الهدنة القصيرة التي فرضها فيروس كورونا المستجد في لبنان لم تصمد طويلا، فالاحتجاجات عادت إلى لبنان بقوة الاثنين الماضي في بيروت وطرابلس؛ مواجهات لم تقتصر على المتظاهرين وقوات الأمن والجيش بل شملت هجمات بالقنابل على عدد من البنوك في بيروت.
البنوك تصدرت المشهد في لبنان فهي الطرف الأسهل استهدافه سواء من قبل الشارع الغاضب أو القوى السياسية باختلاف غاياتها؛ فالبنوك مؤسسات معولمة تقع في عصب المنظومة الدولية والإقليمية التي تهيمن عليها المؤسسات المالية الغربية خصوصا الأمريكية ما يجعل منها شديدة الحساسية للعقوبات والحصار الاقتصادي وللصدمات الاقتصادية والمالية الناجمة عن فيروس كورونا المستجد أيضا.
العودة المتفجرة للاحتجاجات لم تقتصر على لبنان إذ انفجرت الاحتجاجات والمواجهات جنوب العراق في البصرة منذرة بتوسع الاحتجاجات والعودة إلى الشوارع في أغلب المدن العراقية؛ احتجاجات مدعومة بتراجع اقتصادي ناجم عن انهيار أسعار النفط؛ فالعراق يتميز بغياب العقود الآجلة فأغلب عقوده قائمة على المضاربة العاجلة لتتضاعف خسائره وتتفاقم أزمته؛ فالفوضى تشق طريقها من جديد في بلاد ما بين النهرين.
الفوضى والاستنزاف الاقتصادي والفشل المتكرر لخطط التحفيز الاقتصادي لن يقتصر على العالم العربي؛ فالعالم برمته يقف على مفترق طرق مترقبا موجة جديدة من الوباء يتكرر التحذير منها يوميا؛
الفوضى وحالة التشرذم في المنطقة العربية تتخذ أشكالا متعددة، ففي اليمن لم تفضِ المخاوف من تفشي كورونا المستجد إلى وقف إطلاق النار؛ لتتجدد الاشتباكات بين الحلفاء قبل الأعداء جنوب اليمن بين حكومة الشرعية والمجلس الانتقالي ذي النزعة الانفصالية بإعلانه الحكم الذاتي مستفيدا من الأجواء والمناخات السائدة على وقع تفشي كوفيد 19 في دول الخليج العربي والعالم.
الحال ذاته في ليبيا إذ لم يفضِ تفشي الوباء إلى وقف المعارك ولم يلتزم الأطراف بالهدنة التي دعا لها الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس أو رئيس الوزراء الإيطالي كونتي؛ وبلغت الأمور حدا أعلن فيه الجنرال المتقاعد حفتر الانسحاب من اتفاق الصخيرات معلنا نفسه حاكما منفردا للبلاد، الأمر الذي رفضه الحليف الروسي ممثلا بوزير الخارجية الروسي لافروف بل والراعي الأمريكي؛ قرار سبقه إعلان برلمان طبرق مبادرة تتضمن تقسيم ليبيا إلى ثلاث أقاليم منفصلة تتقاسم المقاعد في المجلس الرئاسي ليستكمل بذلك فصول الكارثة؛ فكورونا تحول في لبنان والعراق واليمن وليبيا من حمى ووباء صحي إلى حمى ووباء سياسي واقتصادي.
لم تقتصر الفوضى والاحتجاجات على العراق ولبنان وليبيا واليمن؛ فالتوتر بلغ مستويات مرتفعة في الخليج العربي نتيجة الاحتكاك المباشر بين البحرية الأمريكية والإيرانية أعقبه تهديدات متبادلة ألقت بظلال ثقيلة على المنطقة؛ والغريب أن التوتر لم يرفع أسعار النفط بل زاد الأمور سوءا.
لم تكن صدفة أن تأتي مقالة ملك الأردن عبد الله الثاني في الواشنطن بوست تحت عنوان "حان الوقت للعودة إلى العولمة" لتتحدث عن المخاطر الناجمة عن الفشل في التصدي لجائحة كورونا وما بعدها والتحذير من فشل منظومة العولمة في شقها الثقافي والسياسي والاقتصادي، خصوصا في منطقتنا العربية، ففي مقالته يوم الثلاثاء الموافق 28 نيسان (أبريل) الحالي؛ فهو صوت آخر من المنطقة، إذ عبر عن هواجسه بالتحذير من الفوضى بالقول إن "البطالة والمجاعة والفقر في انتظارنا إن لم نعمل معاً، ويتعين علينا أن نعالج فجوة الفرص العالمية، بما في ذلك إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، وأن نعيدَ النظرَ في النماذج والمقاييس التي تستخدمها الهيئات المالية الدولية في الأسواق الناشئة لنتمكن من رواية القصة بأكملها على نحو أفضل"؛ وهو بذلك أطلق رسالة تحذير تدعو إلى إعادة النظر في منظومة العولمة التي باتت عليلة بفعل فايروس كورونا وأشياء أخرى أبرزها غياب القيادة الفاعلة التي تلقي بظلالها على المنطقة العربية.
الاحتجاجات يتوقع أن تتوسع دائرتها في العالم العربي زمانيا ومكانيا في ظل التدهور المتواصل في معدلات النمو الاقتصادي وتراجع القدرات الإنتاجية؛ ومن الممكن أن تزداد الأمور سوءا في حال عجزت القوى الاقتصادية الكبرى عن الخروج من أزمتها الاقتصادية العميقة؛ أزمة تحولت بمرور الوقت إلى أزمة قيادة دولية بشقيها الاقتصادي والسياسي.
ختاما: الفوضى والاستنزاف الاقتصادي والفشل المتكرر لخطط التحفيز الاقتصادي لن يقتصر على العالم العربي؛ فالعالم برمته يقف على مفترق طرق مترقبا موجة جديدة من الوباء يتكرر التحذير منها يوميا؛ توقعات جد متشائمة تلقي بظلالها على العالم وتؤثر على سلوك الدول وردات فعلها ونزعتها نحو المزيد من التحفظ والعزلة المسكونة بهاجس كورونا المستجد؛ فالعالم ما بعد كورونا مختلف جدا عما سبقه؛ فالعولمة عليلة جدا والعالم يفتقد لقيادة دولية سواء منفردة أحادية القطب أو جماعية عصية التشكل.
twitter.com/hma36
@hma36
هل انهيار الرأسمالية ممكن أم إنها انتصرت ورسمت نهاية التاريخ؟
كم بدا لنا العالم هشا.. كم بدا لنا العالم لاأخلاقيا