"ومع أنه كان يرتدي بدلة، إلا أنك كنت تستطيع أن تدرك للتوِّ أنه لم يَعتَد ارتداءَها، فقد كان يخطر فيها وكأنه لا يزال يخطر في الجبة والقفطان، ويمدُّ يدَه وكأنها ما زالت طليقة في الكمِّ الواسع الهفهاف.
وكنت تستطيع أن تُقسم أن نار المكوى لم تلسع بدلته منذ أن وُجدت، وكذلك لا تقدر أن تخمِّن متى وُجدت، ومع ذلك فالمحافظة على الملابس كانت في دم عبد النبي أفندي؛ ولهذا كان يضع منديله النص نص الأبيض بين رقبته وبين ياقة سترته حتى يمنع عنها العرق الذي ينضحه قفاه الأسمر، وكذلك كان يفعل في طربوشه، والغريب بعد هذا أن ياقة السترة، وحافة الطربوش كانتا دائمًا من أمتع الأمكنة التي يحلو للعَرق والتراب البقاءُ فيها واستعمارها".
في هذه الفقرة من قصة (الحادث) ضمن المجموعة القصصية الأولى ليوسف إدريس (أرخص ليالي)، تتّضح عِدّة خصائص أسلوبيّة تَسِمُ سَردَه القصصِيّ.
أوّلها عنايتُه الإعجازيّة بتفاصيل المشهد الذي يَصِفُه. وكُلّما اقتربَت هذه التفاصيلُ من شحمِ ولَحم أبطالِه كلّما ازدادَت عنايتُه بها.
هنا يُولِي ملابسَ بطلِ قصّتِه (عبد النبي أفندي) عنايةً خاصّةً، وهي عنايةٌ نستطيعُ أن نراها موصولةً بتقاليدِ الوصفِ السّردِيِّ عند أساتذة القَصِّ في العالَم مثل (دِكِنز) و(بَلزاك).
وهي عنايةٌ غايَتُها الكَشفُ عن دواخِل هذه الشخصيّات وسِماتِها النفسيّة العميقة. نعرفُ تاريخيًّا أنّ كاتبَنا حاولَ احترافَ الطِّبّ النفسيِّ فترةً وجيزةً بعد تخرُّجِه في (قصر العيني)، إلاّ إنّه من باب الرّجم بالغَيبِ أن نقولَ إنه كان سيُصبِح طبيبًا نفسيًّا عظيمًا لو أنّه ثابَرَ واستمرَّ، فالتخصُّصُ أعقَد من ذلك بكثير، والأقرَبُ أن نقولَ إنَّ هذا الولَعَ بالوصفِ الخارجيِّ بُغيَةَ الوصولِ إلى سمات الشخصيّةِ من لوازمِ الفِراسَة.
وفي تقديري أنّ (يوسف إدريس) بهذا الصَّدَدِ كان واحدًا من أَحَدِّ كُتّاب السَّرد العربيِّ الحديثِ فِراسَةً على الإطلاق.
هنا بالتحديدِ نستطيعُ أن نتهيّأ لافتراضِ أنّ البطلَ يتزَيّا بزِيٍّ استثنائيٍّ في رفقةِ زوجتِه خلالَ رحلتِهما إلى القاهرة، منتظِرًا أن يَشعُر بشكلٍ من الإشباع النفسيِّ وهو لا يبدو أقَلَّ مِن أهلِ العاصمةِ تَمَدُّنًا، خاصّةً لعَينَي زوجتِه.
كما نستطيعُ أن نحزِرَ أنّه رجُلٌ مُخلِصٌ لعاداتِه منتَظِمٌ عليها مؤمنٌ بأهمّيتِها ولو أثبَتَ الواقِعُ بُطلانَها، وأنّه بعد ذلك بسيطٌ ينطوي على قَدرٍ لا بأس به من السذاجَة.
وثاني ما يتّضِحُ من الخصائص الأسلوبيّة هنا مكانةُ الأشياء غير العاقِلَةِ والجَماداتِ في سَرد (إدريس). في الجُملة الأخيرةِ يبدو أنّ للعَرَق والتُّرابِ إرادةً خاصَّةً تدفعُهما لاستعمار ياقة السترة وحافة الطربوش.
لكنّنا لا نشُكُّ لحظةً في أنّ هذه الإرادةَ عارِيةٌ أعارَها (إدريس) للعرَق والتُّراب، لا صِفةٌ أصيلةٌ فيهما، وأنّ غايةَ هذه الإعارةِ السُّخريَةُ مِن إرادةِ بطل القصّة وبيانُ قِلّة حِيلَته وضعف تدابيرِه أمامَ طبائع الأشياء المتآمِرَةِ عليه.
إذَن، فهَمُّ كاتبِنا هنا هو إحالتُنا إلى الشخصية الإنسانية المركزيةِ بشكلٍ لا مُوارَبَةَ فيه. ولعلَّ هذا يُبعِدُه عن كافكا مثَلاً في قصّةِ (هُموم رَبِّ الأُسرَة Die Sorge des Hausvaters) التي يتحدثُ فيها كافكا بلِسانِ رَبِّ أُسرَةٍ في سردٍ تقريريٍّ جافٍّ عن شيءٍ غير محدّدِ الهُوِيَّةِ - قد يَكونُ كُرَةً من بقايا الخُيُوط - يسكنُ معه بيتَه، ويرصُدُ الحياةَ الخاصَّةَ بهذا الشيءِ ويتأمّلُ مصيرَه، ويُطلِقُ عليه اسمًا لا يعني شيئًا هو (أُدْرادِكْ Odradek) يتساءلُ عمّا قد يعنيه في بداية القصّة! والخلاصةُ أنّ الأشياء عند كافكا تتحوّل أحيانًا إلى المحور الحَيّ الذي تدور حولَه القصّة، وتستدعي بذلك تأويلاتٍ سيكولوجيّةً ودينيّةً وفلسفيّةً لا تكادُ تنتهي، أمّا لدى كاتبِنا فهذه الهموم الوجوديّة العميقةُ لا حُضورَ لها، ولا قِيمةَ إلاّ لحكاية الإنسان الواقعيّةِ الصِّرفَةِ بما يعتملُ فيها من عناصر المأساةِ والمَلهاة.
وهناك ثالثًا سِمَةٌ لغويّةٌ لا تخطئها العَين، وهي الاحتفاءُ بالعامّيّة. فبينما تكاد تتنصّل قصص كثيرٍ مِن رُوّاد القصّة المصريين السابقين على (يوسف إدريس) من العامّيّة حتى في الحِوار، نجدُ كاتبَنا يَعمَدُ إلى تعبيراتٍ موغِلَةٍ في المصريّة ويُفَصِّحُها أحيانًا أو يستعملُها كما هي في مَتن سَردِه، كما في قوله "منديلَه النُّصّ نُصّ الأبيَض". لقد كان حريصًا على أن يُبرِزَ الوحدات اللُّغويّةَ حالَ نحتِها من طِينِ القريةِ في دلتا النِّيلِ أو تُرابِ الحارةِ القاهِريّة.
ولعلَّه بذلك كان خيرَ مِثالٍ على مقولةِ (سارتر) عن الفارق بين تعامُل الشُّعراءِ والسارِدِين مع اللُّغَة، فبينما يَخدُم الشُّعراءُ اللُّغَةَ ويقدسونَها ويُعيدُون الحياةَ إلى ما فارَقَ الحَياةَ مِن مفرداتِها وتعبيراتِها أو يَرفُدُونها بتعبيراتٍ وليدةٍ، نَجِدُ السّارِدِين "يستخدِمُون" اللغةَ، لا يَخدُمونها، فكأنَّ المسافةَ بينَ اللُّغَةِ والفِكرِ تكادُ تتلاشَى في الشِّعر، بينما في السَّردِ تزدادُ ويتّضِحُ أنّ ثَمَّةَ فارقًا بين اللغة (ما هو مرسومٌ على الورقة أو مقروءٌ باللسان أو العَين) والفِكرِ مِن حيثُ هو مدلولاتٌ كامنةٌ في وعي الكاتبِ لا سبيلَ إلى اكتناهِها إلاّ بما يظهر من الدّوالّ اللُّغَوِيّة.
ربّما لهذا الحرص على (استخدام) اللغةِ ادَّخَرَ المهتمّون بإطلاق الألقابِ على مشاهير الأدباءِ لقبَ (شاعر القصّة القصيرة) لـ(يحيى الطاهر عبد الله)، وهو مِن جِيلٍ لاحِقٍ على كاتبِنا.
فرغم ألقاب (عملاق القصة القصيرة) و(القامة الأعلى بين كُتّاب القصّة)، يبدو أنّ لقبَ الشاعر لم يخطر ببالِهم وهم يتعرّضُون ليوسف إدريس. إلاّ أنّ التعامُل الكلاسيكيّ مع اللغة موجودٌ كذلك عند كاتبِنا، فهاهو في قصّة (على أسيوط) يقول:
"وعَبَر الطبيب على الوجه الصدئ الذي أمامه، والذي كله شعرات وفجوات وغضون، عبر في سرعة وفي ملل، فالمترددون على المستشفى كلهم ملبدو الوجوه بغيوم الحاجة والمرض، ولكن الطبيب توقف قليلًا، متفرجًا، عند ملاءة السرير القديمة التي اسودَّ لونُها الأصفر الباهت، وامتلأت بالبُقع والخروق، والتي عمَّم الرجل بها رأسَه، وتدلَّى طرفُها بجانب وجهه كذيل ملطَّخ بالوحل لكلبٍ عجوز. ورمق الطبيب في قليلٍ جدًّا من الدهشة رجلَه الملفوفة في عددٍ كثيرٍ من الخِرَق والأشرطة والجوارب القديمة من مختلف الألوان والأحجام، وقد كست رِجلَه من قمة أظافرها إلى مفرق فخذيه، فضخَّمت الرِّجل وكبَّرتها، حتى أصبحت كصَبِيٍّ مُستَقِلٍّ صغيرٍ يرتكزُ عليه الرَّجُلُ في ناحيةٍ، ويستندُ في الناحيةِ الأخرى إلى فرعِ شجرةٍ غليظٍ مُلتَوٍ غَيرِ مُشَذَّب."
هنا نجد كثرةً من الصُّوَر التي اصطلحَ نُقّاد الأدب على اعتبارِها (شاعِرِيّةً)، وهي مدسوسةٌ هنا وهناك في متن السّرد الإدريسيِّ وإن لم تُمَثِّل أخَصَّ ما فيه.
وفي رأيي أنّ هذا الاحتفاءَ بالعامّيّة لا يمثّل فقط سِمَةً أسلوبيّةً مميزةً لكاتبِنا، وإنما هو تَجَلٍّ مهِمٌّ من تجلّياتِ رُوحِه المنتصِرَةِ للهامشِ على حساب المَتن، وربّما لهذا أصَرَّ على إثبات الياء التي حَقُّها الحذفُ تبعًا لقواعدِ الإملاء في نهاية كلمة (ليالي) في عنوانِ مجموعتِه. هو تمرُّدٌ على السُّلطة اللغويّة ربّما يعكسُ ضيقَ كاتبِنا بكلِّ أنواع السُّلطة.
لقد كان (إدريس) شديد الإخلاص لشخصيّاتِه، لا يُقحِمُ عليها أوصافًا تنتمي إلى قاموسِه النُّخبَوِيِّ ككاتِبٍ مثقَّف، وإنما يأتي بأوصافِها من عُمق بيئتِها. ففي (أرخص ليالي) التي تدور في عمق قريةٍ في دلتا النِّيلِ يقول عن بطلِه في أول جُملةٍ: "بعد صلاةِ العِشاءِ كانت خراطيمُ من الشتائمِ تتدفّقُ بغزارةٍ من فم عبد الكريم"، ولا يَخفَى أنّ اختيارَ التوقيتِ يُحيلُنا إلى صورةٍ ضمنيَّةٍ لرّيّ الأرض في ريفِ مصر.
كذلك يقول لاحِقًا: "وهذه اللحظةَ لم تكن في عينيه قمحةٌ واحدةٌ من النَّوم، بل كان مُخُّه أروَقَ من ماء الطُّرُمبة." فهذه المفردات التي عجنَ بها صُوَرَه مفرداتٌ زراعيّةٌ تمامًا، تتناسَبُ وجوَّ القصّة ووِجهةَ نظر البطلِ والطريقةَ التي نتصوّرُه يُعبِّرُ عن نفسِه بها.
أمّا إذا عُدنا إلى الفقرة التي اقتبسناها من قصة (على أسيوط)، فإنَّ نخبويّة الصورة في " مُلَبَّدُو الوُجُوهِ بغُيومِ الحاجَةِ والمَرَض" لا تمثّل خيانةً لهذا المبدأ الضِّمنيِّ الذي أخذَ به نفسَه، فإنّ الفقرةَ كُلَّها مكتوبةٌ من وجهةِ نظرِ الطبيب.
اقرأ أيضا : "جنتلمان في موسكو": قدرة الرواية على تضمين رؤاها
وعَودًا إلى مسألة اللُّغة، نجدُ أمثلةً تستعصي على الحصر مبثوثةً في هذه المجموعة وما تلاها من أعمالٍ، لتعبيراتٍ عامّيّةٍ مصريةٍ فَصَّحَها كاتبُنا وأدخَلَها إلى ديوان العربيّة الفُصحى، ولعلَّ في هذا اعترافًا بالعاميّة ابنةً شرعيةً للفُصحى العربية، وتقريبًا بين المعياريّة وانحرافات المَحكيّات، وتوسيعًا في الوقت ذاتِه لديوان الفصحى، وهو جهدٌ أرى من الغَمط ألاّ نُسَمِّيَه جهدًا شاعريّا.
وبما أننا أشَرنا إلى انحياز كاتبِنا إلى الهامش، فإنّ استعراضَ القصص الإحدى والعشرين التي احتوَتها هذه المجموعةُ يُطلِعُنا على الهُموم المجتمعيّة التي أرَّقَت نفسَ (يوسف إدريس) الرقيقةَ ودفعَتها إلى اجتراحِ هذا العملِ الرصديِّ التأريخيِّ لواقع المصريين في نهاية أربعينيات ومطلع خمسينيات القرن الماضي.
لدينا مثلاً ثالوثُ الفقر والجهل والمرَض، وهو هَمٌّ متكررٌ صارخٌ في قصص (أرخص ليالي – على أسيوط – شُغلانة – المرجيحة)، وهناك الفقرُ الذي يدفع إلى عمالة الأطفال في (نظرة)، وذُلُّ المحكومين وتسلُّط الحاكمين في (الهَجّانة)، والجُوع وما يَضطَرُّنا إليه في (الرِّهان)، وسَفَهُ الأثرياء في (1/4 حِصَّة)، واختلافات أساليب التربية بين أوساط المصريين والأجانب في (الحادِث)، فضلاً عن الهَمِّ الوطنيِّ الزاعِق في قصة (5 ساعات) التي تصِفُ العلاقةَ بين الراوي الطبيب وضابط جيشٍ جريحٍ في الساعات الخمس الأخيرة من حياة ذلك الأخير.
لكنّ خيطًا ألطفَ وأَدَقَّ في قَصَصِ هذه المجموعة يتجاوبُ وعنوانَها ويُشيرُ من طرفٍ خفيٍّ إلى أننا لسنا أمامَ مجموعةٍ حُشِرَت بها القِصَصُ كيفما اتَّفَقَ، وإنما أمامَ (ديوانٍ) قصصيٍّ تتخلَّلُه وَحدةٌ موضوعيّةٌ كتلك التي يُقدٍّسُها الشُّعراء، وهي في رأيي وحدةٌ لم يتعمّدها كاتبُنا بشكلٍ واعٍ تمامًا وإنما هي نِتاجُ انحيازاتِه الاجتماعيّة وأفكارِه الثوريّةِ ونفسِه الرقيقةِ التي تهتزُّ للضعفِ الإنسانيّ.
في القصة التي تحمل عنوانَ المجموعةِ تتداعى على ذِهن (عبد الكريم) لذّاتٌ مختلفةٌ من المآكِل والمشاربِ يكتشفُ أنه لا يستطيعُ إليها سبيلاً لضِيقِ ذاتِ يَدِه، ويُسلِمُهُ هذا الاكتشافُ إلى التمتُّع بـ(أرخصِ ليلةٍ) ممكنةٍ إذ يعودُ إلى بيتِه ويتخطّى رِقابَ أولادِه الستة النائمين ليُوقِظَ امرأتَه ويغيبا في المتعة الحِسِّيَة الوحيدةِ المُتاحةِ لهما، ويُنتِجا ولدًا سابعًا يُديرُهما في حلقةٍ مُفرَغَةٍ من الفقر.
في (نظرة) تُلقي الخادمةُ الطِّفلةُ نظرةً أخيرةً على الأطفالِ اللاعبين في الشارع بينما تحملُ صينيّةَ مخدومتِها المتسلِّطة، قبل أن تُضطَرَّ لمتابعة طريق عودتِها إلى بيت تلك المخدومة، فهي تؤثِرُ بالحكمةِ السابقةِ لأوانِها التي اكتسبَتها من عِراكِ الحياةِ – وربّما بقُصورِها الذاتيِّ - أن تتابِعَ ما تستطيعُه وتضربَ صفحًا عمّا لا تملِكُ ثمنَه من رفاهيةِ الأطفال. في (الشهادة) يرصُدُ فرحةَ المدرِّس الإلزاميِّ بنجاحِ تلميذه السابق والتحاقِه بكلّيّة الطِّبّ، إذ يعتبرُ هذا النجاحَ شهادةَ تقديرٍ لمجهوداتِه، طالما ضُنَّ عليه بها، وقد نالَها أخيرًا في صدفةٍ غاليةٍ رخيصةٍ حين التقى تلميذَه في المترو.
في (على أسيوط) يصرخ المريضُ من ألَمِ ساقِه لكنّه يؤثِرُ في النهايةِ وقد أضناه تعقُّد إجراءات المنظومة الصحّيّة في القاهرةِ أن يعودَ إلى بلده أسيوط ويتحمّل ابتلاءَه بها. في (أبو سيّد) نشهَدُ الكمساريَّ يُحرَمُ تلك المتعة الحلالَ الرخيصةَ التي نالها عبدُ الكريم في (أرخص ليالي)، وبعد محاولاتٍ دءوبةٍ فاشلةٍ يَقنَعُ بحلٍّ أرخصَ، وهو أن يتمنّى لابنِه (سيِّد) أن يكون رجُلاً لأربع نساءٍ جميلات! في (عَ الماشي) التي تصوِّرُ بطلاً متحقِّقًا اجتماعيًّا، وهو مُحامٍ مرموقٌ ضاقَ بتطفُّل الناس عليه واستشاراتِهم التي لا تنقطِعُ حتى في الحافِلَة، نجِدُ هذا المحامي بعفويَّةٍ شديدةٍ في النهايةِ يتطفّلُ هو الآخَر على طبيبٍ يجلسُ إلى جِوارِه في الحافِلَةِ ليعرفَ منه دواءً لمتاعب القولون، فهو في النهاية يَركَنُ إلى نفس الضعفِ الإنسانيِّ الذي يُغرِي الجميعَ بالحَلِّ الأرخَص! ولنا أن نرى مِثل ذلك في بقيّةِ قِصص المجموعة دُونَ أن نتَّهِمَ أنفُسَنا بالتَّزَيُّد أو المبالغة في القراءة.
الخلاصةُ أننا بالفعل أمامَ ديوان. وهو ديوانٌ ثَرِيٌّ بما يصوِّرُه من صُنوفِ العَوَزِ والضعفِ الإنسانيّ. جانَبَ فيه كاتبُنا بلاغةَ السابِقِين المتأنِّقَةَ وعَجَنَ مادَّتَه بطِينِ الحياةِ بينَ القاهرةِ وريفِ مصر الفقير، ليُخرِجَ لنا شِعرًا لا كالشِّعر، بليغًا بلاغَةً جديدةً في بُقعته المصريّة، بلاغةً اجترحَها هو وتركَها وَقفًا نَرِدُه متى شئنا.
لقد كانت قِصَّةُ يوسف إدريس ومازالت كنزًا إنسانيًّا فريدًا، لنا أن نبحثَ فيه كُلَّ حِينٍ لنستخرِجَ ما غابَ عنّا في زِحام الحياةِ السريعةِ من أعماقِ إنسانيّتِنا، عَلَّنا نَجلُو بما نقرأُه بصائرَنا المُغبَرَّة.
قراءة في رواية "كتاب الأمان" لياسر عبد الحافظ
"هيا لنشتر شاعرًا".. الأديب في دور البطل المخلّص
الاستثمار الثقافي الرقمي: ثقافات عالمية دون تأشيرة