أضحت مقولة (الرواية ابنة المدن الكبرى) محط شك ومراجعة منذ عدة عقود مضت، بعد أن تخلّعت أوتادها على يد روائيين قادمين من الأرياف والقرى النائية ومن الصحاري؛ كتبوا عن عوالم الفلّاحين والبدو والأطراف والمخيمات.
روائيون تمرّدوا على المسار المرسوم بإتقان لمسيرة الرواية وتوجهاتها، فكتب خيري شلبي عن الأرياف وعوالمها، وحينما تحوّل للكتابة عن المدينة كتب عن العوالم المهمشة فيها التي تعيش في القاع المصري. وكتب إبراهيم الكوني عن الصحراء وقوانينها عن الزمن الدائري الذي يكرر علينا حياة الآباء ويلعن من يخرق ناموسها.
على المستوى المحلي/ الأردني كانت المدن الرئيسة (عمّان/ إربد/ الزرقاء) هي حاضنة الرواية الأردنية، أما الكتّاب من أبناء المدن المهمّشة والأرياف فلجأوا للكتابة عن هذه المدن الرئيسة (عمّان تحديدا) كمحاولة لإثبات الذات أو لأسباب إبداعية محضة.
اقرأ أيضا: رواية "حائط الصفصاف".. من صرخة الولادة إلى شهقة الموت
وفي حين ظلّت المدن الصغيرة بلا رواية تقدم عالمها في نطاق المكان والزمان؛ أي في النطاق الذي يقبض فيه الكاتب على شيء من روح المكان ويعيد إنتاجه في إطار روائي يحمل في طياته خصائص البنيان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لهذا المكان ضمن حيّز من الزمن.
ولكن هناك استثناءات قليلة في هذه الحالة من مثل روايات سليمان القوابعة عن عوالم الطفيلة وتاريخها الاجتماعي.
أمّا مدينة جرش فحسب حدود قراءاتي –ربما أكون مخطئًا- فإن رواية "دموع فينيس" لعلي طه النوباني هي أول رواية جرشية من حيث اتخاذها مدينة جرش مسرحا لأحداثها وتعبيرها عن مشاكل الإنسان الجرشي.
أيضًا من حيث محاولتها الجادة الاشتباك مع الإيقاع التاريخي للمكان ضمن زمنين متباعدين: الأول هو الزمن الروماني من خلال تناول حياة أسرة رومانية تتعرّض للاضطهاد والشقاء والاستعباد من قبل السلطة المستبدة وتآمراتها، أما الثاني فهو الزمن الحديث الذي احتل القسم الأكبر من الرواية من خلال تسليط الضوء على حياة أسرة البطل وهيب المليئة بالشقاء اليومي وبالصراع المرير مع الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وتلتقي الأسرتان في خضوعهما لهذا الاستلاب والاضطهاد؛ فإن كان الاضطهاد الروماني سياسيا واضح المعالم، فإن الاضطهاد في الزمن الحديث يشكل منظومة كاملة على جميع مستويات حياة المواطن الذي يضطهد في البيت والشارع والعمل، ومن قبل النظام والمعارض والمتدين والإنسان العادي. إنه الاضطهاد ذاته تتبدّل أشكال تحققه وتلبسه للإنسان.
رواية النوباني تصنف في باب الرواية التكوينية (رواية الأفكار) التي ترتكز على تجربة ومعايشة مريرتين:
تجربة قاسية مع اليسار الأردني وأحزابه الهزيلة، يعري من خلالها الكاتب ممارسات اليسار وتناقضاته ويوجه له نقدًا حادًا أساسه روح ساخرة وخبرة اكتسبها إبّان انتمائه الحزبي. فلدينا الحزبي الذي أصبح مسؤولا وصل إلى منصبه بمعونة العشيرة، فقطع اتصالاته بالحزب، ولدينا حامد الانتهازي، وهناك اليساري المخبر، وأيضًا اليساري المتعالي صاحب النظرة البرجوازية.
لذلك نجد النوباني يدفع ببطله إلى الخروج من الحزب بطريقة هازئة به وبقيمه الصاخبة: "وبعد أسبوع التقى بأحد الرفاق، فلم يجد من جنس الورق سوى قشرة علبة علكة من الكرتون القاتم؛ كتب عليها رسالة لأبي نادر يبلغه فيها باستقالته النهائية من الحزب". فالبطل يرفض أن يكون في حلقة تجتمع خيوطها في بؤرة الأنانية المفرطة المغلّفة بالشعارات الرنانة.
أمّا المعايشة التي ترتكز عليها الرواية فهي معايشة لأشكال التدين السلبي وروح التطرّف التي لا تنفك تغزو مجتمعنا وتكاد أن تدمره. فيتعرّض لهذه الظاهرة محاولا تمرير رسائل عن الدور الذي لعبته في تأخير المجتمع وخدمة مطامع الدول الكبرى وسياساتها. فيتناول أنشطة هذه الجماعات في مدينة جرش حيث فُتح المجال لأنصارهم أن يمارسوا أنشطتهم؛ فهذا سعيد -مثال الشخصية الطُفيلية- ينظّم لقاءات بين زوجة عبدالله عزّام وأهالي جرش لجمع التبرعات للمجاهدين العرب في أفغانستان؛ فيتبرع الناس البسطاء بأموالهم والنساء بمصاغهن في سبيل دعم الجهاد ضد الشيوعيين.
يسلّط النوباني الأضواء على هذه الظاهرة بروح ناقدة وساخرة، وفي الوقت نفسه واعية بالتحوّلات التي طرأت على خطاب هذه الفئة انطلاقًا من أفغانستان إلى سوريا. ففي أفغانستان كان الناس يتحدثون عن كرامات المجاهدين والأفعال الخارقة التي تنسب لهم؛ فهذا سعيد يتحدث في الرواية عن بطولاتهم: (يمسك المجاهد بحفنة من التراب في يده، ويقول الله أكبر، ثم يقذفها على الدبابة أو الطائرة فتنفجر، إنها كرامات المجاهدين الذي نذروا أنفسهم لله). غير أنّ هذه الأفعال والخوارق ستختفي من قاموس المجاهدين والمتشددين في الفترة التي عُرفت بالربيع العربي، ويعزو النوباني اختفاء هذه الكرامات في حرب سوريا بسبب تطور تقنيات التصوير، فقد (قضى انتشار الكاميرا على معجزات المجاهدين، ولم يبق منها سوى مشاهد الذبح والتنكيل).
وإلى جانب فانتازيا اليسار وتناقضاته، وممارسات المتطرفين والإرهابيين، يتناول النوباني الألم الإنساني الذي يتجسّد في شخصيات الرواية عبر المعاناة والمرض والفقر والعجز. وإن كان الألم والشقاء ثيمتين مشتركتين تتمظهران في غالبية شخصيات الرواية فإن هاتين الثيمتين تتجسدان أكثر ما تتجسدان في شخصية الطفلة سناء.
وستكون هذه الطفلة التي ستفقد قدرتها على المشي، لتطل على العالم من خلال نافذة الغرفة بدايةً ومن خلال نافذة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لاحقًا، بمثابة حجر سينمار الذي سيؤدي انهياره إلى انهيار البناء كاملا، فنجد النوباني بعد انتحارها يدفع بشخصياته التاريخية والمعاصرة لتلاقي مصائرها المأساوية أو لتبقى أسيرةً في دائرة البؤس.
ما يميّز رواية "دموع فينيس" ويجعلها ترتفع عن الخطاب المباشر هو لغة الرواية الرشيقة القادرة على السرد بسلاسة وإمتاع، والمبنية على التجريب غير المغالي؛ فيمر الكاتب بين الأحداث والشخصيات ملتقطًا أبرز تفاصيلها، كما أنه يترك المجال –حينما يستدعي الأمر- متاحًا لبعض الأصوات لتعبر عن مكنوناتها، ولا ينسى صوت جرش الرومانية المليء بعبق التاريخ دون أن يشعرنا بالتشتت أو الملل، ودون أن تتملّك القارئ الرغبة في ترك الرواية.
ويمكن لنا أن نربط بين طريقة بناء هذه الرواية التي تصنف كرواية تكوينية وبين مدينة جرش من زاوية الاعتناء بالتأثيث الروائي، فإذا كانت الروايات الكلاسيكية تقوم على التأثيث الدقيق لعوالمها وتسعى إلى تصوير هذه العوالم بكل تفاصيلها في أقصى درجات التنظيم والضبط فإن هذه هي سمة المدن الكبرى التي ولدت فيها هذه الروايات.
أما مدينة جرش –وهذا هو شأن سائر المدن المهمّشة- فإنها تخلو من هذا التأثيث الخاضع لعقل منظّم يتحكم في كل كبيرة وصغيرة فيها، بل هي منفلتة ومتمردة على هذا العقل، تعيش حياتها كما يمكن أن تعاش وليس كما يجب أن تعاش. لذلك فإن الرواية تحمل سمات الرواية الجديدة التي تنحاز لما ترغب أن تقوله لا لما يقبل به النقد أن يُقال.
رواية "اسمي سلمى" والمقولات الجاهزة
رواية "حائط الصفصاف".. من صرخة الولادة إلى شهقة الموت
"مخلفات الزوابع الأخيرة".. إلى متى يدفع الفقراء الثمن؟