ينقل
ابن كثير عن الحافظ الكبير أبي بكر البيهقي نسب
ابن حنبل، فيقول هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبدلله ابن حيان بن عبدلله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي ابن جدلية بن أسد ابن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.. حتى يصل إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
وقال ابن الأثير:
ليس في العرب أعز دارا، ولا أمنع
جارا، ولا أكثر خلقًا من شيبان.
وكان في قبيلة شيبان الكثير من القادة والعلماء والأدباء والشعراء، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل.
أخذ الإمام أحمد بن حنبل العلم عن كثير من العلماء، منهم: هشيم، سفيان بن عيينة، إبراهيم بن سعد، جرير بن عبد الحميد، يحيى القطان، الوليد بن مسلم، إسماعيل بن علية، علي بن هاشم بن البريد، معتمر بن سليمان، عمر بن محمد ابن أخت الثوري، يحيى بن سليم الطائفي، غندر، بشر بن المفضل، وزياد البكائي، أبو بكر بن عياش، أبو خالد الأحمر، عباد بن عباد المهلبي، عباد بن العوام، عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عمر بن عبيد الطنافسي، المطلب بن زياد، يحيى بن أبي زائدة، القاضي أبو يوسف، وكيع، ابن نمير، عبد الرحمن بن مهدي، يزيد بن هارون، وعبد الرزاق، الشافعي.
ومن تلامذته: البخاري، مسلم، أبو داود، وابناه صالح وعبد الله، أبو بكر المروزي الفقيه، أبو زرعة الدمشقي، أبو بكر الأثرم، إبراهيم الحربي، يحيى بن معين.
ألف العديد من الكتب، أهمها: المسند، وهو أكبر دواوين السنة المطهرة، إذ يحوي أربعين ألفا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتقاها الإمام أحمد من بين سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكتاب الأشربة، وكتاب الزهد، وكتاب فضائل الصحابة، وكتاب المسائل، وكتاب الصلاة وما يلزم فيها، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب العلل، وكتاب السنن في الفقه.
اهتم ابن حنبل بالكتاب والسنة كثيرا، فما كان يلجأ إلى القياس إلا عند الضرورة وشرط أن يكون القياس واضحا مبينا، فكان لا يفتي في مسألة إلا إن وجد لها من أفتى بها من قبل، صحابيا كان أو تابعيا أو إماما.
وذكر عبد الحكيم الرميلي في كتابه تغيير الفتوى بتغيير الاجتهاد، أن أحمد بن حنبل لم يؤلف كتبا تجمع كل أبواب الفقه، لأنه كان يكره وضع الكتب التى تشتمل على التفريع والرأى، وما ذلك إلا ليزرع فى القلوب التمسك بالسنة والأثر.
المحنة
فتنة خلق القرآن أو محنة الفقهاء استمرت نحو الثلاثين سنة، ابتدأها الخليفة العباسي المأمون باعتناقه مذهب الاعتزال ثم حمله الناس على الاعتقاد بما ذهب إليه
المعتزلة في كون القرآن مخلوق.
وطلب الخليفة المأمون من ولاته امتحان العلماء والقضاة، وسار على نهجه كل من الخليفتين المعتصم والواثق، فقتل وجلد وعذب فقهاء وعلماء من أهل الحديث، اشتهر منهم الإمام أحمد بن حنبل و أحمد بن نصر الخزاعي المجايل لابن حنبل، فقد قتله الخليفة الواثق بيده بتهمة عدم القول بخلق القرآن، وصلب وعلق بجثته رقعة مكتوب فيها إدانته الطويلة التي بدأت بعبارة: هذا رأس المشرك الضال.
باختصار، جندت الدولة العباسية كل إمكانياتها الفكرية والمادية لمحاربة من يخالفون رأيها في هذه المسألة، لقد أريد تطويع المجتمع والفقهاء.
رفض ابن حنبل القول بخلق القرآن وبعدم خلق القرآن، فاكتفى بالقول إن القرآن كلام الله فقط، وأضاف من قال بخلقه فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع.
كان موقف ابن حنبل يستند إلى عدة اعتبارات:
الأول، أنه ليس من حق السلطة فرض مذهبا عقائديا بعينه على الناس.
الثاني، لا يجوز فرض آراء كلامية في غاية التعقيد على العامة.
الثالث، أن مسألة خلق القرآن أو عدم خلقه، ليست ذات أهمية كبيرة في العقيدة، ولذلك لم يتحدث النبي في شأنها ولا الصحابة.
عاش أحمد بن حنبل في عصر المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل، وكان بعيدا عن الفلسفة وعن الاعتزال.
في سنة 218 هـ / 833م أرسل المأمون كتابا إلى والي بغداد اسحاق ابن ابراهيم يأمره بجمع العلماء وإقناعهم بأن القرآن مخلوق وأمره أن يقطع رزق وجراية كل من لم يقتنع بهذا.
رفض علماء الدين الامتثال لمطالب المأمون، فما كان من الأخير إلا إرساله رسالة ثانية لواليه في بغداد بحبس كل من لم يمتثل.
ويذكر الطبري أن بعض العلماء أجابوا الخليفة في طلبه بأن القرآن مخلوق، إلا أربعة: أحمد بن حنبل، سجادة، القواريري، محمد بن نوح المضروب، فأمر والي بغداد إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما كان الغد دعا بهم يساقون بالحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلي سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلي سبيله، وأصر بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما، فشدا في الحديد.
وفي الطريق إلى السجن في طرسوس، بلغهم وفاة المأمون وهم في الرقة، فأعيد وأودع السجن ريثما تستقر الأمور.
ولما استقرت الأمور لـ المعتصم، جيء بابن حنبل وهو في القيود إلى قصر المعتصم حيث ينتظره عدد من المعتزلة، منهم ابن أبي ذؤاد.
جرت المناظرة على النحو التالي:
وجـه ابن أبـي ذؤاد سـؤالا لابن حنبـــل، ما
تقول في خلق القرآن؟ فـأجـاب أقـــول إنه
كــــلام الله، فـرد ابن أبـي ذؤاد، أقـــديم أم
حادث؟ فأجاب ابن حنبل، ما تقول في علم
الله؟ فسكت ابن أبي ذؤاد.
ثــم تابــع ابن حنبل بالقــول إن القــرآن من
علـم الله ومن قــال إن علم الله حــادث فقد
كفر.
عـرض المعتصم علــى بـن حبنـل الـرجــوع
عما يقول مغريا اياه بالمــال والعطايا ولكـن
بن حنبل قــال له أرنــي شيئا من كتاب الله
اعتمد عليه.
استمرت المناظرة العلنية ثلاثة أيام، وكانوا في شهر رمضان، وابن حنبل ثابت لا يتزعزع، حتى كان اليوم الرابع، فما كان من المعتصم إلا أن أمر بجلد ابن حنبل، لكن الأخير ظل على موقفه.
بعد وفاة المعتصم، تولى الخلافة الواثق الذي سار على نهج المعتصم والمأمون، وجرت في عهده محاولة للثورة عليه علم بها الإمام أحمد بن حنبل دون أن يشارك فيها، ولما فضح أمر الثورة، ألقي القبض على البعض وهرب البعض الآخر، أما ابن حنبل فبقي مكانه، لكنه تلقى رسالة من الواثق عن طريق واليه في بغداد، يقول فيها:
إن أمير المؤمنين قـد ذكرك، فلا يجتمعن
إليك أحد، ولا تـساكني بأرض، ولا مدينة
أنا فيها.
في كتابه المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، يرى محمد عابد الجابري، أن الخلاف بين أحمد بن حنبل ومن وراءه رجال الحديث من جهة والسلطة السياسية الممثلة في الخليفة المأمون وخلفاؤه من بعد من جهة أخرى، هو خلاف سياسي بامتياز.
ويستند الجابري في موقفه إلى الحالة الاجتماعية السياسية التي كانت سائدة آنذاك، حيث الفوضى متفشية وأعمال الشغب والسرقة منتشرة في بغداد أثناء اقتتال الأخوين الأمين والمأمون.
ويعتبر أن المسألة لم تكن مسألة قناعات فكرية دينية أراد المأمون ثم المعتصم فرضها، ولا قضية التحريض التي فرضها المعتزلة على الخليفة، بل هي قضية الدولة ككل، أي قضية أمن الدولة.
وقد سبق الجابري في هذا الرأي تقريبا أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام، وفهمي جدعان في كتابه المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام.
بكل الأحوال، أدى الصراع الفكري الحاد بين المعتزلة وابن حنبل، إلى نشوء تيار مضاد للمعتزلة، بدأ مع الخليفة المتوكل والخليفة القادر، ممن نهوا عن الكلام في مذهب الاعتزال، في وقت لقي فيه ابن حنبل تأييدا كبيرا من عامة المسلمين بسبب المحنة التي تعرض لها.