أثناء زيارتي لكوسوفا عام 2008 أجريت حوارات صحفية مع قيادات قوات "كي فور" التابعة لحلف شمال الأطلسي، والموجودة هناك منذ 1999 وحتى وقت كتابة هذا المقال. سألت هذه القيادات عن موعد انتهاء مهمتها وانسحابها من البلاد، فأجابت بأنها باقية حتى يستكمل الكوسوفيون بناء مؤسساتهم، ولا تعلم تاريخا محددا للانسحاب.
كانت هذه إجابة فيها قدر من المنطق وقتها، لأنه لم يكن قد مضى على إعلان البلاد الاستقلال عن صربيا سوى شهور في ذلك الحين. أما الآن فالسؤال المشروع هو: لماذا لم يستكمل الكوسوفيون بناء المؤسسات للمستوى الذي يستغنون فيه عن قوات الناتو؟
إذا اتجهنا جنوبا، فهذا هذا السؤال المشروع ضروري الآن، وليس لاحقا في ليبيا مع إعلان حلف شمال الأطلسي الناتو استعداده لدعم حكومة الوفاق الليبية الشرعية في مواجهة الجنرال خليفة حفتر. البدء بإجابة هذا السؤال هو الذي سيضيء الطريق لمعرفة نطاق ومستوى التدخل الدولي الذي تحتاجه ليبيا لإقالتها من كبوتها الحالية. فالبلاد الآن بين نارين، هما نار الانقلابيين وأعوانهم من المرتزقة الروس والدول الراعية للاستبداد العربي شرقا، ونار التدخل الغربي غربا، سواء من الناتو أو غيره من القوات الأوروبية التي استنفرت نفسها خلال الفترة الماضية في البحر المتوسط.
البلاد الآن بين نارين، هما نار الانقلابيين وأعوانهم من المرتزقة الروس والدول الراعية للاستبداد العربي شرقا، ونار التدخل الغربي غربا، سواء من الناتو أو غيره من القوات الأوروبية
وفيما يبدو أن هذا الأخير هو أهون الشرور بالنظر للجرائم التي لا تزال ترتكبها مليشيات حفتر وتبشيرها بنظام استبدادي جديد في المنطقة ينطلق من دولة بترولية. إلا أن الحذر واجب في التعامل مع هذا الخيار لعدة اعتبارات: أولها أن تجربة الناتو في أفغانستان مثلا لم تكن إيجابية على المستوى الشعبي، بغض النظر عن السياق الاحتلالي الذي دخلت فيه هذه قوات "إيساف" للبلاد. فقد نظر إليها كثيرون على أنها قوات احتلال أكثر من قوات لتدريب الجيش والشرطة الأفغانية. وكان الانسحاب اضطراريا لها عام 2014.
وثانيا أن تجربة الناتو في كوسوفو ليست ناجحة على المستوى الاستراتيجي، رغم عدم المعارضة الشعبية لوجود هذه القوات بالنظر للسجل الإجرامي للصرب وخوف الكوسوفيون المتزايد من هذا الجار المستعد لارتكاب مزيد من الجرائم. فإن كان الناتو قد حفظ البلاد من الاعتداءات الصربية، فإنه كذلك لم يساهم بفاعليه في تكوين مؤسسات أمنية ودفاعية قوية، وجعل البلاد قاعدة عسكرية غربية أكثر من كونها دولة مستقلة. وكان يمكن أن يتمركز على الحدود فقط، من دون هذا الانتشار الواسع في البلاد.
التدخل الشامل للناتو في ليبيا على غرار أفغانستان أو كوسوفا سيكون خيارا سيئا، وسينشئ بيئة استقطابية محلية للعنف، وسيعيق استقلال ليبيا الحقيقي. وبدلا من ذلك فهناك عدة خيارات، مثل التدخل الجوي مثلما حدث من الناتو عام 2011 ضد قوات القذافي، أو انتشار محدود للقوات التركية باعتبارها جزءا من الناتو، وهي قوات دولة إسلامية لن يخلق وجودها حساسيات كتلك التي قد تنشأ بسبب وجود قوات متعددة الجنسيات.
التدخل الشامل للناتو في ليبيا على غرار أفغانستان أو كوسوفا سيكون خيارا سيئا، وسينشئ بيئة استقطابية محلية للعنف، وسيعيق استقلال ليبيا الحقيقي
والأهم من هذا كله هو تحديد المدى الزمني لهذا الوجود أو هذه العمليات سلفا. فالوجود غير محدد المدة سيغري كثير من الدول لاعتبار هذه القوات
مسمار جحا في دولة نفطية مهمة، وذات موقع استراتيجي في البحر المتوسط وأفريقيا والشرق الأوسط. وليس مضمونا بقاء السياسة التركية الحالية على وضعها باعتبارها لا تتناقض في المجمل مع الأمن القومي العربي وتطلعات الشعوب للحرية والديمقراطية. فقد تتغير هذه السياسة لتغير الحكومة أو الرئيس أو كلاهما، وساعتها لن يمكن التحلل من الالتزامات الدفاعية بحجة هذه التغييرات، فضلا عن عنصر مهم، وهو أن الناتو كمؤسسة لا يزال يبحث عن هوية جديدة منذ تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين، وبالتالي فوجوده العسكري خارج أوروبا دائما ما يكون عرضة للتجربة والخطأ.
twitter.com/hanybeshr