طفلةً صغيرةً كانت .. عندما تذوَّقتْ طعمَ الأسْر لأول مرة..
رأتْ ذلك بأمِّ عينها وهي مازالت في الخامسةِ من عمرها أو أقلَّ من ذلك بقليل..
ذاتَ صباحٍ وكان والدُها يحلِق ذقنَه أمام المِرآة في بيتهم في ليبيا.. فجأة سقطتْ أدواتُ الحِلاقة من يد أبيها.. متزامنةً مع حَوقلَته وطرْقِه بيدِه على المَغسَلة وشَررُ الغضبِ يتطايرُ من عينَيه.. وصوتُ مذيعةِ البي بي سي ينطلقُ من المِذياعِ ويذيعُ خبراً مَفادُه.. "تمّ اعتقالُ فلانٍ الفلانيِّ وهدمُ بيتِه والحكمُ عليه بالسَّجن لعشَرةِ أعوامٍ".
لم يمرَّ وقتٌ طويلٌ حتى اكتشفَتْ تلك الطفلةُ أن المقصودَ بالخبَرِ هو شقيقُ والدِها!!
ظلَّتْ هذه الحادثةُ تتمركزُ في زواريبِ الذاكرةِ.. أحياناً تقوى وتتسيَّدُ وأحياناً تبهَتُ وتذوي.. لكنَّها لم تمُتْ .. بل ظلَّتْ تتجدَّدُ مع كل رسالةٍ يرسِلُها والدُها إلى أخيه في سجنِه عَبْرَ الصليبٍ الأحمر..
كان والدُها يقتطِعُ كلَّ شهرٍ ورقةً من دفاترها المدرسيةِ ويكتبُ هو في الصفحة الأولى وتكتبُ أمُّها في الصفحة الثانية.. أمّا هي وإخوتُها الأربعُ فكانوا يكتبون ما تجودُ به أقلامُ الطفولةِ المرتعِشةُ من أخبار.. يكتبون أسطرَ قليلةً لا تتجاوزُ الاثنَين أو الثلاثةَ.. يخبِرون عمَّهمُ الأسيرَ في سجونِ الاحتلالِ عن اشتياقهم لرؤيته وأحوالِ دراستهم وعلاماتِهم المدرسيةِ..
وظلَّ الحالُ على ذلك عشْرَ سنواتٍ.. يرسلُ الأبُ رسالةً كلَّ شهرٍ ويرسلُ العمُّ من أسرِه.. أساورَ ملوَّنةً بألوان العلمِ الفلسطينيِّ.. وقلائدَ وبراويزَ للأقصى مشغولةً بالخرزِ ومسابحَ زيتونيةً (مصنوعةً من نوى الزيتون).
هذه الرسائلُ جعلتْها على تماسٍّ شهريٍّ مباشرٍ مع الأسرى وأخبارٍهم وأحوالِهم وما يعانونه.. مع أنها وعائلتَها يعانون نوعاً آخرَ من الأسْر!!
فالتهجيرُ والشتاتُ والمنفى والغربةُ هي أشكالٌ أخرى للأسْر.. وبذلك يكون الشعبُ الفلسطينيُّ في الداخل والخارج قد ذاقَ ألواناً شتّى من ألمِ السجن!!
ذاقتْ طعمَ الأسْر.. عندما كانت تحاصرُها رفيقاتُها في الصفِّ بأسئلة..
ـ مادام عندكم مِيْكْلَه وِشْرَاب شِنُو جاي إِدِّيْري إِهِنْيْ؟
ـ لماذا بعتمْ بلادكم؟
يُولدُ مع رائحةِ السؤالِ ألفُ سؤالٍ مُوارِبٍ.. حبالٌ من القهْر تلُفُّ عنقَها!! فزِعَ الكَفُّ الوحيدةُ وهي تبحثُ عن يدٍ تنتشِلُها في الرمَق الأخير..
وظلت هذه الأسئلةُ تحاصرُ الطفولةَ المنفيةَ وتؤلمُها وتنخَرُ عظامَها كما ينخُر السجنُ عظامَ الأسرى!
بعد عشْر سنواتٍ.. التقتِ الطفلةُ بعمِّها الأسير.. اللقاءُ مع الأسيرِ البعيدِ القريبِ كان أمنيةً لطالما انتظرتُها.. كيف لا وفي كِنانتِها الكثيرُ من الأسئلةِ التي تفتَح الجراح...
ففي يومٍ من أيام شهرٍ كانون الثاني.. وهذه المَرةُ في مدينة الرياض.. فقد امتلأ بيتُ الطفلةِ عن بَكْرةِ أبيه بالمهنِّئين الذين أتَوا لاستقبال الأسير المحرَّرِ .. بعدما أدَّى مناسكَ العمرةِ وعرَّج على بيتِ أخيه.. بعدما انفضَّ الجمعُ .. أسرعتْ لعمِّها.. تستضيءُ بكلماتِه.. وعرفتْ أن حكايةَ أسيرٍ واحدٍ.. هي حكايةُ كلِّ الأسرى.. فكلُّ حكايةٍ تختزِلُ آلافَ الحكايات والأوجاع..
وهكذا قُدِّر لها وخلالَ جلساتٍ سريعةٍ.. أن تتعرَّفَ على تفاصيلَ مدهشةٍ ومؤلمةٍ في آن..
ليالي التحقيقِ القاسيةِ والتي استمرَّت لمدة تسعينَ يومًا.. حُرِم فيها من الاستحمام وقصِّ أظافره وحلقِ شعرِه لدرجةِ أنَّ الأوساخَ كانت تنزلُ (فتائلَ) من جسده.. وعندما تمّ نقلُه بالبُوسطة من مركزِ تحقيقِ "بيت تكفا" إلى مركز تحقيقِ المسكوبيّة .. كان يقفُ بجانب الضابطِ الإسرائيليِّ ابنُه الذي صرخَ برُعبٍ عندما رأى الأسير!! عندها أدرك العمُّ أن منظرَه مُرعبٌ ومُخيفٌ .. يشبه أهلَ الكهفِ لدرجة أنه أرعبَ طفلٌ الاحتلالَ!!
الشبْحُ والتعذيبُ على كرسيٍّ مثبَّتٍ بأوتادٍ من حديدٍ إلى الأرض مع خلفيةٍ مقوَّسةٍ إلى الداخل بحيثُ يصبحُ ظهرُه على شكل قوس مشدودٍ..
الكيسُ النتِنُ الكريهُ الرائحةِ والذي دُهِن بالقاذورات.. التعذيبُ بعدم النوم وتسليطُ الضوءِ على عينه على مدار الأربع والعشرين ساعةً.. الاقترابُ من حافَّة الانهيار.. الأمرُ كما يقول يشبه جنونَ قِطةٍ حبيسةٍ داخلَ كيسِ خيشٍ.. تموء وتموء وفي كل مرة تخمش جزءاً من الكيس.. تفتته فيغدو مِزَقاً! وهكذا يتفتَّت الجسدُ..
المحقِّقُ ميخا الذي غازله بسيجارةٍ ليستخرجَ منه اعترافاً ما.. وهو الشّرِه في التدخين.. وعندما أدرك ذلك قال للمحقق إنه لا يدخن!! فاستغرب المحققُ وقال له:
ـ هيْ باكيتُ الدخانِ في جيبك!
أمسكَه وفتَّته بيديه وأقسم ألا يدخنَ بعد اليوم.. حتى لا يعتقدوا أن الدخان وسيلةُ ضغطٍ عليه..
ما كاد يحلفُ اليمينَ حتى كانت يدا (ميخا) وبكل ما فيهما من قوة تهوي على وجهه.. تعصرُه عصْراً حتى سال الدمُ غزيراً ووقعت أسنانه الأماميةُ بِلكْمة واحدة!
حكاياتُ العزْلِ الانفراديِّ والعصافيرِ والجواسيسِ وصداقتِه مع الصراصيرِ والإضرابات.. دخولِه إلى السجن بـ 32 سنًّا وخروجِه بطقمِ أسنانٍ وخسارتِه لـ 20 كيلو من وزنه.. كلها حكايات جمعتها في دفترها الصغير..
وكم أوجعَها ذلك المشهدُ الذي جمع عمَّها بجَدتِها.. فبعدَ إعلانِ الحكمِ على عمِّها.. أتى به الاحتلالُ إلى القرية معصوبَ العينين.. مقيدَ اليدين ليعيدَ تمثيلَ العمليةِ التي قام بها.. ولم يبقَ أحدٌ إلا وجاءَ ليودِّعَ الأسيرَ.. يومَها اخترقتْ أمُّه الجُموعَ وأبعدتْ الضابطَ وأزالت العَصْبةَ عن عينيه وقالت له بصوتٍ واثقٍ:
ـ ولا يْهمَّك يمّا.. السجن للرجال.. إوعك تكون ندمان..
هذي الأرض بدها رجال زيك يا حبيب أمك..
وتراكمتْ الحكاياتُ والأسئلةُ التي كانت بلا إجاباتٍ لدرجةٍ أثقلتْ كاهِلَ الطفلةِ وظلَّتْ تحملُها إلى أنْ تخفَّفتْ منها بكتابةِ روايتِها الأولى والتي تحكي فيها حكايةَ مَنفى والدِها وأسْرَ عمِّها، وأجابت على كلِّ الأسئلةِ العالِقة .. وضعتْ كلَّ ذلك في روايةٍ أسمَتْها (ربِّ إنِّي وضعتُها أُنثى) وأتبعتها برواية أخرى عن الأسرى وزوجاتهم ( باب العمود)..
مشهدٌ قصيرٌ.. من مشاهِدَ زاخِرةٍ عديدةٍ ضمَّنتها رواياتِها فلم تخلُ رواياتُها اللاحِقةُ من حكاياتِ الأسْرى..
ولم تُكمِلْ بعدُ..
فكتبتْ وكتبتْ
يا ابنَ التينِ والزيتونِ..
ملّتْ القُضبانُ من التأوُّهِ والحنينِ ولم تمَلّ..
لم تمَلّ من قافيةِ الحنينِ .. ورنينِ الأصفادِ والقيودِ
ألن تكُفَّ عن عِشقِها؟
وترتيلِ اسمِها؟
سألتُك؟
فإذا نايُ الصبرِ يجيبُ..
وكيف أكُفُّ عن عِشقِها؟! وموسى قبلُ قد سألَ اللهَ أن يدنيَه من الأرضِ المقدسةِ رميَةَ حجرٍ!!
وأحمدُ لمّا وطِئتْها أقدامُه صلَّى وركَعَ!!
وهل يمَلُّ الأنبياءُ من ترديدِ البِشارة؟!
إن ولَّى زمَنُ الأنبياء .. يا ابن أم
فهذا زمن القابضين على الجمر..
ومازلتُ عالقة بمشاعر تلك الطفلة التي كنتها في يوم ما!!