في حياة الشعوب والأمم هناك محطات تصبح أحداثها روايات وأساطير في سرديتها التاريخية، وجائحة الكورونا وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية هي واحدة من بين هذه المحطات التي ستُخلِّدها الذاكرة الفلسطينية بكل ما لها وما عليها: من وقف معنا ومن خذلنا؟ من تقاعس وهجر ومن ركب المطايا وجبر؟ من تنكر خسة ومن مدَّ يد العون وكان لغوثه بصمة وأثر؟! وقفات سيتذكرها الكبار والصغار كشهادات تتجمل بها صفحات التاريخ.
ويتذكر العرب في المواقف الصعبة ذلك البيت الشعري الخالد للشاعر أبو فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر"
وهو بيت يشير إلى أهمية الشخص وقيمة مواقفه أوقات الشدة، حيث يكون لوجوده معنى جوهريا. وهذا ما ينطبق على علاقتنا نحن الفلسطينيين بدولة قطر، التي أكدت بالدليل وقوفها إلى جانب الفلسطينيين في مختلف المحطات، لا سيما في ظل هذه الظروف الصعبة التي ضاعف من قتامتها هذه الأيام تفشي وباء كورونا، الذي أصبح تهديداً عالمياً لم تسلم من مخاطره حواضر الدول العظمى.
في مثل هذه الأجواء المقلقة عالمياً، جاءت الخطوة القطرية بتقديم منحة مالية قدرها 150 مليون دولار لكي يتدبر بها الفلسطينيون أمرهم، وهي بالتأكيد خطوة إنسانية سيكون لها بالغ الأثر في إسناد الشعب الفلسطيني ودعمه ليس في مقاومة جائحة أعجزت دولا غربية وشرقية غنية ومتقدمة، وإنما أيضا في مواجهة مؤامرة دولية لتركيع الشعب الفلسطيني ودفعه إلى الاستسلام والتوقيع على صفقة ظالمة ومرفوضة من الكل.
شكرا قطر قيادة وشعبا على هذا الموقف النبيل تجاه الشعب الفلسطيني، الذي يعيش ويلات الاحتلال وجرائمه، ومعاناة حصار البعيد والقريب.. شكرا قطر لأنك أكدت مرة أخرى أن فلسطين تبقى فوق كل الخلافات.
والحقيقة أن الخطوة التي أقدم عليها أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بمساعدة الشعب الفلسطيني لم تكن مستغربة ولا مفاجئة، فقد سبق لوالده الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وعقيلته الشيخة موزة أن زار قطاع غزة في 23 تشرين أول (أكتوبر) 2012 ودفعت قطر وقتها منحة بمبلغ 450 مليون دولار لإعادة إعمار البنية التحتية التي دمرها عدوان بشع ووحشي نفذه الاحتلال..
على خلاف دول عربية كثيرة، حافظت الدوحة على موقف متوازن ومحايد إزاء الفلسطينيين، ولم تكن جزءا من حصار ظالم فرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ العام 2007
لم تقتصر الجهود القطرية تجاه غزة وفلسطين فقط في الجانب المالي الذي طال كل مناحي الحياة بما في ذلك تغطية ميزانية وكالة الأونروا الراعية لشؤون اللاجئين في المخيمات داخل الوطن وفي الشتات، بل قادت الدوحة جهوداً سياسية لرأب الصدع بين الأشقاء الفلسطينيين، ونجحت في جمع طرفي الأزمة لديها، إلا أن سياسة الاستقطاب والمحاور، واستشراء الصراعات القائمة في الساحة العربية، حالت دون إتمام ما اجتهدت قطر وأميرها في تحقيقه.
لقد ظلت قبلة الفلسطيين منذ نكبة العام 1948 باتجاه عمقهم العربي والإسلامي، حيث كان اللاجئون والثوار من رجالات المقاومة يتلقون الكثير من أشكال الدعم والنصرة والتأييد، حتى ردد شاعرهم أبياتا شهيرة:
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
وتشكلت هناك قناعة بأن القدس والأقصى هما وديعة الأمة الإسلامية وقناة التواصل بينها وبين الأرض التي باركها الله للعالمين. ولذلك، ظلت كلمات نبي الأمة تحدد وجهة البوصلة واتجاهاتها بمقولته الخالدة: "فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ".
وعلى خلاف دول عربية كثيرة، حافظت الدوحة على موقف متوازن ومحايد إزاء الفلسطينيين، ولم تكن جزءا من حصار ظالم فرضه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ العام 2007، ودفع الفلسطينيون ثمنه باهظا ليس من قوتهم فحسب، بل ومن أرواحهم في أكثر من عدوان غاشم قاده الاحتلال لاستئصال المقاومة وعاد خائبا..
أقول هذا في شكر القيادة القطرية على إسنادها للشعب الفلسطيني، وأنا مقتنع تمام القناعة بأن الفلسطينيين الذين يواجهون احتلالا شرسا ومدعوما للأسف الشديد من القوة العظى في العالم الولايات المتحدة، هم أصحاب حق وأن قضيتهم عادلة، وأن من ناصرهم إنما يناصر الحق والعدل وفوق ذلك الشرعية الدولية.