بالنسبة لنا، نحن الذين تفصلنا عن كوريا الشمالية آلاف الأميال، تبدو هذه القطعة من شبه الجزيرة الكورية بمنزلة كرة مصمتة، محشوّة بالألغاز؛ حتى إن خبر مرض زعيمها الدكتاتور، تحوّل بدوره إلى لغز كبير، تنسج بشأنه الحكايات والروايات. أما القصص التي أحاطت بتولي شقيقته الخلافة من بعده، فلم تكن أقل إثارة للرعب والقلق.
مَرِض كيم جونغ أون، وقيل إن الجراح المرتجف والمرعوب من «الجثمان المسجّى أمامه»، قارف خللا في وضع مبضعه في المكان الصحيح. الرعب الذي يثيره قتلة من هذا النوع، يجعل من الصعب عليهم الحصول بـ«أريحية» على الخدمات التي يحتاجونها، حتى وإن كان من يقدمها من أخلص المقربين. الاقتراب لمسافة غير آمنة من جسد الزعيم، سبب كافٍ لتدفق الأنزيمات والهورمونات وانعدام القدرة على التركيز.
كل ما قيل ويقال عن البلد المسيّج بالحديد والنار والرؤوس النووية، يصلح مادة لسلسلة لا تنتهي من أفلام الرعب. ولأن السلوك الإجرامي للسلالة الحاكمة (الأب والابن والجد)، فاق كل خيال، فقد أصبح ممكناً تحويل الحكاية الكورية إلى ضرب من الكوميديا السوداء. فيلم المقابلة“Interview”، يصلح مثالا على ما أريد قوله. يكفي أن يدفع الصحفي الزعيم للبكاء على الهواء، حتى تسقط عنه الصفة الألوهية، ويصبح في نظر شعبه بشرا مثلهم، فما بالك حين يتغوط في سرواله، وعلى الهواء مباشرة كذلك؟!
ويصبح صعبا علينا، نحن الذين «نتسقّط» أخبار تلك البلاد، التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف من أخبار تنشر عنها. أبشع ما قرأت عن شقيقة الديكتاتور الصغرى كيم يو جونغ، أنها ألقت بزوجها لقمة سائغة لأربعة أسود جائعة، لمجرد أنه طلب إليها ما يطلبه كل رجل من زوجته: الإنجاب. وسواء أكانت هذه الرواية صحيحة أم لا، فإن هالة القداسة التي أضفتها العائلة على نفسها، منذ الزعيم الجد، «المحبوب من أربعين مليون كوري»، كيم إيل سونغ، ستتبدد. في ظني إن السيدة التي قد تصبح في أي وقت، حاملة «الزر النووي» والمتحكمة فيه، تنتظر قبسا من روح مقدسة، تنفخ فيها «فتلد من دون دنس».
الديكتاتور الشاب، الذي لم يستفد من سنوات دراسته «سرا» في سويسرا، كما وريثته، أجهز على كل خليفة محتمل له، وأزهق أرواح كل من وردت أسماؤهم في قائمة خلافته، وغالبا بأبشع الطرق، إذ يقال إنه «قصف عمر» عمّه وأنجاله، بالمعنى الحرفي للكلمة، عندما أمر بقصفهم بالمدفع بدل إطلاق الرصاص عليهم، أو تعليقهم على أعواد المشانق أو خنقهم في غرف الغاز، كما تنفذ أحكام الإعدام عادة.
زيارة كوريا الشمالية، حلم وكابوس. كل منّا يرغب في تكرار تجربة «أليس في بلاد العجائب»، حتى وإن لم يكن بجمال أليس وبراءتها، وكوريا الشمالية بلاد العجائب، لكن الحلم قد يرتد في طرفة عين إلى كابوس، أن قللنا من دون أن نقصد، الاحترام للزعيم المبجل. ألم يقتل الرجل وزير دفاعه المُسن، لأن النعاس غالبه في أحد الاجتماعات المملة التي يترأسها الزعيم، وبتهمة «عدم إبداء الاحترام اللازم».
على أن أغرب الغرائب، أن بعض اليساريين والإسلاميين من محور المقاومة، ما زال يعد كوريا الشمالية، «عضوا عاملا» في الجبهة المناهضة للإمبريالية. بالنسبة لي شخصيا، أفضل الإمبريالية والاستعمار على حكم ديكتاتور متهور كهذا، لا يختلف عنده النطق بحكم الإعدام عن تدخين سيجارة إضافية.
والأغرب حقا، أن نظرة «المقاومين» في منطقتنا لكوريا الشمالية وديكتاتورها، لا يشاطرهم فيها أحد، سوى دونالد ترامب، الذي أبدى قلقا على حياة الزعيم كيم، أكثر من قلقه على مصائر أزيد من مليون أمريكي مصاب بفيروس كورونا؟
(الدستور الأردنية)