والمستوطنات في الأراضي المحتلة عام 1967 (مع القبول بفكرة تبادل الأراضي) التي حوّلت المدن إلى معازل عنصرية للاحتلال.
النكبة الخامسة قسّمت الشعب الفلسطيني وكسرت وحدته السياسية والجغرافية، وأسست سلطة استبدادية مثلت استنساخاً أكثر بشاعة وفظاظة لأنظمة الاستبداد الفساد العربية، بعدما كانت منظمة التحرير مجرد استنساخ ناعم ملطف لها، لذلك تماهت هذه السلطة مع منظومات الاستبداد والثورات المضادة ضد الثورات العربية الأصيلة.
نكبة أوسلو أدت كذلك إلى الاقتتال الفلسطيني (حرب أهلية في الحقيقة) والانقسام السياسى الجغرافي المتجذر يوماً بعد يوم، خالقةً البيئة المناسبة أمام النكبة السادسة.
النكبة السادسة تكاد تلخص النكبات الخمس السابقة عليها، حيث استغلت أمريكا ترامب حالة الانهيار العربي، لتمسك العسكر الانقلابيين والفلول بالسلطة كحق لهم وقمع الثورات الأصيلة، والانقسام الفلسطيني وتجليات أوسلو، وانتشار السرطان الاستيطاني وتحول البلدات والمدن الفلسطينية إلى معازل على طريقة جنوب أفريقيا العنصرية. ببساطة هدفت رؤية ترامب لتكريس الوقائع المتلاحقة منذ النكبة الأولى إلى الخامسة.
الردّ يستوجب البحث عن جذور أصل المشكلة، وبالضرورة منع النكبة السادسة، وإزالة آثار النكبات الخمس التي سبقتها.
إسلامياً، تستعيد أسطنبول وعيها ودورها التاريخي تدريجياً، لكن بشكل مستمر فكرة الخلافة لم تعد ملائمة للعصر. طبعاً منظمة التعاون الإسلامي تفي بالغرض بانتظار نهوض إسلامي أكبر وفق النماذج التركية والماليزية والأهم العامل العربي، لإزالة آثار سايكس بيكو عبر جامعة الدول العربية التي تفي الغرض شرط التخلص من آثار جائحة 52، وتأسيس دول مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها، خاصة في حواضرنا الكبرى الثلاث: القاهرة ودمشق وبغداد. وفلسطينياً التخلص من نكبة أوسلو وتبعاتها، وإنهاء الاقسام واستعادة الوحدة وإدارة الصراع مع إسرائيل بذهنية الماراثون، مع اعتماد المقاومة السلمية الواعية والعنيدة طويلة النفس، بعيداً عن ذهنية العسكرة المدمرة، والتخلص من فكرة أن الفلسطينيين قادرين وحدهم على تحرير فلسطين، فالمهمة التي كانت تاريخياً في مواجهة الغزاة من "التتار إلى الصليبيين" هي عربية إسلامية بامتياز.
السيرورة طويلة، وإزالة آثار نكبات تراكمت لعقود طويلة لا تتم خلال سنوات، ولا حتى عقود قليلة، لكن الثورات العربية الأصيلة ستعود حتماً إلى سكتها الطبيعية، وتركيا (ومعها ماليزيا) إلى جانب الشعوب العربية وقضاياها العادلة، والشعب الفلسطيني صامد في الميدان لا يستسلم. الاحتلال الإسرائيلي سيزول حتماً، كما كل التجارب الاستعمارية التاريخية المماثلة.. وعينا جدنا واجتهادنا سيقلص عمره غير المديد بإذن الله.