إذا كان فايروس كورونا قد فاجأ حكومات وسكان الدول الغربية بغزوه لبلدانهم، وما سببه من حصد للأرواح وخسارة اقتصادية وتفكيك التقارب المجتمعي، بالإضافة إلى زرع القلق والخوف وعدم الاستقرار، جراء عدم معرفة ما سيجلبه الغد، والحرمان من الحياة اليومية العادية المألوفة لديهم، فان غزوه بلداننا لم يأت كمفاجأة بل كإضافة تراكمية إلى ما يعيشه أهلنا من صنوف الغزو والاحتلال الأجنبي والاستبداد المحلي، وانعكاساتها حتى على الهواء والماء والتربة. توليفة الهيمنة على حياة المواطن باتت جزءا لا يتجزأ من وجوده في معظم البلدان العربية، فجاء الفايروس ليزيد من حجم المأساة واختزال حياة الإنسان فيها إلى صراع لا هوادة فيه من اجل البقاء.
وإذا كان فايروس كورونا قد مس كل البلدان
العربية، مسببا الموت أينما حّلَ، بأعداد متفاوتة، وحسب قدرة كل بلد على الدفاع عن
نفسه، فإن فلسطين المحتلة، بأسراها وغَزَتها (غزة السجن الأكبر في العالم)، تبقى
الأكثر هشاشة بين كل البلدان، وان بدا ظاهريا غير ذلك، في ظل الترويج الدعائي
الصهيوني، وتهافت عدد من الحكومات العربية على طمس القضية الفلسطينية.
في فلسطين المحتلة، يتعاون فايروس كورونا مع
سلطة الاحتلال العنصرية على حرمان الفلسطينيين مما يمدهم بقوة الصمود والتضحية
والبقاء، بعد محاولاتها في تدميره عبر الاستيطان والتهويد والضمّ والحصار. ويتزايد
تأثير الفايروس بشكل مضاعف على الأسرى الذين وصل عددهم، نهاية شهر آذار 2020، إلى
ما يقارب 5000 أسير ومعتقل، من بينهم 432 معتقلا إداريا، و41 أسيرة، و7 نواب في
المجلس التشريعي، و183 طفلا منهم 20 تحت 16 عاما، حسب «منظمة الضمير». ولا تزال
سلطات الاحتلال مستمرة في اعتقال الفلسطينيين وزجّهم في مراكز التوقيف والتحقيق
والسجون، التي تفتقر للحد الأدنى من متطلبات الحياة الإنسانية. حيث اعتقلت منذ
بداية انتشار الوباء ما يقارب 357 معتقلا ومعتقلة منهم 48 طفلا و4 نساء، في ذات
الوقت الذي تقوم فيه عديد الدول بأطلاق سراح السجناء تفاديا لانتشار الفايروس
بينهم.
وكأن انعكاس معاناة الأسرى والأسيرات وظروفهم
المعيشية والصحية القاسية، خاصة المرضى منهم، على أسرهم ليس كافيا، قامت سلطات
الاحتلال، بعد تفشي الفايروس، باتخاذ إجراءات تمس الأسرى والمعتقلين بحجة مواجهة
الفايروس، حيث أعلنت العمل بنظام الطوارئ، الذي يتضمن إلغاء زيارات عائلات الأسرى
وزيارات المحامين.
عن هذه القيود الإضافية كتبت المحامية فدوى
البرغوثي، زوجة الأسير القيادي مروان البرغوثي، الذي يقضي عامه الـ(19) في سجون
الاحتلال: «بعد زيارتي التي انتظرتها ثلاث سنوات، وسُعدت باللقاء الذي ساعدني على
تجميع الصورة والملامح من جديد، بدأت أُحضر نفسي للزيارة الثانية. قبلها بأيام
قليلة بلغنا الصليب الأحمر بوقف كافة الزيارات للسجون، لأعود أحسب الأيام من جديد
لزيارة قادمة حين تسمح لنا كورونا».
وفي ندائها الموجه إلى
العالم الذي ترى انه ذاق، أخيرا، طعم الحجر ومعنى العزل لعدة أسابيع، بسبب
الفايروس، كتبت الأسيرة المحررة أمان نافع، زوجة الأسير نائل البرغوثي، الذي أمضى
في الأسر 40 عاما « الآن أصبح العالم كله يستطيع أن يتخيل كيف يعيش الأسير
الفلسطيني… ولكن من المستحيل أن يتخيل كيف استطاع أن يتحمل نائل البرغوثي 40 عاما
داخل السجن؟» وكان نائل قد اعتقل للمرة الأولى عام 1978، وعمره 19 عاما، وحُكم
عليه بالسجن المؤبد و18 عاما. وأفرج عنه عام 2011، ضمن صفقة «وفاء الأحرار» وتزوج
من المحررة أمان نافع، إلى أن أعادت سلطات الاحتلال اعتقاله مجددا في 2014، وأعادت
حُكمه السابق، إلى جانب العشرات من محرري الصفقة الذين أُعيدوا إلى أحكامهم
السابقة وغالبيتهم يقضون أحكاما بالسّجن المؤبد.
يمنحنا الأسيران مروان ونائل البرغوثي، مع كل
الأسرى والأسيرات، نموذجا لنضال شعب مستمر، على الرغم من التكلفة العالية، لإنهاء
أشكال هيمنة تاريخية كالاحتلال والاستعمار الاستيطاني والعنصرية والتمييز، باتت
تُقدم إلى الأجيال الجديدة بأسماء تمّوه مضمونها لاختراق الشعوب وتضليلها.
ليبقى صوت الأسرى جامعا موحدا لقضايا تعني البلدان العربية والعالم كله. صوت يحمل ردا لمن يبرر الصمت حول فلسطين بأن كثرة المصائب وتعددها في البلدان العربية من العراق إلى سوريا واليمن وليبيا، خففت من اهتمامهم ومتابعتهم الهّم الفلسطيني.
ردا على ذلك أقول، إنني حين تحدثت مع الأسير
نائل البرغوثي، خفية، في مكالمة سريعة، عام 2015، لم يتحدث عن وضعه الخاص داخل
السجن قرابة الأربعين عاما، أو عما تعرضت له عائلته من تنكيل واعتقالات وتهديم
منزلين للعائلة أو حتى فلسطين، بل كان سؤاله الأول عن العراق. كمن يسأل عن صديق
طفولة طال غيابه، قال: كيف العراق؟
وإذا كان الأسيران مروان ونائل محكومين بقيود
الاحتلال حول التواصل مع العالم الخارجي، فان فدوى البرغوثي وأمان نافع، كما بقية
ذوي الأسرى والأسيرات، لم تتوقفا يوما عن محاولة إيصال أصوات الأسرى، كلهم، إلى
العالم الخارجي. تقول فدوى «إن التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وحقوقه ونضاله
هو ضرورة في سياق المعركة الكبرى ضد مختلف أشكال الاستعمار»، بينما تنشط أمان، في
ظل المخاوف من الفايروس الوبائي، ضمن حملة «الحرية لكل الأسرى»، قائلة: «لا يوجد
أسير صغير أو كبير، على الاحتلال أن يطلق سراح كل الأسرى، لأن حياتهم أصبحت معرضه
للخطر بسبب نسبة الإصابة العالية في صفوفهم في أراضينا المحتلة وأكثر السجون
موجودة في أراضي 48.
نطالب حكومتنا الضغط بهذا الاتجاه والتواصل مع
العالم للضغط على حكومة الاحتلال للإفراج عنهم جميعا.
فكيف بأسير لا يأكل طعاما صحيا أو لا يرى
الشمس ولا الهواء أن يقاوم هذا المرض؟ كل الأسرى الفلسطينيين في خطر. أنقذوهم قبل
أن يقتلوهم».
يواجه الأسير اليوم خطر السجان/ الجلاد
والوباء، وتعيش كل عائلات الأسرى التي ينتظر بعضها حرية أبنائهم منذ عقود، معاناة
صعبة وتجارب قاسية، كما تؤكد فدوى برغوثي أن الشعب الفلسطيني وفيّ لمناضليه وأسراه
وشهدائه وتضحيات أبنائه، وأن نضاله مستمر مهما بلغت المعاناة والتضحيات حتى نيل
كامل حقوقه والعيش بكرامة وحرية، وهي غاية ستكون احتمالات تحقيقها أكبر ، لو شارك
العالم ، في نزع فتيل استهتار وعنجهية نظام الاحتلال العنصري ، لا حماية
للفلسطينيين فقط بل حفظا للسلام العالمي، وكما قال مروان البرغوثي أثناء محاكمته
«إن اليوم الأخير في عمر الاحتلال هو اليوم الأول للسلام».
(القدس العربي)