أخبار ثقافية

"جنتلمان في موسكو": قدرة الرواية على تضمين رؤاها

جنتلمان في موسكو رواية

يستعين الأدب في بثّه مواقفَ ورؤى من القضايا والسياقات التي يتناولها بطرقٍ ووسائلَ مختلفةٍ تعمل على إبعاده عن المباشرة والتقريريّه والدعائيّة، وتجعل تلك المواقف أكثر قدرةً على التحايل لتبدو طبيعيّة وغير مقصودة بحدّ ذاتها.

 

ويكون هذا أكثر أهميّة حين يتعلّق الأمر بقضايا أيديولوجيّة قد يؤدّي ظهورها بشكل مباشر إلى وسم العمل الأدبيّ بالدعائيّة وعدم المصداقيّة، وهو ما يهدد نجاح العمل وقدرته على التأثير. وتخلق الأعمالُ الكبرى سياقاتٍ واسعةً وتضع حكاياتٍ لتذوب ضمنها الأفكار والمقولات وتتحوّل إلى جزءٍ عضويّ من متنها طبيعيٍّ وغير متعمّد.


يصلح هذا التقديم لتناول رواية "جنتلمان في موسكو" للروائيّ الأمريكيّ "آمور تاولز" التي نُشِرت عام 2016 لتحتلّ الكتاب الأحسن مبيعا، ولتتحوّل سريعا إلى مسلسلٍ تلفزيونيّ. تستبطن هذه الرواية نقدا ومراجعةً لاذعةً للحقبة البلشفيّة من التاريخ الروسيّ وللتأثيرات الهائلة التي أحدثتها في المجتمع والثقافة الروسيّة بشكل إجباري. وتتمكّن الرواية من خلق حكاية تبدو في هيكلها العام بسيطةً، لكنّها هائلة بتفاصيلها وقدرتها على النموّ، وتستطيع إبراز وجهة نظر المؤلف من تلك الحقبة وذلك التاريخ.

 

وأنا لا أريد هنا اتخاذ موقف مؤيد أو معارض للمؤلف ومنظوره، لكنّ الهدف هو الإشارة إلى أسلوب الرواية في "تسريد" موقفها ووضعه في بنية فنيّة تحوّله من مقولة وموقفٍ مجرّد إلى حدثٍ وانعكاسٍ لمجريات حكائيّة وسرديّة.   


تدور الأحداث الرئيسة في الرواية في مكان واحد مغلق، وهو فندقٌ فخمٌ يُحدَّد مكانا للإقامة الجبريّة لأرستقراطيّ روسيّ له باعٌ طويلٌ ومعرفةٌ هائلةٌ في الثقافة والسياسة والمجتمع الروسيّ، وهو الكونت ألكسندر إليتش روستوف. والسبب في هذا الحكم هو نشر روستوف قصيدةً تتضمن نبرةً ثوريّة ناقدة للنظام الجديد، وهو ما لا تحتمله القيادة البلشفيّة بشكلٍ يتضمّن نظرتها الأحاديّة وعدم احتمالها لنصٍّ أدبيٍّ فيه تلميحٌ إلى موقفٍ مختلفٍ عمّا آلت إليه الأمور.

 

هذه القصيدة تظهر، على مستوى بنية الحكاية، محفّزا سرديّا تنطلق منه الأحداث، فالقصيدة وردّة الفعل الدكتاتوريّة القامعة ليست أمرا مُقحما ولا مجرّد مقولة، وإنّما هما حجر الزاوية الذي تنطلق منه الرواية وتكون أحداثها نتيجةً له. 


تسرد الرواية محاولات روستوف للتعايش مع هذا المحبس الفخم وتقدّم ملاحظاته عن المكان عبر وصف تفصيليّ ليس فقط لشكل المكان والعادات والأعراف التي تنظم سلوك الناس وتعبّر عن المجتمع الروسيّ وقيمه، وإنّما أيضا ترصد بدقّة ممتعة التغييرات التي أحدثها النظام الجديد، وهو ما يظهر من خلال الطريقة التي يُدار بها الفندق، فيتمّ التعريض تلقائيّا بهذا النظام وأدوات التعسّف والإجبار على نمط معيّن من الحياة. 


الفندق، وهو مكان مغلق، يغدو مقابلا مكانيّا للعقود الممتلئة بالأحداث الهائلة التي يمرّ بها الاتحاد السوفييتيّ، فيتحوّل من فضاء محدود وظروف حياة مقيّدة للغاية بحيّزه المقابل لشارع الكرملين إلى عالم من الاكتشافات والملاحظات على المستوى الفكريّ والوجدانيّ. يصل روستوف إلى هذا العالم قبل أيّ شيء آخر عبر حاجته الشخصيّة إلى الاتصال بالمجتمع، وإلى التصرّف الإنسانيّ الملائم، فيكون على المستوى النفسيّ قد اكتشف سعةً هائلة، فيتغلّب على أيامه القادمة ووحدته القاتمة بالرغبة في الانتقال، حتى لو كان ذلك فقط على مستوى السمع والبصر دون الجسد. 


تهيمن على أفعال روستوف وحواراته روحُ الدعابة، ويتعرّف على مجموعة من الشخصيّات الشيّقة والفريدة، فيتمكّن من الخروج من عالمه الفرديّ، وهو ما لم يعهده بنفسه في حياته الأرستقراطيّة السابقة، فيتحوّل إلى إنسان فاعل له هدف، ويحصل تلقائيّا على فهمٍ أعمقَ لنفسه ولمجتمعه. يجد روستوف أنّ الفندقَ فرصةٌ فريدةٌ للمعرفة؛ فعلى الرغم من أنّه السجن الذي يقضي به سنوات حياته ولا يستطيع مغادرته، إلا أنّه اكتشف أنّ العالم الخارجيّ المحيط به هو الذي يأتي إليه، فكان الكثير من الناس من كلّ حدب وصوب يأتون إلى الفندق، وهو ببراعته ورغبته يطّلع على قصصهم وحيواتهم، فصار الخارج يأتي إلى الداخل. 


ومع مرور الأيّام، يبني روستوف علاقاتٍ مع العديد من الأشخاص في الفندق، النزلاء والبوّاب والخيّاطات وعمّال التنظيف والندلاء، فيجد لنفسه بابا يمكن أن يفتحه وأن يطرقه في أيّ وقت يشاء. ومع ذلك، لا تغيب بتاتا مخاوف روستوف من مآله والحكم عليه الذي لا ينتهي. 


ليس من السهل أن تجعل روايةٌ ما قصّة السجن في مكان ثابت لا يتغيّر حكاية ممتعة، وألا تقع في فخّ الملل وتجريد المقولات والأفكار وتقديمها جاهزةً أو معلّبة، لكنّ "جنتلمان في موسكو" تشبه شخصيّة الكونت روستوف، فهي رواية تتصف بالخفّة والقدرة على خلق التفاصيل الممثلّة للمقولات والأفكار الناقدة، فتنجو من المباشرة والدعائيّة الكفيلة بتحطيم جمالها. تفكك الرواية عالمها وتثريه بالأوصاف والثقافة والنظام الاجتماعي، وتحتفظ بنبرة ساكنة في تناول مواقفها المدققة في النظام السياسيّ والاجتماعيّ في حقبةٍ ملتهبةٍ من التاريخ الروسيّ. 


السمات والجوانب المتعددة في "جنتلمان في موسكو" وما فيها من تفاصيلَ وانفعالاتٍ تجعلها قادرة على تمرير النقد والمراجعة للنظام البلشفيّ ضمنيّا، فتنجو من فخّ المقولات الأيديولوجيّة المجرّدة، وتقدّم مثالا ماهرا على بناء الحكاية القادرة على حمل رؤاها ومنظورها.