ربما تكون أمنية البشرية جمعاء أن تفيق من ليلتها وقد انتهى وباء
كورونا "كوفيد 19"، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً "وما نيل المطالب بالتمني". فالمقروء في أفق الجائحة التي هزت الكرة الأرضية أن هناك الكثير ينتظر الناس، وأن الواجب اتخاذ كل التدابير التي من شأنها أن تخفف الوطأة قليلاً، وأن يجد أهل الاختصاص ضالتهم بلقاح وقائي وعلاجي يحقق الهدف، كما توجب الحالة المزرية هذه الوصول إلى سياسات مميزة تحمي الاقتصاد (عصب الدول) كما تحمي تركيبة الدول وتحافظ عليها من الانهيار.
مصطلح
مناعة القطيع (The Herd Immunity) برز على الساحة من خلال إجراءات بعض الدول التي منها السويد. هذا المصطلح بمحتواه يحط من شأن الوباء وقدرته على الانتشار، وأن المجتمع يستطيع المقاومة من خلال ترك الحبل على الغارب لحاملي الفيروس لكي يجدوا طريقهم نحو الخلاص، وبتدخل طبي غير معقد، ودون اللجوء إلى الإثارة في التعامل مع الوباء.
هناك أمران أساسيان في التعامل مع أي مرض يأخذ طابعاً وبائياً، الأول متعلق بالطبابة وأسلوب العلاج والبحث
العلمي البحت والمقنن، والثاني رسم السياسات التي تحكم كل ما يرتبط بالوباء منذ لحظة ظهوره وحتى آخر مستجداته، كما تعنى بالإجراءات الاحترازية لأي أمر قادم بعد الانتهاء والسيطرة التامة على انتشاره.
كذلك، هناك تداخل ما بين الجانب التنظيمي الذي ترسمه أجهزة ومؤسسات الدولة وما بين الجانب المهني العلمي المرتبط بالحالة والاختصاص. ولعله من المجدي القول إنه يجب عدم طغيان أحدهما على الآخر ليبقى التوازن من أجل عدم الجنوح في مآزق جانبية، كالاقتصاد والاجتماع ورسم السياسات الخارجية والداخلية غير المرتبطة بالوباء، لذلك اختلفت الدول في منحاها لحل الإشكالات بين متراخٍ ومتشددٍ في تطبيق السياسات.
الجانب الطبي العلمي لا يخلو من النهج السياسي في التعامل مع الجائحة، فالطب هذه الأيام مرتبط بمؤسسات، والمؤسسات لها تشعباتها وتتشابك مع السياسيين وأجهزة الحكم في مفاصل كثيرة من عملها، كما لها موازناتها التي تعتمد في كثير من الأحيان على القرار السياسي، مما قد يحد من شفافيتها. وفي ذات الوقت، الساسة لهم أهدافهم ويحاولون استغلال كل ما من شأنه أن يحقق طموحاتهم وبرامجهم ويكون ذلك أحياناً على حساب الجانب المهني الطبي، وهنا يحدث اللغط في انتهاج سياسة التعامل مع الجائحة، ويصبح الأمر صراعاً أكثر من كونه تحدياً للجميع ينبغي الوقوف بوجهه، وهذا يكلف المجتمعات البشرية الكثير صحياً ونفسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل تتحول العلاقات إلى انقسامات وتأخذ حيزها بين المجتمعات، كل بقناعاتهم فرحون.
الإطار السياسي للمؤسسة الطبية البحثية والعملية بلا شك يحد من قدراتها، كما هو الحال في المؤسسات العلمية الأخرى. وربما المركبة الفضائية تشالنجر التي أطلقت في ظروف غير مقبولة علمياً مما أدى إلى انفجارها؛ خير دليل على تحكم الإطار السياسي بالجانب العلمي المهني، حتى في مجالات غير طبية أو صحية، وهذا أمر يبعث على القلق. المركبة الفضائية أطلقت بقرار إداري سياسي اتخذ من طرف إدارة ناسا العليا رغم مخالفة المهندسين والعلماء لذلك القرار، وكان السبب في ذلك الإطلاق غير الموفق محاولة الإدارة انتزاع الدعم المالي الذي تقدمه الدولة لمؤسسة ناسا.
وبذات القدر وربما بصورة أكثر فظاعة تتعرض منظمة
الصحة العالمية لضغوطات من أجل تسييس قرارها. وقد رأينا كيف جمدت إدارة ترامب مساهماتها المالية لمدة 60 يوماً والتي كان متوجباً منحها لها، فكانت العقوبة بسبب خلافات حول كيفية التعامل مع "كوفيد- 19" وانتشاره، بل لربما تنقطع تلك المساعدات كلياً.
من هنا نجد أن الإطار السياسي للمنظمات العلمية يصبح عائقاً أمام التصرف بمهنية من قبل المنظمات المهنية، صحية كانت أو غير ذلك، حيال الأوضاع المستجدة، وهذا ما يفسر حالة السويد وغيرها ممن اعتمدوا سياسة مناعة القطيع (The Herd Immunity)، ما أدى إلى انقسام حول جدوى التعامل بهذه الطريقة التي وصفتها منظمة الصحة العالمية بالوحشية.
المجتمعات الغربية وتقبل سياسة مناعة القطيع!
من يعش في المجتمع الغربي يعرف حقيقة ما يدور في لب هذه المجتمعات. فهي مجتمعات تهتم كثيراً بالجانب الترفيهي في الحياة، وبقدر ذلك الاهتمام تنبعث منها تيارات ربما تغلّب ذلك الجانب على جوانب السلامة العامة. لذلك، لا ينبغي العجب إن رأينا غربياً يضحك من مصيبة حلت، وعلى الجانب الآخر غربي يختلف بمشاعره تماماً فنراه يبكي. هذه فلسفات اعتمدتها المجتمعات الغربية ونمت في الأفراد دونما حسيب أو رقيب، لذلك فترة الحزن لديهم لا تطول ونهاية الأسبوع هو ملتقى أفراد المجتمع للهو والمرح، فلا نجدهم آبهين للمخاطر بذات القدر الذي تعيشه المجتمعات الشرقية. فمناعة القطيع مفهوم مقبول لدى الغربيين ويختلف من فئة لأخرى، لكنها سياسة بالتأكيد مرفوضة صحياً وعلمياً من قبل المحافظين الذين دأبوا على قياس الأمور بمقاييس مختلفة لا تتفق مع ليبرالية الفئات التي ارتضت هذه
السياسة، ومن هنا تكون التصنيفات مختلفة في المجتمعات الغربية حتى تصبح هذه المبادئ سبباً في اختيار من يسوسهم.
أما في المجتمعات الشرقية التي تقيدها ظروف مجتمعية مختلفة فقد تفرض تواصلاً اجتماعيا مماهياً لسياسة القطيع، لكن هذا التواصل ليس معتقداً اجتماعياً كما هو الحال عند المجتمعات الغربية. ومن هنا نجد أن الدول التي لم تقم على قاعدة وفلسفة ليبرالية تنجح في فض التواصل الاجتماعي، لتبقى الحالات المخالفة متفردة وليست عامة في تلك البلاد.
أيضاً، علينا أن نعي حجم الإشكالات التي تحدث في كلا المجتمعين، الليبرالي الغربي والمحافظ الشرقي، وكيف تخضع هذه المجتمعات أولاً للمؤسسات الصحية القائمة ثم لمؤسسات الدولة التي تدير الجميع. هذه الإشكالات تظهر بشكل معارضة وربما تأخذ شكلاً فوضويّاً، كما هو الحال فيما يحدث من مظاهرات في الغرب تطالب بفتح المدن وعودة الحياة إلى طبيعتها، كما نراها عبر منصات التواصل الاجتماعية في الدول غير الليبرالية، كما تكون بصورة مخالفات فردية.
والخلاصة في هذا الشأن أن المجتمعات الليبرالية تتحكم بها عقيدة وفلسفة، بينما المجتمعات المحافظة تتحكم بها قيود اجتماعية، والفرق واضح حيث أن الأول أكثر انقساماً والثاني قابل للانضباط بسطوة مؤسسة الدولة.
أما المؤسسة الطبية البحثية والعملية فهي تتأرجح بين هذه المجتمعات، لنجدها أقل فاعلية حينما يكون الموجه سياسيا إداريا، وهي أكثر فاعلية إذا كانت ذاتية الحراك، ومنهجيتها العلمية هي المسيطرة على مختبراتها وموازناتها وسياساتها في التعامل مع الأمراض، بغض النظر في أي المجتمعين كانت.
من هنا نلخص فحوى هذا المقال بما يلي:
إذا أرادت الدول والشعوب الخروج من الأزمة الصحية الخانقة دون التعامل مع مصطلحات براقة فعليها فعل الآتي:
أولاً: إطلاق العنان لمؤسسات البحث الطبي وتخفيف القيود التي تفرضها بيرقراطية القرار السياسي والإداري.
ثانياً: منح العاملين في مؤسسات البحث حصانة وحماية من خطر تدخل الدولة في القرارات المرتبطة بالبحث العلمي الطبي، ووضع كل ما يمكن من موارد في خدمة الباحثين والقائمين على تنفيذ التجارب والاختبارات.
ثالثاً: نزع القيود السياسية كاملة من أيدي الباحثين والعمل على استقلالية القرار، دون التأثير المادي أو المعنوي بالضغط على الكوادر العاملة (Politics Free Environment).
رابعاً: توحيد الجهود بين قطاعي مؤسسات الربح والخدمات (Business and Public Management Integration) لكي يكون المنتج في متناول جميع فئات الشعب فتعم الفائدة، حيث لا تنبغي سيطرة أي قطاع بمفرده على الموارد، وتنبغي حماية المنتج حال وصول مرحلة التسويق والاستهلاك للعقاقير الطبية.
خامساً: وضع الخلافات الدولية السياسية جانباً لاستبعاد خطر تلك الخلافات في الحد من الانتشار عالمياً، لأن الأمر ليس فقط على مستوى دولة بعينها. وقد رأينا ما تطور من مدينة ووهان الصينية إلى نيويورك الأمريكية. فهذه المرحلة لا بد فيها من توحيد الجهود عالمياً.
ثم نجد خلاصة الأمر باستبعاد كل ما هو غير حرفي ومهني من التعامل مع الجائحة، وضبط العمل السياسي بحيث لا تكون هناك مكاسب أو مخاسر، وحصر الأمر في أصحاب الاختصاص، وترتيب الأولويات المجتمعية بعيداً عن المعتقدات الليبرالية والتقاليد المحافظة.
"كوفيد- 19" ليس آخر المشوار، ومن يعش للأيام القادمات سيرى أن ما حدث هو مجرد حادثة ستجر حادثات، لهذا لا بد من الضغط قليلاً على النفس ونكران الذات من أجل حماية المجتمع، غير متناسٍ هنا أن نكران الذات لا يعني الإجهاز عليها، بل ترويضها وفق المعقول والمقبول، فلا هي مناعة القطيع وإطلاق الحبل على الغارب، ولا تكون إطاراً سياسياً يحكم عقول وفكر وبحوث العلماء الذين نذروا كل جهودهم من أجل المجتمعات بمهنية وإخلاص. لذا على البشرية التعقل قليلاً.. لأن الحياة كما نقول "حلوة"، فلا تزهقوا هذه الحلاوة لأي سبب كان.