نشرت
مجلة "فورين أفيرز" مقالا للدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هاس قال فيه إننا
نمر في أزمة عظيمة بكل المقاييس ولذلك من الطبيعي أن نفترض أنها ستشكل نقطة تحول في
التاريخ المعاصر.
ومنذ ظهور مرض كوفيد–19 بسبب فيروس كورونا، اختلف
المحللون حول الشكل الذي ستترك الجائحة العالم عليه. ولكن معظمهم يقولون بأن العالم
الذي سندخله مختلف تماما عن العالم الذي كان موجودا سابقا.
ويعتقد
البعض أن الجائحة ستجلب نظاما عالميا جديدا تقوده الصين، وآخرون يعتقدون أنها ستكون
سببا في وفاة القيادة الصينية، والبعض يعتقد أنها ستكون نهاية العولمة، وآخرون يأملون
أن تكون بداية عصر تعاون عالمي.
وكذلك هناك من يتوقع أن تزيد القومية وتقوض التجارة
الحرة وتؤدي إلى تغيير الأنظمة في عدة بلدان أو جميع ما ذكر.
ولكن لا يتوقع أن يكون العالم بعد الجائحة مختلفا بشكل كبير عنه قبلها. فلن يكون أثر كوفيد-19 هو تغيير اتجاه تاريخ العالم بقدر ما سيسرع من وتيرة هذا التاريخ.
اقرأ أيضا: كورونا يرفع معدل الاستثمار في الذهب لأعلى مستوى بالتاريخ
فقد
أبرزت الجائحة وردة الفعل عليها وأكدت مميزات السياسة الجغرافية اليوم، ولذلك فإن هذه
الأزمة تعد بأن تكون أقل منها نقطة تحول من كونها محطة على الطريق الطويل الذي يسير
العالم نحوه على مدى العقود القليلة الماضية.
ومن
المبكر متى ستنتهي الأزمة. خلال ستة أشهر، 12 شهرا أو 18 شهرا، فإن التوقيت سيعتمد
على مدى التزام الناس بتعليمات التباعد الاجتماعي والتوصيات الصحية وعلى وجود الفحص
السريع والدقيق وغير المكلف والأدوية المضادة للفيروس والتطعيم ضده ومدى المساعدة الاقتصادية
التي تقدم للأشخاص والشركات.
ولكن
العالم الذي سيخرج بعد الأزمة يمكن التعرف عليه. تضاؤل القيادة الأمريكية وترنح التعاون
العالمي، والخلافات بين القوى العظمى: وكل هذه كانت موجودة قبل كوفيد -19، ويتوقع أن
تكون أكثر بروزا بعده.
وأحد
مميزات الأزمة الحالية هو غياب القيادة الأمريكية، فلم تحشد أمريكا العالم لمكافحة
المرض ولا الآثار الاقتصادية السلبية له. ولم تحشد أمريكا العالم ليحدوا حدوها في مكافحة
المرض. فالدول الأخرى تقوم بأفضل ما تستطيع لتجاوز المحنة أو يطلبون العون من بلدان
تجاوزت ذروة الإصابات مثل الصين للمساعدة.
ولكن
إن كان العالم بعد الأزمة، عالم يتناقص فيه نفوذ أمريكا، فإن هذا التوجه بالكاد أمر
جديد، فقد كان واضحا على مدى ما لا يقل عن عقد من الزمان.
وهذا يعود إلى درجة ما إلى ما وصفه فريد زكريا بأنه "نهضة البقية" (وبالذات الصين)، والذي جلب تراجعا لتميز أمريكا النسبي بالرغم من بقاء اقتصادها وجيشها في حالة نمو. ولكن الأكثر من هذا هو أن السبب يعود لتراجع الإرادة الأمريكية وليس تراجع طاقتها.
اقرأ أيضا: كيف انتهت 5 من أسوأ الأوبئة تاريخيا؟
أشرف
الرئيس أوباما على الانسحاب من كل من أفغانستان والشرق الأوسط بينما قام ترامب في معظم
الأحيان بتوظيف القوة الاقتصادية في مواجهته للأعداء. ولكنه أنهى تقريبا الوجود الأمريكي
في سوريا ويسعى لفعل الشيء نفسه في أفغانستان وأكثر من ذلك فقد أظهر اهتماما قليلا بالمحافظة
على التحالفات أو الحفاظ على الدور الأمريكي الرائد في التعامل مع القضايا العابرة
للحدود.
وكان
هذا التغير جزءا كبيرا من رسالة ترامب الانتخابية "أمريكا أولا"، والتي وعدت
أن تكون أمريكا أقوى وأكثر ثراء إن هي قللت من تدخلاتها الخارجية وركزت طاقتها على
القضايا المحلية. وينطوي هذا ضمنيا على أن ما كانت أمريكا تفعله في أنحاء العالم كان
تبذيرا وغير ضروري ولا علاقة له بالرفاه المحلي.
وبالنسبة
لكثير من الأمريكان فإن الجائحة ستكرس هذا المعنى بالرغم من أن العكس يجب أن يكون هو
الصحيح، حيث يجب أن تبرز الجائحة كيف يمكن للرفاه المحلي أن يتأثر من بقية العالم.
كما
أن هناك تداعيات للخيارات السياسية الأمريكية، هناك تداعيات لقوة النموذج الأمريكي.
فقبل كوفيد-19 بفترة طويلة كان هناك تراجع لجاذبية النموذج الأمريكي. وذلك بسبب الجمود
السياسي، وعنف الأسلحة النارية، وسوء الإدارة التي أدت إلى الأزمة المالية عام
2008 وآفة المخدرات وغير ذلك مما يجعل أمريكا لا تبدوا نموذجا يحتذى لكثير من الناس.
وتجاوب الحكومة الفيدرالية البطيء تجاه الجائحة سيكرس وجهة النظر السائدة بأن أمريكا
ضلت الطريق.
والجائحة
التي تبدأ في بلد واحد ثم تنتشر بسرعة كبيرة في أنحاء العالم هي تحد عالمي. وهي دليل
آخر على أن العولمة واقع وليس خيار. ودمرت الجائحة البلدان المنفتحة والمغلقة والغنية
والفقيرة في الشرق والغرب. وما هو غائب هو أي مؤشر على ردة فعل عالمية لها معنى.
ولكن
بينما جعلت الجائحة هذا الواقع واضحا، كانت التوجهات المسببة لذلك موجودة قبلها ولا
يتوقع أن يتغير شيء من هذا بعد الجائحة.
وكانت
المواجهة الرئيسية للجائحة على مستويات قومية أو حتى على مستوى المحافظات، بدلا من
أن تكون على مستوى العالم. وعندما تنتهي الأزمة سيكون التركيز على التعافي القومي.
وفي هذا السياق من الصعب رؤية أي مجال لمعالجة التغيرات
المناخية وخاصة إن بقي النظر إليها على أنها مشكلة بعيد المدى والتركيز بدلا منها على
المشاكل المباشرة.
وأحد
أسباب التشاؤم هي أن التعاون بين أعظم قوتين في العالم ضروري لمعالجة التحديات العالمية،
ولكن العلاقات الأمريكية الصينية تتراجع على مدى سنوات. والجائحة فاقمت من الاحتكاك
بين البلدين.
ففي واشنطن يعتبر العديد الحكومة الصينية مسؤولة
عن العدوى بما في ذلك فشلها في فرض إغلاق مباشر على ووهان، حيث بدأ تفشي الفيروس والسماح
للآلاف بالمغادرة ونشر الفيروس إلى أماكن أبعد.
أما
الصين فتحاول أن تصور نفسها بأنها تقدم نموذجا ناجحا للتعامل مع الجائحة، واستخدام
هذه الفرصة لتوسيع نفوذها في العالم سيزيد من عدوانية أمريكا.
اقرأ أيضا: يا شعوب كورونا استعدوا لمرحلة جديدة في السياسة والاقتصاد
وفي نفس الوقت، لا شيء في الأزمة الحالية سيجعل الصين
تغير رأيها بأن التواجد الأمريكي في آسيا ليس إلا شذوذا تاريخيا ولن يقلل من استيائها
من السياسة الأمريكية في عدد من القضايا مثل التجارة وحقوق الإنسان وتايوان.
كما
أن فكرة "فصل الاقتصادين" اكتسبت زخما كبيرا قبل الجائحة، بدافع الخوف داخل
أمريكا بأنها أصبحت تعتمد كثيرا في حاجتها للسلع الأساسية على عدو محتمل، وأنها معرضة
للتجسس وسرقة الحقوق الفكرية من قبل الصين.
والدافع
لفصل الاقتصادين سيزيد بسبب الجائحة. وسيكون هناك قلق أكبر حول سلاسل الإمداد مما سيحفز
التصنيع المحلي. وستتعافى التجارة العالمية جزئيا ولكن سيدار المزيد منها عن طريق الحكومات
وليس السوق.
كما
أن المقاومة الموجودة في معظم العالم المتقدم لقبول أعداد كبيرة من المهاجرين وهو توجه
كان واضحا خلال الخمس سنوات الماضية ستزيد بعد الجائحة. وسيكون ذلك خشية جلب أمراض
جديدة جزئيا وبسبب أن المجتمعات التي ترتفع فيها البطالة تصبح أقل تحملا لقبول الأجانب.
وهذا التوجه سيزيد بالرغم من توقع استمرار الزيادة في أعداد اللاجئين والنازحين.
وسوف
تكون النتيجة معاناة إنسانية واسعة وعبء أكبر على الدول التي لا تمتلك المقومات. وضعف
الدول كان مشكلة عالمية لعقود. ولكن العبء الاقتصادي للجائحة سيتسبب بالمزيد من الدول
الضعيفة الفاشلة.
ومن
شبه المؤكد أن هذا العبء سيفاقم مشكلة الديون المتراكمة: فالدين العام والخاص في كثير
من أنحاء العالم وصل إلى مستويات غير مسبوقة، والحاجة لن تغطي الدولة تكلفة الرعاية
الصحية وتدعم العاطلين عن العمل سوف يضاعف المديونية.
وستواجه
الدول النامية بالذات متطلبات كبيرة لا تستطيع تحملها ويبقى أن نرى إن كانت الدول المتقدمة
ستقوم بمد يد العون لها أم لا، وخاصة اذا ما اعتبرنا الضغط الذي تواجهه تلك البلدان
داخليا. وهناك قابلية حقيقية لصدمات بعدية، في الهند والبرازيل والمكسيك وفي أنحاء
افريقيا، يمكنها أن تؤثر على التعافي العالمي.
إن انتشار
كوفيد -19 خلال أوروبا أبرز خسارة زخم المشروع الأوروبي. فقد تجاوبت الدول الأوروبية
مع الجائحة وتداعيتها الاقتصادية مفردة. ولكن عملية الدمج الأوروبي فقد فقدت زخمها
قبل هذه الأزمة بزمن طويل، وكما أثبتت عملية بريكسيت بشكل واضح.
والسؤال الرئيسي بعد الجائحة هو كم سيبقى تأثير بروكسل
على عواصم الاتحاد الأوروبي، حيث تتساءل الدول إن كانت السيطرة على الحدود قد قللت
من انتشار الفيروس.
وغالبا
ما ستساعد الجائحة على تقوية الركود الديمقراطي الذي كان واضحا على مدى الخمسة عشر
عاما الماضية. وسيكون هناك دعوات لدور حكومي أكبر في المجتمعات، سواء كان ذلك في الحد
من حركة السكان أو تقديم المساعدة الاقتصادية. وسيتم التعامل مع الحريات الشخصية على
أنها أحد ضحايا الحرب.
وفي
نفس الوقت فإن التهديدات من الدول اللاليبرالية مثل روسيا وكوريا الشمالية وايران ستبقى
موجودة بعد انتهاء الجائحة، وفي الواقع قد تكون تلك التهديدات زادت بينما كانت الأنظار
ملتفتة إلى ناحية أخرى.
نشرت
كتابا بعنوان "عالم في حالة فوضى" قبل ثلاثة أعوام، وصف الكتاب تضاريس عالم
يتزايد فيه التنافس بين القوى العظمى ويزيد انتشار الأسلحة النووية وتزيد الدول الضعيفة
ويزيد تتدفق اللاجئين وتزيد التوجهات القومية ويتضاءل فيه الدور الأمريكي. والذي سيتغير
نتيجة الجائحة ليس حقيقة الفوضى ولكن مداها.
والوضع
المثالي هو أن تتسبب الأزمة بالتزام متجدد لبناء نظام عالمي أكثر متانة، كما حصل بعد
الحرب العالمية الثانية حيث أدت إلى ترتيبات شجعت على السلام والازدهار والديمقراطية
لحوالي ثلاثة أرباع القرن. مثل هذا النظام سيتضمن تعاونا أكبر لمراقبة تفشي الأمراض
والتعامل مع تداعياتها، بالإضافة إلى استعداد أكبر للتعامل مع التغيرات المناخية ووضع
قواعد للمجال السيبراني ومساعدة اللاجئين ومعالجة انتشار الإرهاب.
ولكن
ليس هناك أسباب تدعو لتصديق أن الماضي سيعيد نفسه بعد آخر كارثة عالمية. فالعالم اليوم
ببساطة ليس قابل للتشكيل. فالقوة موزعة في أيد أكثر من أي وقت مضى. والاجماع في الغالب
غير موجود. كما تفوقت التكنولوجيا الجديدة والتحديات على الإمكانية الجمعية لتحديها.
وليس هناك بلد واحد يتمتع بالمكانة التي تمتعت بها أمريكا عام 1945.
والأهم
من ذلك هو أن أمريكا لا تميل حاليا للقيام بدور ريادي دولي، نتيجة الإرهاق الذي تسببت
به حربين طويلتين في أفغانستان والعراق والحاجات المتزايدة محليا.
وحتى
لو فاز شخص "تقليدي" النظرة للسياسة الخارجية مثل نائب الرئيس السابق جوزيف
بايدين في انتخابات تشرين ثاني/ نوفمبر، فإن مقاومة الكونغرس والشعب ستمنع من دور أمريكي
واسع في العالم. وليس هناك أي بلد في العالم لا الصين ولا غيرها مستعد لملأ الفراغ
الذي تركته أمريكا.
بعد
الحرب العالمية الثانية، كانت الحاجة لمواجهة التهديد الشيوعي هو ما دفع الشعب الأمريكي
إلى دعم بلدهم لتأخذ على عاتقها دور القيادة في العالم. ويعتقد بعض المحللين بأن التحذير
من تهديد الصين قد يدفع إلى نتيجة مشابهة اليوم، ولكن سياسة خارجية معادية للصين هي
بالكاد مناسبة للتعامل مع التحديات التي يواجهها العالم اليوم.
ولذلك فإن السابقة الأفضل التي يقاس عليها هي بعد
الحرب العالمية الأولى وليس الثانية، فترة من تراجع التدخل الأمريكي في العالم وفوضى
عالمية متزايدة.
NYT: هذه مخاطر الرقابة الرقمية لمكافحة كورونا على الخصوصية
WP: لماذا زاد ترامب من اتهامه للصين بنشر فيروس كورونا؟
فورين أفيرز: هل يقضي فيروس كورونا المستجد على العولمة؟