عاشت الجزائر، أول أيامها، قبل عام من هذا التاريخ، خارج حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي امتد لعشرين سنة، لكن هذا المنعرج التاريخي، لم ينجح في إقناع كثير من الجزائريين بأن النظام تغيّر.
لم يكن أكثر المتشائمين من أنصار عبد العزيز بوتفليقة يتوقعون نهايته بتلك الطريقة، فالرجل بنى اعتقادا طيلة سنوات حكمه بأن لديه شعبية ستجعل الجزائريين يتمسكون ببقائه مهما كانت الظروف.
لكن حبل القطيعة بين بوتفليقة وشعبه، كان يتهالك بسرعة داخل الجزائر العميقة خصوصا بعد مرضه، بعيدا عن مرأى السلطة والسياسيين والإعلام، إلى أن وصل الوضع إلى نقطة اللارجوع يوم 22 شباط/فبراير.
ففي ذلك اليوم، خرج ملايين الجزائريين، في كل مدينة وبلدة، بشعارات واحدة، تدعو لإسقاط الرئيس المريض الذي كان متشبثا بالكرسي ويطمع في أن يُكرمه الجزائريون بالصمت عن ولاية خامسة بدت خارج كل معقول.
اهتز أنصار الرئيس أو بالأحرى المستفيدون من استمرار حكمه، على وقع تلك المظاهرات العارمة وحاولوا المقاومة والإنكار في اللحظات الأولى، لكن توالي الجمعات المليونية أسقط كل آمالهم، وجعل معظمهم يقفز من سفينة بوتفليقة الغارقة.
صمد الرئيس وشقيقه السعيد حاكم الظل ومحيطه، 39 يوما تماما منذ بداية المظاهرات ضد حكمهم، لكنهم استسلموا في النهاية بعد تخلي رجل الجيش القوي الراحل أحمد قايد صالح عنهم، ما جعل كل أبواب النجاة توصد في وجوههم.
ليلة السقوط
لكن هذه الصورة العامة الظاهرة، كانت تخفي وراءها تفاصيل كثيرة مثيرة لما كان يعتمل داخل القصر الرئاسي، قبل لحظة النهاية التي ظهر فيها بوتفليقة لآخر مرة على التلفزيون العمومي يوم 2 نيسان/أبريل، وهو يقدم استقالته.
وفيما يرويه حول الساعات الأخيرة للرئيس السابق، قال إبراهيم نوفل الميلي، إن المكالمة التي جمعت الفريق الراحل أحمد قايد صالح، بالرئيس السابق اليامين زروال، يوم 30 آذار/مارس، هي التي جعلت قائد الجيش يقتنع بضرورة رحيل بوتفليقة في أسرع وقت.
وفي حديث خاص لـ"عربي21"، قال الميلي وهو مؤلف كتاب "القصة السرية لسقوط بوتفليقة"، إن هذه المكالمة هي التي جعلت قايد صالح، يمتلك كل الأدلة حول وجود مؤامرة يحيكها شقيق الرئيس السعيد بوتفليقة، تقضي بتعيين رئيس أركان جديد للجيش.
وأضاف الميلي الذي يُنتظر أن يصدر كتابه بعد أيام: "كان الوضع ينذر بالانفجار. لكن قايد صالح لم يكن يريد أن يعطي الانطباع بأن هناك انقلابا. لذلك، أخذ كامل الوقت، ليرسم سيناريو رحيل الرئيس المريض، ثم التكفل بعد ذلك بشقيقه السعيد".
وتابع المتحدث: "في آخر مساء يوم 2 أبريل، وصل إلى زرالدة الإقامة الطبية لبوتفليقة، كل من رئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز ورئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح ورئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح. بدا حينها أن بوتفليقة اقتنع بأن استقالته هي المخرج الأقل إهانة لشخصه.
لكن تقرر عدم نقل الاستقالة على المباشر، لاعتقاد أصحاب القرار أن الرجل تميز بالحيلة طيلة مساره السياسي، ما يجعل الثقة غائبة فيما سيقول للجزائريين".
وواصل الميلي وهو أستاذ في العلوم السياسية بجامعات باريس، روايته قائلا: "بعض التفاصيل فرضت نفسها عند إعلان الاستقالة، فالرئيس بوتفليقة لا يستطيع ارتداء بذلة ما جعله يلبس قندورة وهي عباءة تقليدية، كما أنه لم يكن ممكنا تصويره في القاعة الكبرى بالإقامة، فتم اختيار قاعة صغيرة مع ديكور بسيط.
والملاحظ كذلك، أنه تخلى عن الكرسي المتحرك الفاخر الذي كان يتنقل به وجلس على كرسي بسيط من الذين يستعملون في المستشفيات العمومية.. كانت تلك لحظات النهاية التي بدا فيها الأخوان عبد العزيز والسعيد مستسلمين تماما، لا يملكان من أمرهما أي خيار آخر سوى ما كان".
ظروف بوتفليقة اليوم
بعد أن استقال، اختفى عبد العزيز بوتفليقة، تماما من حياة الجزائريين الذين كانوا يضبطون نقاشاتهم في الماضي على ظهوره وغيابه، وتحول الحديث عنه اليوم إلى نوع من الفضول لمعرفة وضعه الجديد.
وتدور روايات كثيرة عن الرئيس الجديد، بين من يقول إنه لا يزال في إقامته الرئاسية في زرالدة محاطا بالرعاية الطبية، ومن يتحدث عن خروجه منها ومن يذهب إلى أنه غادر الجزائر أصلا، ومن يشير إلى أن وضعه الصحي زاد تدهورا ومن يعتقد بأنه واع بما حوله ويتابع كل شيء.
ويذكر الصحفي بوعلام غمراسة الذي كتب قبل مدة عن ظروف إقامة بوتفليقة بعد رحيله عن الحكم، أن المعلومة الأقرب إلى الصحة هي أن الرئيس السابق يوجد في إقامة والدته المتوفاة بالأبيار في أعالي العاصمة.
اقرأ أيضا : في ذكرى تنحيه الأولى.. بوتفليقه يقضي العزلة مع شخص واحد
وأوضح غمراسة في تصريح لـ"عربي21"، أن بوتفليقة محاط برعاية طبية خاصة تحت أعين شقيقته زهور، وهو عكس ما يقال عنه غير مُغيّب عن الواقع، رغم ظروفه الصحية الصعبة وتقدمه في السن، ويهتم بشكل خاص بوضع شقيقه الأصغر السعيد الموجود بالسجن العسكري في البليدة.
ويعتقد غمراسة أن وضع بوتفليقة الصحي، لا يعفيه من إمكانية أن يتابع قضائيا في ظل قضايا الفساد الكثيرة التي تفجرت بخصوص تمويل حملته الانتخابية الأخيرة أو قضايا تسيير المال العام وغير ذلك، إذ لا يعقل بحسبه أن يتحمل رجال بوتفليقة المسؤولية كاملة، بينما يُعفى منها تماما رغم أن الصلاحيات كانت كلها متركزة في يده.
رحيل بوتفليقة ومعادلة التغيير
غير أن محاكمة بوتفليقة ووضعه الصحي ومكان إقامته، لا تبدو أشياء ذات أولوية اليوم، بالنسبة لمن خرجوا قبل سنة من اليوم للإطاحة به، إذ لا يزال الحراك الشعبي المستمر بعد بوتفليقة متمسكا بمطالبه في تغيير النظام.
ويذهب البعض للاعتقاد حتى أن ممارسات بوتفليقة لا تزال نفسها مستمرة اليوم، ولكن بوجوه أخرى جديدة فقط، لأن النظام الذي جلب بوتفليقة للحكم سنة 1999، هو نفسه المتحكم اليوم، دون أن يتغير الشيء الكثير.
ويشير حسني عبيدي، مدير مركز الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والمتوسط في جنيف، إلى أن تغيير بوتفليقة يتجاوز تغيير مجرد شخص، وإنما نمط معين في الحكم من الصعب استنساخه حاليا، لأن الحراك الذي أجبر الجيش، بحسبه، على التضحية ببوتفليقة لن يصمت أمام أي محاولة لإعادة إنتاج نظام سياسي لنفس المرجعية السابقة.
لكن الباحث الجزائري، يعتقد في الوقت ذاته، أن تغيير نظام سياسي شخصنه بوتفليقة إلى أبعد الحدود لا يعني نهاية الحكم السلطوي، ذلك أن التغيير يمر بمراحل متعددة، بحسبه، وتنحية بوتفليقة ما هي سوى نهاية مرحلة وليس نهاية السيستام (منظومة الحكم).
وبالعودة إلى ظروف تنحي بوتفليقة، قال عبيدي إن التضحية بالرجل لم تكن رغبة في الدخول في مرحلة انتقالية بقدر ما كان الهدف منها التخلص من رئيس أصبح عالة على النظام الحاكم وخطرا على توازن القوى على هرم السلطة.
ويرى الباحث، أن بوتفليقة عمل على تغيير معادلة السلطة من خلال أربعة عوامل أساسية، هي إضعاف المؤسسة الأمنية، والتقرب من قيادة الأركان، وخلق قطب مالي مواز يتحكم في شؤون الاقتصاد، والاستعمال المفرط للريع النفطي لشراء السلم الاجتماعي ونجاحه في الحصول على استحسان دولي.
أحكام قضائية مثيرة بالجزائر.. هل تستغل السلطات أزمة كورونا؟
محللون يقرأون لـ"عربي21" أثر كورونا على اقتصاد الجزائر
الحراك في زمن كورونا.. هل سيواصل الجزائريون التظاهر؟