على هامش الحياة اليومية لسكان كوكب
الفيسبوك من العراقيين، ومن بين ركام التعليقات بكل تفاصيلها الغنية والمبتذلة،
برز في الأيام الأخيرة خبر حظي بعدد كبير من التعليقات المؤيدة والمستنكرة وإشارات
الرضا والاحتضان على حساب خبر آخر لم ينجح، على أهميته، من الحصول إلا على بعض
الإيماءات الخجولة. فهل لهذا دلالة على حجم الوعي لدى سكان الموقع، سواء كان شخصيا
أو جماعيا، على تنوع خلفياتهم الثقافية عموما، أم إننا نمنح الفيسبوك وسكانه أهمية
أكبر من هدفه الأصلي، وهو تمضية الوقت والتواصل وتبادل شذرات الأخبار أو تسويق
النفس، في فضاء مشترك مريح؟
يتضمن الخبر الأول الذي شغل الكثيرين من سكان الفيسبوك
واستقطب عديد التعليقات وصفا يُسيء للصحابة، أطلقه شاب عنوان وظيفته «رادود» أي
حكواتي يسرد مقتل الأمام الحسين، ويعتمد مقياس نجاحه وارتفاع أجره على قدرته في
استدرار الدموع الغزيرة والبكاء واللطم. بتعليقه، سواء كان ساذجا أو مخططا له، نبش
الرادود جرحا بات ينزف على صفحات الفيسبوك، وشغَل المعلقين حتى كادت الأصوات
الناقمة تتساءل «هل تستطيع مياه المحيطات غسل هذه الأيدي الملطخة بالدماء؟» كما
تساءل الملك ماكبث في مسرحية شكسبير الشهيرة، بعد ارتكابه جريمة قتل، لتجيبه زوجته
قائلة ببرود أن قليلا من الماء سيزيل الدماء.
أما الخبر الثاني وهو الذي رماه عراقيو الفيسبوك جانبا،
فبدايته إعلان: «احصل على شريحة الدفع الخاصة بك الآن لتخطو نحو المستقبل». ونقرأ
من خلاله كيف روجت الشركة البريطانية – البولندية «ووليتمور» أول دفعة من شرائح
الدفع الدقيقة القابلة للزرع في جسد المستهلك. فبتكلفة لا تزيد على 199 يورو، صار
بالإمكان التخلص من حمل النقود وبطاقات الائتمان مقابل زرع شريحة لا يزيد حجمها
على حبة الرز لتكون الوسيلة الأكثر أمانا للدفع، المقبولة عالميا، والآمنة
بيولوجيًا بعد أن أكدت إدارة الغذاء والدواء الفيدرالية الأمريكية صلاحيتها
البيولوجية.
يوضح موقع الشركة كيفية غرز هذه الشرائح المعروفة تقنيًا
باسم «شرائح تحديد التردد اللاسلكي» تحت الجلد، وسلامتها. وقد اختار أكثر من 50
ألف شخص، في أنحاء العالم، غرز الرقائق، لتحل محل المفاتيح وتذاكر السفر
الإلكترونية، وحتى تخزين معلومات الاتصال في حالات الطوارئ وملفات تعريف الوسائط
الاجتماعية.
تؤكد الشركة المنتجة في إعلاناتها على أنه من غير الممكن
التجسس أو تتبع أو مراقبة أو جمع أية معلومات عن مستخدم الشريحة. وهي النقطة
الأكثر إثارة للجدل والشك والخوف المتداخل مع الإحساس بعدم الأمان إزاء فكرة غرز
الشرائح مهما كان نوعها ومصدرها.
هل صحيح أن وجود شريحة مبرمجة داخل الجسم
لن يؤدي بالنتيجة إلى أما السيطرة عليه أو تسهيل عملية السيطرة عليه ما دام التحكم
بها يتم من خارج الجسم؟ وإذا كان هذا صحيحا فكيف يتم التوصل إلى تكوين صورة شبه
متكاملة عن الإنسان بدءا من مواصفاته الجسدية إلى ما يرغب فيه ويحبه، عبر تجميع
المعلومات عنه ومتابعته وملاحقته بواسطة الطائرات بدون طيار بمجرد استخدامه بطاقة
الائتمان أو الهاتف المحمول وبقية التقنيات الرقمية المحيطة بنا؟ ما يقودنا إلى
التساؤل، أيضا، عما إذا كان التطور الحالي وهو حصيلة عقود طويلة من تطبيق ما كان
يتخيله رواد الخيال العلمي ويهدف بشكله البريء إلى توسيع قدرات وقوى البشر
وتمكينهم من جعل أداء مهام معينة بشكل أسهل وأسرع، هو سيرورة، تحمل أيضًا إمكانية
التدخل بشكل خاص لأغراض الرقابة وتسهيل عمليات الرصد، ليضاف إلى ما تقوم به
السلطات، في عديد الدول، من تجميع الحامض النووي والبيانات البيولوجية، بما في ذلك
عينات الدم وبصمات الأصابع والتسجيلات الصوتية ومسح قزحية العين وغيرها من
المُعّرفات الفريدة – من مواطنيها، في عملية تضعهم تحت رادار السلطة بشكل شبه دائم.
ويتمثل أحد المخاوف الأمنية العامة في تقنية غرس الشرائح
عموما في أنها قد تسمح لأطراف ثالثة بالتنصت على اتصالات الجهاز أو تزويد بيانات
مشوهة. فمثل أي جهاز آخر، كما يُحذر باحثون في هذا المجال، تحتوي هذه الشرائح
الشخصية على ثغرات أمنية ويمكن اختراقها، حتى لو كانت مضمنة تحت الجلد.
وإذا كانت روايات الخيال العلمي هي أساس الكثير مما وفره
التقدم العلمي والتكنولوجيا لنا، فما الذي يمكن أن يحمله المستقبل؟ يجيب كتاب
الخيال العلمي ويوافقهم العلماء: إنه زرع الشريحة في الدماغ. وهناك أمثلة ناجحة
طبيا. فقد ساعدت إحداها مريضا أمريكيا على استعادة السيطرة على يده وأصابعه بعد
إصابته بالشلل من الرقبة إلى أسفل. وطور أستاذ من جنوب كاليفورنيا غرسة دماغية
للمساعدة في تحسين الذاكرة القصيرة والطويلة المدى. وبدأت شركته إجراء تجارب تبشر
بنتائج إيجابية مع مرضى الصرع. وأطلق إيلون ماسك، مالك شركة تسلا الأمريكية
العملاقة، شركة جديدة يأمل أن تعمل على «دمج الدماغ البشري مع الذكاء الاصطناعي»
بهدف علاج أمراض الدماغ الخطيرة.
هذا هو الجانب الإيجابي الذي سيقود إليه زرع الشرائح في
الدماغ. الملاحظ أن كل الأمثلة الإنسانية الناجحة حتى الآن تم تنفيذها في الغرب،
بينما تلقى العراق، مثلا، التطبيق القاتل للتطور العلمي ـ التكنولوجي فمن قذائف
اليورانيوم المنضب والفسفور الحارق إلى أجهزة استشعار الحركة المحمولة على
الطائرات، والأقمار الصناعية وكاشفات الحرارة وأجهزة تنصت الصور والاتصالات
بالإضافة إلى تقنية تصوير قزحية العين الذي استخدم لتحديد هوية الداخلين إلى مدينة
الفلوجة بعد تهديم 70 بالمئة منها.
فما الذي يحمله المستقبل إذن بصدد غرز الشرائح، ولدينا ما
يدل على أن تطبيقها سيميل أكثر نحو إحكام السيطرة على الأفراد والمجتمع في البلدان
العربية وبقية الدول الخاضعة لحكومات تحرم مواطنيها من حرية الاختيار؟ وهل سنكون
قادرين على التوعية بهذه المسارات الخطرة المُستهدفة لوجودنا بينما ننشغل بالنظر
الدائم إلى الوراء، لا لاستخلاص العبرة وتفادي الأخطاء ولكن، كما نرى في عراقنا
اليوم، لتكرار الأخطاء؟ إذا كان ما يُنشر على الفيسبوك إشارة، مهما كان حجمها،
تساعدنا على استشراف المستقبل، فإنه يُبلغنا رسالة مفادها أنه إذا ما استمر
تدهورنا الحالي، سيكون من الصعب رؤية ما سيحمله المستقبل لنا بتطوره العلمي
الهائل، إلا من منظور فئران التجارب.
(القدس
العربي)