أثناء
إعدادي لفيلم عن جماعات مناهضة الحرب على العرق وأفغانستان في بريطانيا، أنصتّ
باهتمام لشاب من أصول صومالية قضى طفولته في الخليج العربي قبل أن ينتقل مع أسرته
لبريطانيا. كانت مظاهرات الحرب ضد العراق قبل عشرين سنة الوسيلة الوحيدة التي
تفاعل من خلالها مع مكونات ثقافية وعرقية متباينة في بريطانيا البلد الذي نشأ
وتعلم فيه، قبلها كان يعيش ويتعامل بشكل رئيس داخل مجتمعه المحلي الذي يشبهه. وقد شكلت
هذه
الاحتجاجات هوية وطنية وإنسانية جامعة جعلته يشعر ببعض الانتماء للبلد الذي
يعيش فيه بعد أن وقف على أرضية مشتركة مع جيرانه في السكن وزملائه في الحي
والجامعة، وهو الدور الذي لم تفلح فيه أدوات السياسة التقليدية.
وعندما
أنظر إلى تصريحات الطلاب المحتجين في
الجامعات الأمريكية ألمس الشيء نفسه؛ هذه هي
الفرصة الوحيدة تقريبا التي توحد مكونات متباينة من الشباب تحت راية إنسانية
وأخلاقية جامعة بعيدا عن نمط الحياة الاستهلاكي والنفعية المحضة، هي الفرصة شبه
الوحيدة التي تجمع طبقات اجتماعية متباينة تحت راية واحدة، ويا للمصادفة هي قضية
عربية وإسلامية مركزية.
الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مجرد مؤسسات تعليمية، فهي قلاع اقتصادية ومقرات صناعة فكرية ثقيلة ومفرخة للنخب وعلماء نوبل، وهذا يفسر ربما سر الذعر الرسمي الأمريكي والإسرائيلي من هذه المشاهد وهذا الحراك؛ لأن الأمر تجاوز السياسة والمفاوضات إلى تشكيل ذاكرة الجيل الجديد بمشاهد وتجارب غير مسبوقة
يمكن
قول كثير من التحليلات والمفارقات في مشاهد الطلاب الذين أشعلوا الجامعات الأمريكية
وغطت أخبارهم على التدفق الإخباري المأساوي القادم من غزة، وكأنها عدوى الكرامة
والعزة قد مستهم على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. ولكن البعد الثقافي والحضاري
وتشكيل الهوية هو ما يهمنا في هذا المقال، إذ لا يمكن أن نفصل ما ناضل من أجله
إدوارد سعيد أكاديميا في جامعة كولومبيا نفسها ومن بعده رشيد خالدي وجوزيف مسعد؛
عن مشهد الطلاب الممددين على بساط الجامعة الأخضر يقرأون كتب وروايات غسان كنفاني
المترجمة؛ ملحمة لم يكن الخيال يصل إليها مصورة في السينما أو الدراما قبل أن
تنقلها لنا نشرات الأخبار.
إن
الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مجرد مؤسسات تعليمية، فهي قلاع
اقتصادية ومقرات صناعة فكرية ثقيلة ومفرخة للنخب وعلماء نوبل، وهذا يفسر ربما سر
الذعر الرسمي الأمريكي والإسرائيلي من هذه المشاهد وهذا الحراك؛ لأن الأمر تجاوز
السياسة والمفاوضات إلى تشكيل ذاكرة الجيل الجديد بمشاهد وتجارب غير مسبوقة. فأن
يقف مثلا طالب أسود البشرة متحدثا باسم الطلاب المعتصمين في جامعة كولومبيا يعرض
مطالب المحتجين التي تتجاوز موضوع غزة وتشمل تحرير
فلسطين؛ فهذا أمر له ما بعده.
الحراك الطلابي غير المسبوق يدمج العملية السياسية داخل البنية المهنية للأساتذة والباحثين والطلاب. ويا للعجب، فإن هذا التشكيل غير المتجانس من البشر من مختلف المشارب يخرج أفضل ما فيه أخلاقيا وتنظيميا بخلاف النظريات السائدة والأفكار المسبقة
إن
العلاقة بين المواطن الأمريكي أو الأوروبي وبين العملية السياسية تقف بشكل رئيسي
عند التصويت في الانتخابات، ونمط الحياة المتسارع والقاسي على الجميع يمنع معظم
الناس من المشاركة في أنشطة الشأن العام، اللهم إذا احترفوا العملية السياسية.
ولهذا فإن معظم أبناء الأقليات الذين دخلوا إلى العملية السياسية في الغرب دخلوها
كما لو كانت مهنة مستقلة ينتقلون فيها من منصب لمنصب، سواء بالانتخاب أو بالتعيين
في إحدى الجهات عن طريق الحزب الذي ينتمون إليه وليس نشاطا عاما، الأمر الذي يحرم
كثيرين من المساهمة الفعالة في القضايا العامة لأنه لم تتح لهم الفرصة نفسها
ومستحيل أن يسمح لهم نمط المعيشة بالجمع بين الأمرين.
ولهذا
فإن هذا الحراك الطلابي غير المسبوق يدمج العملية السياسية داخل البنية المهنية
للأساتذة والباحثين والطلاب. ويا للعجب، فإن هذا التشكيل غير المتجانس من البشر من
مختلف المشارب يخرج أفضل ما فيه أخلاقيا وتنظيميا بخلاف النظريات السائدة والأفكار
المسبقة؛ تلك الأفكار التي تروج لمفهوم همجية الرجل الأسود أو إرهاب المسلمين أو
معاداة سامية مناصري القضية الفلسطينية.