قال قائل: إنكم تشغلون أنفسكم بالبحث عن تفسيرات
دينية، بينما العلماء عاكفون في المختبرات يبحثون عن لقاح ينفعون به البشرية!
قلت له: إن الباحثين المختصين يعدون بمئات الألوف
على أبعد تقدير، وهم من كل الأمم وبينهم مسلمون، أما المليارات المتبقية من غير
المختصين فلا يستطيع أحدهم أن يسهم في هذا الميدان التقني سواءً كان مؤمناً أو
ملحداً، ويبقى من الفطنة في حق أكثر الناس أن يتفكروا في الأحداث ويأخذوا العبرة
منها. إن التفكر في المعنى الروحي ليس نقيضاً أو منافساً للبحث
العلمي.
المعنى الروحي للأحداث الطبيعية ليس نظريات لاهوتيةً
معقدةً، بل هي العبرة الظاهرة التي يتفطن لها أي أحد، فالقول إن الفيروس أظهر
هشاشة الإنسان وحدود قوته وعجزه الأصيل وما يستدعي ذلك من دعوته إلى التواضع وكسر
كبره، أو القول إن الفيروس أرى الإنسانَ العاقبة السيئة لإفساده في الأرض، وإخلاله
بتوازن
الطبيعة والإسراف في قطع الأشجار والإضرار بغلاف الأرض بسبب جشع ربح
التصنيع وانبعاث الغازات، وأرى الإنسان عاقبة ظلمه في إنفاق المليارات على صناعة
الأسلحة وتكديسها في مقابل إهمال الإنفاق على الصحة والتعليم.. إن مثل هذه الدروس
الأخلاقية التي تنطق بها الأحداث الطبيعية هي عين التفكر الروحي.
لا يسع المؤمن أن يتجاوز المعنى الروحي في الأحداث
الطبيعية، إذ إننا لا نتحدث عن بضع
آيات من القرآن يمكن حملها على وجه مختلف من
الفهم، بل نتحدث عن توجه راسخ لا يمكن لمن اتخذ القرآن مرجعاً في حياته الإفلات من
قوة حضوره، ربما ألف آية أو ألفان من أصل 6236 آية في القرآن الكريم. النسبة
الدقيقة تحتاج جهداً إحصائياً وتأملياً لكن المؤشر العام واضح، وتفصل الحديث في
الظواهر الطبيعية وتقلبات الحياة وابتلاء الإنسان بالخير والشر والسراء والضراء،
فأين نذهب بكل هذه الآيات البينات!
مرجع الالتباس أن أكثر الناس يظنون أن هناك شيئين
مختلفين، أحدهما
الدين أو الله، والآخر العلم أو الطبيعة، فإذا ذكر الله ظنوا أن
ذلك يهدد أسس المنهج العلمي والتفكير العقلاني، فإما عبروا عن ضجرهم صراحةً وإما
شعروا بالتناقض في خفايا نفوسهم، واضطروا لتلفيق صيغ غير متجانسة تجمع بين التدين
الذي نشأوا عليه وبين مقتضيات المنهج العلمي. وللإنصاف فإن المتدينين يتحملون
نصيباً في تذكية هذا الصراع والانقسام الضميري، فالخطاب
الديني الشائع يقوم على
تعزيز مساحة أسطرة الدين ولا عقلانيته، عبر التركيز على قصص المعجزات والكرامات، وفي
مقابل ذلك شح الخطاب من الحديث العقلاني السنني الحاضر بقوة في القرآن، والذي يدلل
على وجود الله من خلال قوانين الطبيعة ذاتها وليس من خلال خرقها.
وللتوضيح بالمثال، فلك أن تتخيل قصتين، إحداهما عن
أسد في الغابة تكلم ونطق باسم الجلالة "الله"، والقصة الأخرى عن حياة
الجنين في بطن الأم، أي القصتين ستلقى رواجاً وتجذب اهتمام عامة المسلمين أكثر؟ مع
أن القرآن يركز على نمط القصة الثانية في التدليل على الله ويكاد يكون خلواً من
نمط القصة الأولى.
الناس مولعون بالغرائب لأن الإلف يطفئ الدهشة، وقد
تخفى الحقائق عن الناس ليس بسبب نقص الدليل عليها، بل بسبب قوة وضوح الدليل وإحاطته
من كل جانب مثل الهواء، فيقود إلفه إلى بلادة التفاعل معه: "طال عليهم الأمد
فقست قلوبهم"، لذلك فإن المؤمن يرى الله في كل شيء لأن بصيرته الباطنية قد
تفتحت، والملحد لا يرى الله في شيء لأنه أطفأ بصيرته الروحية، وهذه المسألة لن
تحسم لأنها ليست قضية معرفة نظرية وتجربة مادية وحسب، بل إنها تابعة لإرادة
التسليم أو إرادة العناد الخفية في ذات الصدور.
من المعاني البينة في القرآن أن الله تعالى يحاسب
الناس على ذنوبهم في الدنيا: "فكلاً أخذنا بذنبه".. "بما كسبت أيدي
الناس"، لكن ما هو معنى الذنب؟
من أكثر المفكرين الذين حاولوا في العصر الحالي
تأسيس عقل ديني سنني المفكر السوري جودت سعيد، والمقصود بالعقل السنني هو العقل
الذي يؤمن بأن الدين يعمل من خلال قوانين (سنن)، وأننا نستطيع فهم سنن الله في
الإنسان والمجتمع بذات الأدوات التي نفهم بها قوانين الرياضيات. يعرف جودت سعيد
الذنب بأنه مخالفة سنن الله في الكون، والإنسان يؤاخذ بذنبه من خلال هذه القوانين
ذاتها، فإذا وضع الإنسان يده في النار فقد خالف سنة الله في الكون وسيجد عاقبة ذلك
في احتراق يده.
إن كل ظلم وطغيان وإفساد وإسراف هو ذنب، فإذا أسرف
الإنسان في استخراج الوقود الأحفوري فقد اقترف ذنباً: "إن الله لا يحب
المسرفين". وعاقبة هذا الذنب أن تنطلق الغازات الحبيسة فينشأ الاحتباس
الحراري الذي يؤدي إلى اضطراب المناخ وكثرة الحرائق والفيضانات وانقراض الكائنات
الحية.
وإذا أقام الإنسان الاقتصاد على أساس الربح دون
اهتمام بالمسؤولية الإنسانية، وإذا أنفق المليارات في صناعة الأسلحة وتكديسها وأهمل
التعليم والصحة، وإذا أغدق على المطربين ولاعبي الكرة بينما أمسك في الإنفاق على
البحث العلمي النافع للإنسان، فهذه ذنوب تخالف ميزان العدل ويجد الإنسان عاقبتها:
"ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها".
تقول آلانا شيخ، المختصة في الأنظمة الصحية، والتي
عملت في مجال الصحة العالمية وألفت كتاباً عن التهديدات الكبرى للصحة العالمية
التي تواجه كوكبنا، في حديث قريب لها عبر منصة TEDX:
"
كورونا
ليس الوباء الأخير، وستكون هناك أوبئة قادمة، هذه الأوبئة هي نتيجة الطريقة التي
يتعامل فيها الكائن الإنساني مع الكوكب. التغير المناخي ودفء الكوكب جعل العالم
مكاناً ملائماً للفيروسات والبكتيريا، وهي أيضاً نتيجة لتعامل الإنسان مع الغابات..
اقتلاع وحرق أشجار الغابات من أجل الحصول على أراض رخيصة للرعي، القضاء على
المساحات البرية في كوكبنا، اصطياد الحيوانات البرية في الصين حتى انقراضها.. هذه
الأفعال جعلت البشر في تماس مع تجمعات حيوانية برية لم نكن في تماس معها من قبل، وهذه
التجمعات تملك أنواعاً جديدةً من الأمراض.. جراثيم وفيروسات وأشياء أخرى لسنا
مستعدين لمواجهتها".
هذا هو الإفساد الطبيعي للإنسان، أما الإفساد
الاقتصادي فمن أمثلته أن نفقات المؤسسة العسكرية الأمريكية السنوية تقرب من
تريليون دولار تقريباً وفق الموازنة الأمريكية.
في مقابل هذا الإنفاق السخي على أدوات الموت، يعيش
ثلاثون مليون أمريكي في الدولة الأغنى في العالم دون تأمين صحي، وفق بيرني ساندرز
زعيم التيار الاشتراكي في الحزب الديمقراطي. أما في مدينة نيويورك، عاصمة الاقتصاد
العالمي، فإن الأطباء فيها يشكون من نفاد المستلزمات الطبية والنقص في معدات
الحماية للعمال في الرعاية الطبية، في الخطوط الأمامية للمرض. ويحذر عمدة مدينة
نيويورك بيل دي بلاسيو بأنه "إذا لم نحصل على أجهزة تنفس صناعي فإن الناس سوف
يموتون".
أما في إسبانيا، فقد صرخت عجوز من الفزع بعد أن قرر
الذي يعالجها نزع أجهزة التنفس عن زوجها ليمنحوها لمصاب أصغر منه سناً، وهو سلوك
متسق مع المنظومة القيمية التي ترى الإنسان آلة إنتاج تقاس أهميته بمدى كفاءة
إنتاجه، فإذا انتهى دوره الإنتاجي تلاشت قيمته الإنسانية، وهو مبدأ يناقض معنى
الرحمة الديني الذي يولي الإنسان في هرمه وضعفه اهتماماً أكبر.
هذه الأزمات تجلي الاختلال البنيوي المستتر في
النظام العالمي وتمنحنا لحظةً تاريخيةً لإعادة مراجعة المنظومة التي قادتنا إلى
هذه النتائج: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم
يرجعون".
بهذا المنهج يجتمع الطبيعي والأخلاقي، المادي والإلهي
في نسيج واحد.
هناك سؤال يثار رداً على وصف الكوارث الطبيعية بأنها
عقاب أو تأديب أو غضب من الله، وأن ذلك يتنافى مع العدل، لأن هذه الكوارث عامة
بينما هناك أناس أبرياء لا يتحملون مسؤولية الظلم والإفساد!
والإجابة أن هناك قوانين في المستوى الفردي، وقوانين
في المستوى الجماعي. القوانين في المستوى الجماعي لا يشترط فيها أن يشترك كل فرد
في الفعل، بل إن شرط حدوث النتيجة هو تشكل الشخصية الغالبة للمجموع، مثل أن فرص
المولود في السويد في الضمان الاجتماعي أفضل من فرص المولود في الوطن العربي، مع
أن المولود ليس له ذنب، لكن هذا الواقع تصنعه التجربة الجمعية التراكمية للأمم
فيشقى الأفراد أو يسعدوا بذلك، أما الحساب الفردي الخالص فهو يوم القيامة: "وكلهم
آتيه يوم القيامة فردا"، لذلك قال القرآن: "واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين
ظلموا منكم خاصةً"، فالفتنة إذا عمت أصابت الظالم والبريء.
أما تشبيه ذلك بالعقاب الجماعي فهو يغفل حقيقةً
أساسية، وهي أن الله هو واهب الحياة ابتداءً وكل النعم بعد ذلك مثل الصحة والعافية
والمال، فإذا سلب شيئاً من ذلك من بعض الناس اختباراً لهم لم يكن ذلك ظلماً.
فالظلم أن ينزع من الإنسان حياته من لم يعطه إياها ابتداءً، مثل قتل الناس بعضهم
بعضاً. وقد أودع الله في هذه الأرض بذور الفناء لذلك لم يكتب لنبي أو صالح أن تخلو
حياته من الحزن والمرض والموت. والناس صالحهم ومجرمهم يتشابهون في جري أقدار
الدنيا عليهم، كي يتعاونوا فيما بينهم ويشعروا بالمسؤولية المشتركة عن إصلاح الأرض
ويأخذ بعضهم على يد بعض ليمنعه من إفسادها، لكنهم يتمايزون يوم الحساب الفردي.